✍️ بقلم أ.د. أحمد محمد زايد(*)
💦العناية بالإنسان في التشريعات الإسلامية:
استكمالا لإبراز مظاهر الإحكام التشريعي والإعجاز الإلهي في التشريعات الإسلامية، وأثر ذلك في بناء المجتمع الإسلامي صاحب الرسالة، المثالي في سلوكه وحركته نقف في مقالنا هذا مع قضية محورية هي عناية التشريع بالإنسان في كافة جوانب شخصيته، والسبب في هذه العناية أن الإنسان هو العامل الأول في الفعل الحضاري والعمراني، لذا قالوا بضرورة العناية بالإنسان قبل البنيان. قال تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}. وفيما يلي بعض مظاهر التشريعات الإسلامية في العناية بالإنسان المسلم.
1️⃣ إبعاد المسلم عن مواطن المِنَّة عليه:
يحافظ الإسلام في تشريعاته على كرامة المرء وعزة نفسه فلا يرضى له أن يوضع في مواضع يكون لغيره عليه فيها مِنَّة، نلمس ذلك في صور تشريعية في أبواب فقهية عديدة، منها على سبيل المثال قول الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في وجه فقهي معتبر بعدم لزوم المرء قبول بذل الماء من الغير في الطهارة بغير عوض؛ لأن عليه منة في قبول الماء. (البيان في شرح المهذب للعمراني: 1/292). وقالوا: لو ادعى رجل على رجل دينا، فقال له رجل: أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه عليه، ولا تخاصمه، لم يلزمه قبوله؟ علل ذلك ابن الصباغ: بأن عليه منة في قبول الدين من غير من هو عليه. (البيان: 7/176). وفي باب الجهاد نجد العمراني يقول قال الشيخ أبو حامد: إن كان العدو منه على مسافة لا تقصر إليها الصلاة.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق، ولا يعتبر فيه وجود الراحلة. وإن كان بينه وبين العدو مسافة تقصر إليها.. فلا يجب عليه الجهاد حتى يجد نفقة الطريق والراحلة فاضلا عن قوت عياله؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}. وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْه}. فإن كان معسرا، فبذل له الإمام ما يحتاج إليه من ذلك.. وجب عليه قبوله ووجب عليه الجهاد؛ لأن ما بذله له.. حق له. وإن بذل له ذلك غير الإمام.. لم يجب عليه قبوله؛ لأن عليه منة في ذلك.
وهكذا نجد عشرات المسائل الفقهية تعليلها فقط هو دفع المنة على المسلم، كي يتحرر من سلطان غيره عليه المشعر له بأي نوع من أنواع الانتقاص.
وأصل ذلك حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: «وايم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن يكون مهاجرا قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا» (رواه أبو داود). جاء في عون المعبود في التعليق على الحديث: قال التوربشتي رحمه الله: “كره قبول الهدية ممن كان الباعث له عليها طلب الاستكثار، وإنما خص المذكورين فيه بهذه الفضيلة لما عرف فيهم من سخاوة النفس وعلو الهمة وقطع النظر عن الأعواض” انتهى.
وهكذا تُخرج التشريعات الإسلامية إنسانا محفوظ الكرامة يعطي ولا يأخذ، ولا يقبل الدنية في أي شأن من شئون حياته، فاليد العليا خير من اليد السلفي.
2️⃣ بناء الاستقامة النفسية:
تعمل التشريعات الإسلامية بجانب الوعظ والتذكير على بناء الاستقامة النفسية للفرد المسلم ليكون مستقيم السلوك، فلا تكتفي الشريعة بالوعظ المجرد في بناء نفسية المسلم وإنما تضبط سلوكه بأحكام تمثل تدريبا عمليا على تلك الاستقامة، وفي هذا السياق التربوي نرى جملة من الأحكام منها:
معاملته بنقيض قصده الفاسد، بحيث تقاوم في نفسيته التوجهات الفاسدة من جشع وتوسل بغير المشروع للوصول لشيء مشروع، وهذه سياسة تربوية في قمع بعض النفوس التي تستعمل الحيل الممنوعة فترتكب بها ما لا يحل، وأمثلتها كثيرة ومنها: “الفارُّ من الزكاة قبل تمام الحول بتنقيص النصاب أو إخراجه عن ملكه، إذا تجب فيه الزكاة. ومنها: لو صرف أكثر أمواله في ملك لا زكاة فيه كالعقار والحلي، عند من يقول بعدم الزكاة فيه، فهل ينزل منزلة الفارّ من الزكاة؟ وجهان عند الحنابلة والمالكية.
ومنها الغال من الغنيمة يحرم أسهمه منها، على قول.
ومنها من تزوج امرأة في عدتها من غيره حرمت عليه على التأبيد على رواية.
ومنها: من تزوجت بعبدها فإنه يحرم عليها على التأييد، كما روى عن عمر. ومنها: من ثبت عليه الرشوة لغرض ما فهو يحرم منه عقوبة له.
ومنها: السكران يشرب الخمر عمداً، يجعل كالصاحي في أقواله وأفعاله فيما عليه” (الوجيز في إيضاح القواعد الفقهية للبورنو: 161).
وهكذا تقمع الشريعة بعض النفوس المملوءة بالشر الطامعة في حقوق الآخرين المتحايلة على الشرع، فاقتضت العناية التربوية بها أن نعظها لكن لا نتوقف عند مجرد الوعظ، وإنما تشرع لها الأحكام الضابطة المربية الحاملة لها على الاستقامة النفسية، ومتى تحققت تلك الاستقامة غدا هذا الإنسان صالحا لحمل الرسالة الإسلامية إلى العالمين.
3️⃣ قرن التشريعات بالأخلاق لبناء الإنسان الأخلاقي:
ليست التشريعات الإسلامية قوانين جامدة خالية من المعاني الروحية والأخلاقية، وإنما هي قوانين تعالج كافة جوانب الحياة الإسلامية وبخاصة الروحية والأخلاقية، مثال ذلك عقد البيع حيث يجب الإفصاح عن العيوب في المبيع وإلا أُعطي الحقُ للمشتري في فسخ العقد، ومتى وقع ذلك الكتمان للبيوع ارتفعت البركة الإلهية، قال ابن قدامة رحمه الله في “المغني” (4/108): “من علم بسلعته عيبا لم يجز بيعها حتى يبينه للمشتري، فإن لم يبينه فهو آثم عاص، نص عليه أحمد: لما روى حكيم بن حزام عن النبيﷺ أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما، وإن كذبا وكتما محق بركة بيعهما» (متفق عليه). وقال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا إلا بينه له» انتهى. ورصد ظاهرة اقتران الأخلاقيات بالتشريعات الإسلامية أمر يطول وتكفي الإشارة ليُعلم بها ما لم نشر إليه. وبالله التوفيق.
(*) أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعتي الأزهر الشريف وقطر.