أ.د.فؤاد البنا
من المعلوم أن مصطلح الدين يتضمن نصوص الوحي المعصوم، أما التدين فهو كسب بشري نسبي، ويتضمن ثلاثة أمور:
الأول: ما فهمه المسلمون من تفاعلهم مع النصوص الظنية الدلالة، وهي الأكثر حينما نقارنها بالنصوص القطعية الدلالة، وقد كان الإمام مالك في تعامله مع هذه النصوص يبذل جهودا جبارة من أجل فهم مراد الشارع، لكنه لا يجزم أبدا بأنه قد وصل إلى مراد الله على وجه اليقين، وكان شعاره الذي يختم به فتاواه هو قوله تعالى: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين}.
الثاني: طرائق تنزيل النصوص وتطبيقها على الواقع؛ فإن هذا الأمر لا يختلف باختلاف العلماء فقط، وإنما يختلف عند العالم نفسه من زمن إلى آخر ومن مكان إلى مكان بل ومن شخص إلى آخر، وعلى سبيل المثال فقد اشتهر عن حبر هذه الأمة عبدالله بن عباس أنه كان يرى قبول توبة القاتل، فجاءه أحدهم يوما يسأل عن توبة القاتل فأجابه بأن القاتل لا توبة له وأنه خالد مخلد في النار، وحينما ولّى الرجل أبدى له تلاميذه استغرابهم من مخالفته في فتواه هذه لما درج عليه دوما من القول بأن للقاتل توبة، فأوضح لهم بأنه توسم في هذا الرجل غضبا شديدا من شخص وأنه يفكر بقتله لكنه يخاف من النار، فأراد أن يعرف إن كان للقاتل من توبة حتى يقوم بقتل من أغضبه ثم يتوب، وبهذه الفتوى فقد أغلق عليه باب القتل!
الثالث: ما اجتهد فيه العلماء مما ليس فيه نصوص، استنادا إلى مصادر مختلف حولها، مثل الأعراف والعوائد الاجتماعية، والنسبية البشرية بارزة في هذا الجانب ولا تحتاج إلى إيضاح .
تثبيت المتغيرات:
من خصائص الإسلام جمعه المتسق بين الثوابت والمتغيرات، وإذا كانت الثوابت هي التي تحفظ للدين خلوده إلى قيام الساعة وتحافظ على وحدة الأمة بمختلف تياراتها ومذاهبها وفرقها وقومياتها؛ فإن المتغيرات هي التي تستوعب عالمية الإسلام وتجسد غايته الأساسية في تحقيق المصالح للناس ودرء المفاسد عنهم في المعاش والمعاد على الوجه الأمثل.
غير أن خارطة الثوابت والمتغيرات لا تبدو واضحة عند كثير من المسلمين، حيث يندفعون مع مرور الأيام إلى ثبيت ما هو متغير.
وأهم أسباب هذه الظاهرة هي:
١- ابتعادهم عن منهج تدبر القرآن الكريم، واتجاه طاقة أغلب المهتمين بالقرآن بالحفظ على حساب الفهم، ومن لم يتدبروا القرآن سيقعون في أخطاء وربما خطايا كبيرة، كما فعل الخوارج بصورة صارخة حينما كفّروا مسلمين بل كفّروا صحابة بسبب سوء الفهم، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن منبع الخلل عند الخوارج هو أنهم حينما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ولم تغنِ عنهم كثرة تلاوتهم للقرآن شيئا بل تحولت كثرة التلاوة بدون منهج التدبر من مزية إلى رزية!
٢ – إصابتهم بعلل التدين التي أصابت أهل الكتاب، ومنها الميل إلى تقديس علمائهم في الواقع العملي وإن رددوا نظريا مقولة “كل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم”، ومن ثم فإن أتباع المذاهب الفقهية والتيارات الفكرية والفرق الكلامية والطرق الصوفية يجمدون على أقوال علمائهم ويتعبدون الله بالعضّ عليها بالنواجذ وكأنها دين تنزّل من السماء!
٣- الخوف على الإسلام من التحريف والتعطيل، ولا سيما حينما تشتد الهجمة عليه من قبل أعدائه وأذيالهم من أدعياء الإسلام، ويظهر هذا الخوف لدى تيارات عريضة من الدعاة والصالحين الذين تتوافر لدى كثير منهم عواطف جياشة نحو الإسلام، لكنهم يعانون من أمية فكرية في فهمه؛ إذ لا يعرفون مقاصده ولا يفقهون تعاليمه، ويخلطون بين الدين الإلهي والتدين البشري، ومن ثم يتحول ما يظنونه استمساكا بالدين إلى تعصب للرجال والمذاهب والتيارات والجماعات، ويهتمون بالأشكال على حساب المضامين وبالطقوس أكثر من المقاصد!
٤ – الخلط الشديد بين الأعراف والعوائد الاجتماعية الموروثة عن الآباء والأجداد وبين الدين المتنزل من السماء. ولقد مرت على المسلمين عصور من الجهل الفاضح تسيدت فيها التقاليد الاجتماعية وقام القائمون عليها بإعطائها لباسا إسلاميا أقرب إلى القناع الذي يخفي تحته عاهات وآفات، ومع مرور فترات طويلة من الزمن ترسخت تلك التقاليد في مواجيد كثير من المسلمين وتأصّلت في عقولهم، واستوطنت حياتهم حتى ظنها كثير من المتدينين دينا يدافعون عنه بكل قوة وإخلاص!
تجديد الإسلام:
من المعلوم أنه لا يوجد جيل مثل الصحابة الكرام الذين تنزل القرآن عليهم خلال ٢٣ عاما بحسب الوقائع والأحداث، فأحسنوا فهمه وتنزيله وتطبيقه في واقعهم، ولا سيما وقد تنزل القرآن بلغتهم الفصحى التي كان يتقنها جميعهم، ورباهم النبي صلى الله عليه وسلم على عينه فأحسن تربيتهم.
وقد بدأ منذ عهد التابعين يظهر أناس يخلطون بين الدين الإلهي والتدين البشري، ومن العجيب أن الخليفة الراشدي الخامس عمر بن عبد العزيز حينما استلم مقاليد الحكم والتوجيه عانى من هذه المعضلة حتى يروى أنه قال: “إني أعالج أمراً لا يُعين عليه إلا الله، قَدْ فَنِيَ عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجميّ، وهاجر عليه الأعرابيّ، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحقّ غيره”!
ومن المعروف أن عمر ظهر في عصر التابعين ومع ذلك فقد واجه هذه المعضلة، وظل يجاهد الأفهام المغلوطة ويكابد المعارضات والعداوات الناتجة عن جهوده من أجل تخليص المصابين من أكدار التدين الموروث وإعادتهم إلى صفاء الدين الإلهي المتنزل على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأحدثت جهوده صحوة عريضة في أوساط المسلمين حتى عده أغلب العلماء مجدد القرن الهجري الأول، لكن مكابدة عمر لهذه الآفة في فترة مبكرة من عمر الأمة وفي وقت لم يبتعد كثيرا عن زمن تنزل القرآن ومبعث الرسول الخاتم، يبين لنا خطورة هذه الآفة ويشير إلى أن الأمة ورثت ركاماً ضخما من التراث البشري الذي تصر أعداد من أصحاب التدين المنقوص على أنه دين يجب أن نتعبد الله به، ولا سيما أن جزءً مقدراً منه ظهر في عصور الضياء والتفوق الحضاري.
منحة التجديد الدوري:
ولأن الله تعالى أعلم بمن خلق، فقد كانت إحدى المنح التي أعطاها لهذا الدين الخاتم، متصلة بمعالجة هذه الآفة الخطيرة، وهي منحة التجديد الدوري، فقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.
ونلاحظ أن الحديث الشريف أضاف الدين إلى الأمة حينما قال: “دينها” ولم يقل الدين أو الإسلام، وكأنه يشير إلى ما أحدثه المسلمون في فهمهم لقيم الدين وتنزيلهم لنصوصه وتطبيقهم لتعاليمه، وهو ما نقصده باستخدامنا لمصطلح التدين، أي منهج الانفعال بالدين في العقول والقلوب وطرائق تنزيله وتطبيقه في واقع الحياة، وما يعلق بهذه الأفهام والممارسات من طبائع النقصان والقصور البشري، وما يكدر صفاءه من الطبائع التي تختلج في النفوس والأحوال التي تعتمل في الواقع، والتقاليد التي تتبع في السلوك الاجتماعي، وكيف جعلوا من ذلك كله دينا لهم ويريدون إلزام غيرهم به لاعتقادهم أنه دين لا يسع أي مسلم مخالفته!
ولأن الله كتب لهذا الدين الخاتمية والخلود فقد تكفل له بحفظ مصدره الأساسي وهو القرآن حينما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ومن ثم فإن ثوابت هذا الدين التي تنضوي تحت مسمى الدين تظل محفوظة من التغيير والتحريف، سواء في الدائرة النظرية التي تمثلها العقيدة أو الدائرة العملية التي تمثلها الشريعة.
وتتضمن رسالة المجدد القرني مهمتين أساسيتين، وهما تنقية فكر المسلمين على ضوء العقيدة المعصومة، وغربلة الفقه في ضوء الشريعة المحفوظة، بما يعني تخليص متغيرات التدين مما علق بها من أكدار الطبائع والممارسات البشرية، بحيث يتم تقريب التدين من الدين بقدر الإمكان.
وهذا لا يتحقق إلا بتطويع الفروع للأصول وإخضاع الجزئيات للكليات، وضبط فهم الظنيات بما لا يتصادم مع القطعيات، وانتقاء أرقى الوسائل والأساليب لتحقيق المقاصد بأعلى درجة ممكنة من الكفاءة، مع الإيمان في هذا المجال بالذات بأن الأفضل لم يأت بعد، وبأن في الإمكان أحسن مما كان؛ ذلك أن تراكم التجارب والخبرات البشرية وتطور العلوم المادية والإنسانية تسير في خطها العام بطريقة تصاعدية.
ومن ثم فإن المجتهدين عموما والمجددين خصوصا منوط بهم تطوير الوسائل والأساليب والآليات التي تكفل للمسلم فهم كليات دينه في ضوء حقائق عصره وبما يكفل تطبيق تعاليم إسلامه على أفضل وجه ممكن، بشمولها الذي يتسع للحياة كلها، وبما يجعل إسعاد الإنسان واستعمار الأرض والقيام بمهام الخلافة عن الله، عناوين للعبادة الكونية العريضة وللشهود الحضاري على الناس، وبحيث تكون الشعائر التعبدية أزوادا روحية ونفسية تزيد من فاعلية المؤمن في صناعة الحياة.