من المسائل التي تطرحها أزمات فيروس كورونا ونوازله الفقهية -وما أكثرها-: أنه نتيجة التزام الناس بيوتهم هناك من ليس له دخل شهري، ولا غير شهري، وإنما يعمل كل يوم بيومه، وهناك مؤسسات ومصالح عامة ستتأثر كثيرا بهذا، ولا شك أنه في حالة التزام الناس بيوتهم سيكون كثير من ها بحاجة لدعم مالي، ويكون الأفراد بحاجة لإعانة معيشية وإعالة مالية، فهل يجوز لمن بلغت أموالُهم نصابا، ولهم موعد لإخراجها عند تمام الحول أن يعجلوا إخراج الزكاة عن موعدها؟ وما المدة المسموحة لهذا التعجيل؟!
تحدثت في كتابي:
نظرية الجبر في الفقه الإسلامي، دراسة تأصيلية تطبيقية – منشور في دار السلام بالقاهرة عام 2007م، وهو رسالتي للماجستير – عن حكم تأجيل الزكاة وتعجيلها، ونحن نتحدث الآن عن تعجيلها. وقد أجاز أكثر أهل العلم من الفقهاء تعجيل الزكاة بشرطين:
الأول: أن تكون قد بلغت نصابا.
والثاني: أن تكون هناك ضرورة أو حاجة لهذا التعجيل.
ولا شك أن ما يمر به العالم جراء الخسائر التي وقعت بسبب كورونا والتزام الناس بيوتهم استجابا لقرارات الجهات المختصة أوقع كثيرا من المؤسسات والأسر في الحاجة والعوز، والمجتمع يجب عليه وجوبا كفائيا أن يقوم بحاجة الفقراء والمعوزين؛ ولهذا فرضت الشريعة الإسلامية الزكاة؛ فريضة شرعية وضرورة اجتماعية. وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للعباس في تعجيل الزكاة، كما أخرجه الحاكم وصحح إسناده ووافقه الذهبي، وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام. رواه الترمذي، وحسنه الألباني. قال الترمذي: وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز تعجيل الزكاة. وفي هذين الحديثين: جوازُ تعجيل زَكاةِ المال، وما فِيه من مصلحةٍ شرعيَّة.
وقد اختلف الفقهاء في مدة التعجيل المسموحة ما بين شهر قبل موعد إخراجها كما هو مذهب المالكية، وبين سنة كما هو مذهب الشافعية، وبين سنتين كما هو مذهب الحنابلة، وذهب السادة الحنفية إلى جواز تعجيل إخراج الزكاة لسنين عديدة ولو أكثر من سنتين. وفي هذه المدد المتفاوتة ابتداء من شهر إلى أكثر من سنتين سعة ومرونة من الفقه الإسلامي لاستيعاب الجوائج والحاجات الناتجة عنها، وهذا يعبر عن عظمة الفقه الإسلامي ووتضمنه من الآراء والاجتهادات ما يحقق كفايته بحاجات الواقع ونوازله الصغيرة والكبيرة..
وبهذا تتحقق مقاصد الزكاة التشريعية في المجتمع بما لها من آثار اجتماعية تكافلية تعالج الفقر وتسد الحاجات وتمنع العوز؛ فإذا أضيف لذلك أن في المال حقا سوى الزكاة كما قرره بعض الفقهاء ليسد ما تبقى من حاجات عامة وخاصة بضوابط معروفة تبينت لنا عظمة الشريعة الإسلامية وعدالتها إذا ما وضعت بجوارها أية دساتير أو قوانين وضعية، وما كان للشريعة أن تقارن بقانون أو دستور، ولكنها العادة التي جرت في الدراسات المقارنة. وإنني أدعو المسلمين في كل مكان من أصحاب بلوغ نصاب الزكاة إلى تحسس حاجات إخوانهم: أفرادا وأسرا ومؤسسات، وأن يقوموا بهذا الواجب الرسالي في هذا الوقت العصيب والاختبار الدقيق، وأن يكونوا عونًا لإخوانهم في هذه النائبة، ولمن لم يبلغ مالهم نصابًا أن يتصدقوا بما يقدروا عليه؛ طلبًا للمثوبة من الله تعالى، وسد حاجات المجتمع.
قال تعالى: “مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ”. البقرة ٢٦١. وقال عز شأنه: “وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِیرَ ٰثُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا یَسۡتَوِی مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةࣰ مِّنَ ٱلَّذِینَ أَنفَقُوا۟ مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُوا۟ۚ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ”. الحديد ١٠. والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم.