بقلم الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات(*)
رؤية اللَّه يوم القيامة:
قال تعالى: ﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةࣱ وَوُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذِۭ بَاسِرَةࣱ تَظُنُّ أَن یُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةࣱ﴾ [القيامة ٢٥] ([1]).
المشهور- في هذه الآية- الخلا ف بين أهل السنة، والمعتزلة:
-حيث يستنبط أهل السنة منها إمكانية رؤية الناس لربهم يوم القيامة.
-على حين ينكر المعتزلة إمكانية الرؤية، جاعلين «إلى»: واحدة « الآلاء» وجاعلين « النظر» من الانتظار، فيكون المعنى على قولهم: نعمة ربها منتظرة.
ولا شك أن ما ذهبت إليه المعتزلة فيه تكلف واضح، وأن المعنى الذي أرادوه يمكن أن يفهم من التقابل الذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَوُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذِۭ بَاسِرَةࣱ تَظُنُّ أَن یُفۡعَلَ بِهَا فَاقِرَةࣱ﴾ فيكون المعنى، المقابل: ﴿وُجُوهࣱ یَوۡمَىِٕذࣲ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةࣱ﴾ فهي تنظر إلى ربها، وتنتظر منه الإنعام، كما تنتظر الوجوه البا سرة: أن يفعل بها فاقرة. وبذلك يمكن الجمع بين المعنيين، مع إثبات الرؤية في الآخرة، للمؤمنين.
وبهذا يتبين أن مراعاة السياق تفيد معنى إضافيا، لا يمكن استفادته بدونها.
طرق استدلال القرآن:
يقول العلامة الفراهي:
قد دلنا القرآن على صحة العقيدة فيما يتعلق بمعرفة الرب تعالى بطرق مختلفة متفاوتة، في درجات الدلالة، ونذكرها بالترتيب:
- الطريق الأول: وهو المعرفة من أسمائه تعالى:
وهو أبلغها وأوضحها، وأوثق ما يعتمد عليه. فإن الاسم ألزم وأقدم، وأدل على المسمى من غير لحاظ إلى ما سواه. وهذا موافق لعادة عامة – لا سيما عادة العرب- فإنهم أصح الأمم إصابة في التسمية. وإنما جعل الاسم للدلالة على المسمى، فمن عرف الشيء باسمه الصحيح، فقد عرفه.
ﭧ ﭨ ﴿قُلِ ٱدۡعُوا۟ ٱللَّهَ أَوِ ٱدۡعُوا۟ ٱلرَّحۡمَـٰنَۖ أَیࣰّا مَّا تَدۡعُوا۟ فَلَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا وَٱبۡتَغِ بَیۡنَ ذَ ٰلِكَ سَبِیلࣰا﴾ [الإسراء ١١٠] ([2])
فعلمنا أن« اللَّه» و« الرحمن» من أسمائه الخاصة، التي ندعوه بها على طريق الاسم.
وهكذا نعلم من كلام العرب، فإنهم لم يستعملوا هذين الاسمين إلا للَّه تعالى([3])
هذا ما يراه الفراهي، وكثير من العلماء السابقين »
ولكن للإمام أبي حامد الغزالي رأي آخر أفاض القول فيه في كتابه « المقصد الأسنى» حيث يقول:
« الفصل الرابع: في بيان أن كمال العبد وسعادته في التخلق بأخلاق اللَّه تعالى، والتحلي بمعاني صفاته وأسمائه، بقدر ما يتصور في حقه:
اعلم أن من لم يكن له حظ من معاني أسماء اللَّه تعالى إلا بأن يسمع لفظه، ويفهم في اللغة معنى تفسيره، ووضعه، ويعتقد بالقلب وجود معناه في اللَّه تعالى، فهو مبخوس الحظ، نازل الدرجة ليس يحسن به أن يتبجح بما ناله، فإن سماع اللفظ لا يستدعي إلا سلامة حاسة السمع التي بها تدرك الأصوات، وهذه رتبة تشارك البهيمة فيها.
– وأما فهم وضعه في اللغة: فلا يستدعي إلا معرفة العربية، وهذه رتبة يشارك فيها الأديب اللغوي، بل الغبي اللغوي البدوي.
– وأما اعتقاد ثبوت معناه للَّه سبحانه وتعالى، من غير كشف، فلا يستدعي إلا فهم معاني الألفاظ والتصديق بها. وهذه رتبة يشارك فيها العامي، بل الصبي. فإنه بعد فهم الكلام، إذا ألقي إليه هذه المعاني تلقاها وتلقنها، واعتقدها بقلبه، وصمم عليها. وهذه درجات أكثر العلماء، فضلا عن غيرهم.
-ولا ينكر فضل هؤلاء بالإضافة إلى من لم يشاركهم في هذه الدرجات الثلاث-.
ولكنه نقص ظاهر، بالإضافة إلى ذروة الكمال. فإن حسنات الأبرار: سيئات المقربين»([4]).
وهكذا نرى أبا حامد يقلل من شأن المعرفة عن طريق التسمية وحدها، ويضيف إلى ذلك طريق الكشف.
والغزالي يكاد يكون متفردا بين العلماء، الذين التفتوا إلى مقاصد الأسماء والصفات، وذلك ظاهر من عنوان كتابه:
« المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء اللَّه الحسنى »
كما هو ظاهر في آثار هذه الأسماء، وحظوظ الإنسان منها، كما يوضح ذلك أبو حامد حين يقول: بل حظوظ المقربين من معاني أسماء اللَّه تعالى ثلاثة:
–الحظ الأول: معرفة هذه المعاني على سبيل المكاشفة، والمشاهدة، حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ، وينكشف لهم اتصاف اللَّه تعالى بها انكشافا يجري في الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة، التي يدركها بمشاهدة باطنه، لا بإحساس ظاهر. وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين تقليدا والتصميم عليه، وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية.
–الحظ الثاني: من حظوظهم: استعظامهم ما ينكشف لهم من صفات الجلال، على وجه ينبعث من الاستعظام، يشوقهم إلى الاتصاف بما يمكنهم من تلك الصفات، ليقتربوا بها من الحق قربا بالصفة، لا بالمكان، فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند اللَّه تعالى.
ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها، إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة، وعشق لذلك الكمال والجلال، وحرص على التحلي بذلك الوصف- إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله- فإن لم يكن بكماله، فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة، ولا يخلو عن هذا الشوق أحد إلا لأحد أمرين:
– إما لضعف المعرفة واليقين، بكون الوصف المعلوم، من أوصاف الجلال والكمال.
– وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر، مستغرقا به، فالتلميذ إذا شاهد كمال أستاذه في العلم، انبعث شوقه إلى التشبه والاقتداء به، إلا إذا كان مملوءا بالجوع مثلا، فإن استغراق باطنه بشوق القوت ربما يمنع انبعاث شوق العلم.
ولهذا ينبغي أن يكون الناظر في صفات اللَّه تعالى خاليا بقلبه، عن إرادة ما سوى اللَّه تعالى، فإن المعرفة: بذر الشوق- ولكن مهما صادف قلبا خاليا، عن حسيكة الشهوات- فإن لم يكن خاليا لم يكن البذر منجحا.
–الحظ الثالث: السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبه يصير العبد ربانياً، أي قريباً من الرب تعالى، وبه يصير رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة، فإنهم على بساط القرب. فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم، نال شيئا من قربهم، بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الحق تعالى.
كما يظهر ذلك أيضا في التنبيهات التي أعقبها شرح كل اسم من الأسماء الحسنى، والتي تبين حظ الإنسان من هذه الأسماء والصفات([5]).
وسنرى أمثلة ذلك أثناء استعراضنا لنماذج من الأسماء والصفات.
ولابد أن نشير هنا إلى أن ما دعا إليه الغزالي من معرفة مقاصد الأسماء والصفات، عن طريق الكشف، نجد صداه عند « بديع الزمان النورسي » في عرضه لتجليات هذه الأسماء، في آيات الآفاق، والأنفس.-وسنرى ذلك في بعض النماذج لاحقاً-.
ونعود إلى استعراض بقية الطرق التي ذكرها الفراهي:
– الطريق الثاني: هو طريق الوصف بصفة، وهذا دون التسمية، فإن الشيء قد يوصف بصفة ولا يسمى بها.
صفات اللَّه تعالى
هو تعالى ذو الجلال والإكرام كما علمنا القرآن، ويذعن به العقل، فإن المدح إنما يكون بما هو جليل وجميل. ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَـٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَیۡمِنُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُ﴾ [الحشر ٢٣] ([6]) فالملك جهة الجلال، والقدوس جهة الجمال، ثم كذلك ثلاث صفات الجمال، ثم ثلاث صفات الجلال. ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿یُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ [الجمعة ١]([7]).
فالعزيز الحكيم: مثل الملك القدوس، الأول صفة الجلال، والثاني صفة الجمال. فإن القدوس جمال الخلق، والحكيم جمال العقل. ومثل ذلك: ﴿لَهُ ٱلۡمُلۡكُ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُۖ﴾ [التغابن ١]([8])
وهكذا: ﴿وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِیدُ فَعَّالࣱ لِّمَا یُرِیدُ﴾ [البروج ١٦] ([9]) ، وهكذا: ﴿لۡعَزِیزِ الغفور﴾([10]) ، وهكذا: ﴿هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾ [لقمان ٢٦]([11]) .
وهكذا: ﴿لۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ﴾ ([12]) ، وغير ذلك.
نبهنا القرآن على صفات اللَّه التي غفل عنها أكثر الناس.
فاعلم أن اللَّه تعالى جعل بعض صفاته، ومظاهره كأنها هو، فمنها:
العدل، والحق، والعدالة، حتى إنه يجعلها بدلا عن نفسه، كأنها هو، كما قال: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [آل عمران ١٤٢] ([13]).
أي لما يعلم العدالة، التي هي نائبة عنه تعالى- أنهم مجاهدون- فحكم العدالة حكمه، وعلمها علمه.
وهذا ذكر عدالته في صورة الشريعة، ثم العدالة العامة، وملكوته الوسيع مثل ذلك، تنوب عنه. كما قال: ﴿ خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ﴾ [الملك ٢]([14]).
أي: ليظهر أعمالهم في عالم الشهادة، والخلق.
ومنها: « الرحمة» و« المظلوم»، فقال: ﴿وَمَا لَكُمۡ لَا تُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمُسۡتَضۡعَفِینَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡوِلۡدَ ٰنِ ٱلَّذِینَ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَخۡرِجۡنَا مِنۡ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلظَّالِمِ أَهۡلُهَا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِیࣰّا وَٱجۡعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِیرًا﴾ [النساء ٧٥]([15])
فجعل المستضعفين بدلا عن نفسه، كناية عن كون نصرتهم نصرة اللَّه تعالى.
ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَیَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ﴾ [الحج ٤٠] ([16])
أي: من ينصر الضعفاء والعدل والسلم فإن اللَّه تعالى هو الناصر، ولا ينصره أحد([17])…
– والطريق الثالث: هو نسبة الأفعال، وهذا دون الأولين، فإن بعض الأفعال ينسب إلى شيء على طريق المجاز. وللمجاز أبواب كثيرة، وهذه المدارج قد ذكرناها ببعض البسط، في كتاب «أصول التأويل». فلا نعيده. والعاقل تكفيه الإشارة([18]).
– والطريق الرابع: ما يدل عليه نظم القرآن. وهذا لطيف جدا، ولكنه طريق واضح بيّن عند أهل الفكر والتدبر. فإن الكلمة إذا وضعت في جنب كلمة أخرى، أو ضم كلام مع كلام آخر، دل على أمور جمة، كما ستعلم في ذكر الأمثلة، وتفصيل ذلك في كتاب «دلائل النظام».
فهذه أربعة طرق وإنما ذكرنا الرابع أخيرا لدقته، لا لضعفه.
كما أن الأول أوثق، مع أن شرح الأسماء، يقتضي تأملا وإمعانا، ويهتدى إلى معناه الصحيح، بالطرق الثلاث، وبتوفيق بعضها ببعض، وذلك أصل راسخ([19]).
(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن في عدد من الجامعات، وهذا المقال استكمال لدراسة طويلة نوالي نشرها في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.
الهوامش:
([3]) القائد إلى عيون العقائد-نسخة الكترونية-ص: 10.
([11]) لقمان: ٢٦- فاطر: 15، الحديد: 24، الممتحنة: 6.
([17]) القائد إلى عيون العقائد- ص16-17.