كلمة بقلم معالي الأستاذ الدكتور محمد غورماز(*)
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الكريم، المبعوث رحمة إلى يوم الدين، أما بعد ..
فخامة الدكتور مهاتير محمد حفظه الله، السادة أعضاء منتدى كولالمبور ممثلين أمينهم العام د. عبدالرزاق مقري ونائب الرئيس الشيخ محمد الحسن ولد الددو، حضرات العلماء والمفكرين الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،،
أود بداية أن أوجه شكري الجزيل وتقديري البالغ لأستاذنا الدكتور مهاتير، الذي أمضى عمره في البناء والإنجاز، والعمل على نهضة الأمة وقيامها من سُباتها، فجزاه الله عنا وعن الأمة خير الجزاء.
وأود أيضاً أن أشكر المنتدى على اختيارهم لهذا الموضوع بالغ الأهمية في هذه المرحلة الجديدة التي نقف فيها على أعتاب مئوية فقدان الخلافة، والتي نحتاج معها إلى وقفة تقييم صادقة وجادة وحاذقة، نستلهم منها الدروس ونتعلم منها ما وقعنا فيه من أخطاء، ونسأل أنفسنا الأسئلة الصحيحة ولو كانت ثقيلة.
إن كنا نقول إن من استوى يوماه مغبون، فحري بنا أن نقول أن من استوى عصراه فهو أشد غُبناً. والذي ينبغي أن نركز عليه خلال هذا المؤتمر الكبير هو ما يمنع أبناءنا من أن يعيشوا ذات الأزمات التي عشناها ونعيشها، وأن يعانوا من عين البلاءات التي عانيناها. إن تركيزنا يجب أن ينصب على أجيال المستقبل التي تملك في يدها مفتاح القادم، وتحمل في قلبها شعلة التغيير، وتتحرق شوقاً لمن يدلها على الطريق.
وعلينا هنا أن نسأل أنفسنا: ما هو المستقبل الذي ننتظره للإسلام في ظل أي استئناف حضاري؟ بل كيف سيكون للإسلام أي مستقبل في ظل تصوراتنا المشوهة والمحرفة لفكرة المستقبل نفسها؟ وهل نرى الأمة خلال القرن القادم واقفة على قدميها معتمدة على نفسها؟ أم أننا نراها تتنقل بين أحضان القوى العالمية المخلتفة؟!
لذلك أيها الإخوة الكرام فإنني سأركز في كلمتي اليوم على تقييمٍ للواقع أنتقل منه إلى إشكالية الاستشراف في أمتنا الكريمة، إشكالية تصورنا للمستقبل القادم.
إننا اليوم معيش موجات تلو موجات من اليأس والإحباط في العالم الإسلامي، لقد بدأنا هذا القرن وكلنا أمل وعنفوان، كلنا أملٌ بدول ومجتمعات واقتصاديات ونهضات مختلفة، لكن أدبياتنا تحولت خلال القرن الماضي من أدبيات الدعوة للنصر إلى أدبيات تخفيف خسائر، ومن أدبيات الأمل إلى أدبيات تدير خيبات الأمل. رأينا انحداراً سريعاً في مستوى التوقعات ومستوى المتطلبات، بل وللأسف في مستوى النخب القائدة للأمة على كل المستويات. ووصلنا إلى المئوية دون أن نرى دولة مسلمة تقف على قدميها دون عصي تتوكأ عليها وتهش بها مشاكلها ولها فيها مآرب أخرى. لكن أعظم جريمة وقعنا فيها ليس هذا كلَّه، بل هو تشويه تصور المستقبل لدى الأجيال المسلمة جيلاً بعد جيل، لنصل إلى مرحلة لا يرى فيه الشباب غاية من العمل أو الاجتهاد.
إنني أدّعي بأن تشوه تصور المستقبل لدى الأجيال المسلمة هو نتيجة ذاتية من داخل الأمة الإسلامية، وأعتقد أن لها خمسة أسباب رئيسية :
- القراءة التاريخية الخاطئة (التي تقتل الوعي التاريخي).
- انعدام فكر المستقبل (الذي يشكل تصور القادم.)
- انتشار أدبيات نهاية الزمان (التي تمحو إرادة العمل).
- كثرة أدبيات التخلف (التي تضع ما وصل إليه الغرب هدفاً)
- الصراع الحضاري الداخلي( الذي يشكك في قدرة النخب على النهوض)
أولاً: القراءة الخاطئة للتاريخ:
نحن أولاد حضارة طال بنا الألم والسقوط، وكلما طال الأمد لجأنا إلى تعظيم الماضي، فإذا واجهتنا مشاكل الحاضر مدحنا الماضي، وإذا أظلم المستقبل في وجهنا تسربلنا بالماضي. ولكننا لا نذهب للماضي لتحصيل الدروس والعبر، ولا نمضي إليه سائلين عن الأخطاء والعثرات، بل نذهب إليه للتقديس أو التزييف، فنجرده من إنسانيته وواقعيته، ونجعله صفحات من النور الذي لا تخالط بشاشته هزيمة ولا زلة. فبينما عامل بعض الأدعياء من أمتنا تاريخنا باعتباره أسود مرباداً ، عاملناه نحن أبيض ناصعاً، وكلانا يرتكب جريمة في حق هذا التاريخ العظيم.
إن تاريخنا عظيم لأنه تاريخ أمة إنسانية، تخطئ فتتعلم وتصيب فتحمد الله. أما التعاطي مع التاريخ باعتباره قطعة واحدة لا تشوبها شائبة يحرمنا من الاستفادة ويسوقنا إلى الهرب إليه كلما دعت الحاجة، فنعيش كأمة في الحاضر جسداً، لكن في الماضي روحاً. وقد قال ابن خلدون: إن المختبئين في كهوف الماضي ومغاراته ولا يبنون مستقبلهم.
ثانياً: انعدام الفكر المستقبلي:
دعونا نواجه الحقيقة: إننا كأمة لا نحب التفكير في المستقبل، ونعتبر المستقبل من قبيل الغيب “ولا يعلم الغيب إلا الله” مع أننا متعبَّدون بمثل هذا التفكير. وأنا أقصد هنا التفكير الحقيقي لا أحلام اليقظة. والتفكر في المستقبل والإعداد له لا رجماً بالغيب بل فهماً لسنن الله هو أحد أعظم المسؤوليات التي تقع على عاتق النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية. فأكبر تهديد يواجه أي حضارة في فقدنها الرؤية المتكاملة حول مستقبلها.
إن الزمن في التصور الإسلامي ليس خطاً موازياً، وليس ذا بعد واحد، ولا قيمة للزمن بمجرد مضيه، فالماضي ليس مصدراً للحق لكونه ماضياً، وحاضرنا اليوم ماضي المستقبل، كما أن ماضي اليوم كان حاضراً لقوم ومستقبلاً لآخرين. ولذلك فإننا اليوم نعيش الماضي والحاضر والمستقبل معاً، ولو قصرنا في فهم سنن الله، وقصرنا في التخطيط للقادم من خلال تلك السنن، فإننا نحكم على القادم بتكرار الماضي، ونحكم على الشباب بخوض ذات المعارك التي خاضها آباؤهم. ولذلك فإن التفكير في المستقبل فرض كفاية على الأمة المسلمة، ولو تركناه جميعاً أثمنا جميعاً!. وقد سألوا أينشتاين مرة: لم تفكر كثيراً في المستقبل؟ فأجاب جوابا بسيطاً عميقاً في ذات الوقت. قال: لأنني سأعيش فيه قريباً. وكذلك نحن المسلمون، سنعيش ما تبقى من عمرنا في المستقبل، فحري بنا أن نخطط له.
ثالثاً: أدبيات نهاية الزمان
إنني أقترب من هذا الموضوع مدركاً عمق تأثيره في العقل الجمعي المسلم، لكنه بنظري أحد أعمق المشاكل في ذلك العقل أيضاً. لقد لـمنا فوكوياما على إعلانه نهاية التاريخ، لكننا في ذات الوقت كنا قد أعلنا نهاية العالم كله! وكنا مِثلَ الذي يَنعى ابنه حِين ولادَتِه.
إن أدبيات نهاية الزمان التي تعلن نهاية المستقبل تزرع في عقول الشباب إحباطاً تجاه أي محاولة تغيير، وخصوصاً تلك الأدبيات التي تضع مصير الأمة في يد شخص واحد منتظر، يأتي ليغير كل شيء بنفسه بعد أن ييأس الناس من التغيير. فكيف سنطلب من الشباب أن يغيروا في ذات الوقت الذي نقول لهم فيه إن ما تقومون به لا داعي له، فالمهدي قادم لينتشلنا جميعاً من الهم والحزن؟! والأمة التي تربط مستقبلها بمهدي منتظر لا مستقبل لها ولا مهدي.
أود أن أشير هنا إلى أنني لا أتحدث عن علامات الساعة الثابتة في الكتاب والسنة، فهذا جزء من ديننا وعقيدتنا، وإنما أتحدث عن الحكايات التي ملأ القصاص بها أدمغة الشباب وكأنها إبر مخدرة تعيقهم عن القيام أو العمل. أما علامات الساعة فهي ترد في السنة والقران بميزان ثابت يجمع بين الحذر والعمل، يختصره النبي صلى الله عليه وسلم بحديثين يقول في أولهما لسائل سأله عن موعد الساعة : ماذا أعددت لها؟، ويقول في الثاني: إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا.
رابعاً: أدبيات التخلف:
خلال القرنين الماضيين كثرت الأدبيات التي تقارن بين تخلف الأمة الإسلامية وتقدم غيرها، على كل الأصعدة وكل المجالات، والكتب التي تتحدث عن موضوع تخلف المسلمين ربما تكاد تملأ مكتبة كاملة، والمشكلة في هذا النوع من الكتابات أنه أصل فكرة تخلف المسلمين لدى الأجيال المتعاقبة، وأصبح سؤال التخلف شائعا في الثقافة العامة، لدرجة أن البحث في أسباب التخلف صار جزءً من المناهج الجامعية بل ربما المدارسية. والبحث في أسباب التأخر ليس في ذاته مشكلة، إلا أن صياغة السؤال في معظم الوقت تكون إشكالية: فتربط التقدم والتأخر بمعايير الآخر، وسياقات الآخر. مع أن وجهتنا ليست ذات وجهتهم وطريقنا ليس ذات طريقهم، فالسؤال في ذاته يحمل افتراضاً بكونية القيم المقارن بها، والتي هي غالباً قيم الغرب وقيم حضارته. ولذلك فإننا في كثير من الأحيان نجد أن تصورنا للحضارة يقوم على هدم الحضارات الأخرى وتدميرها، لأنها كانت المعيار الذي حكمنا به على أنفسنا والنصر والتقدم هو في التغلب عليها.
خامساً: الصراع الحضاري الداخلي:
إننا نعيش اليوم مرحلة إعياء عامة، كثرت خلافاتها الكلية والجزئية، وانتشرت مشاكلها العامة والخاصة، حتى صرنا نتفنن باختراع الصراعات، وجزء كبير من هذا للأسف يعود سببه إلى مفكرينا وعلماءنا الذين عمموا بعض المشاكل الخاصة أو حملوها فوق طاقتها، لتنتقل من إثقال كاهل مجموعة صغيرة، لتثقل كاهل الأمة بكاملها!
لقد سمحنا للسياسة بالتدخل في خلافاتنا الفكرية، ونجحت السياسة في أن تعتصر الدين لتستخرج منه فائدة لها دون أن ينال الدين أي فائدة من السياسة، فدخل بعض المفكرين والعلماء المسلمين معارك نيابة عن السياسيين، فدخلنا في احتراب داخلي لا معنى له ولا فائدة ولا ثمرة، وساهم هذا في تشويه صورة العلماء لدى الشباب، وتشويه تصورهم لما يمكن أن يقدمه العلماء لمستقبل الأمة، وهم يتقاتلون على بعض الجزئيات في حاضرها.
بعد كل هذا، ما الحل؟ وأين الطريق؟ وهل من مستقبل قادم لنا ولأولادنا وأحفادنا؟
إن كان للتشاؤم أسباب كثيرة، فإن للتفاؤل والأمل أسباباً غير محدودة. إننا قادرون على النظر إلى الماضي بعين الناقد الحاذق لنستخرج منه ما يُعيننا في حاضرنا ومستقبلنا، وهذا ما أحسب أننا نحاول فعله في هذا المؤتمر، إنني أقول دائماً: متى وُجد الإيمان وُجد الإمكان! إن في كتابنا وسنة نبينا وتراثنا ما يعيننا على التوجه بخطى واثقة نحو المستقبل، وفي حوزتنا قيم مرجعية وأخلاقية تعطينا لو استثمرناها الصدارة بين الأمم. إن كتابنا كتاب مستقبل، وإن رسولنا رسول مستقبل وإن الرسالة المحمدية رسالة عالمية خالدية خاتمة، ومن كان هذا رسولهم ، ومن كان هذا كتابهم ومن كانت هذه رسالتهم، فحري بهم أن يكونوا أمة المستقبل، لا أمة تعيش على أطلال الماضي.
إن الإسلام هو أكبر أمل للإنسانية، لا أقول هذا شعاراً سياسياً ولا بروبوغاندا إعلامية، بل أقول هذا قول المتأمل في الوقائع والمتفكر في الحوادث. إن ما يحمله الإسلام من أطر ومرجعيات ثابتة ومرنة، يجعله الحل الأمثل للمعضلات التي تعيشها البشرية اليوم، والجواب الأفضل لأسئلة العالم المعاصر.
وفي الوقت ذاته الذي تنتشر عشرات بل مئات المؤسسات التي تعنى بتأسيس رؤية للمستقبل في الغرب، فإننا كمسلمين للأسف لم نستطع حتى الان حتى أن نطور بعض علوم السابقين حول المستقبل، مثل علم العمران لابن خلدون ، فقد أخبرنا ابن خلدون أن علم العمران يخبرنا عما حدث في الماضي، وعن سنن الله في المجتمعات التي تمكننا من التخطيط للمستقبل.
ولذلك فإنني أقترح إنشاء مركز دراسات استشرافية يشتمل هذه الوجوه العالمة، ويستثمر الطاقات الشابة، ليضع الخطط الاستراتيجية لمستقبل الأمة، ويدخل هذا الفكر الاستشرافي إلى كل مراحل التعليم، لأن الشباب المسلم ينبغي عليه أن يفكر للمستقبل من نعومة أظفاره، ليكون ذلك الجيل المؤسس لمستقبل نفخر به أمام نبينا إذ نلقاه على الحوض.
أود أن أختم بكلام لموسى جار الله إذ يقول : إننا في حركات التجديد والإصلاح والإحياء بدلاً من أن نصلح أحوالنا ونحيي آمالنا ونجدد مسيرتنا، حاولنا أن نصلح ونجدد ونحيي الإسلام، والإسلام لا يمرض ليُصلح، ولا يموت ليحيا، ولا يقدُم ليجدد,
وأقول أيها الأخوة الكرام.. إن نهر الإسلام نهر عظيم سددنا مجراه بخلافاتنا وتصوراتنا، ولوثناه بحظوظ أنفسنا، وأضعفناه بمشاكلنا، فدعونا -أسألكم بالله- في هذا القرن نجعل النهر يجري من جديد.
(*) وزير شئون الديانة بتركيا سابقا، ورئيس معهد التفكر الإسلامي، والكلمة ألقاها سيادته بالجلسة الافتتاحية في المؤتمر السادس لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة باسطنبول في الفترة 11-13 ديسمبر 2022م.
جزاكم الله خيراً
حقا إنه مشروع رائد ومسؤولية خطيرة وثقيلة، نطلب من الله عز وجل أن يأخذ بأيدي من فكر في هذا المشروع العظيم الذي سيضيء الأمة ويصحح الكثير من المفاهيم الخاطئة عن منهج كتاب الله عزوجل، ويعالج المغالطات التي شوهت تاريخنا الإسلامي، أرى أن مشكلة هذه الأمة مشكلة تاريخ، وعدم الاعتبار به كما أمر الله، هذا ما أمكن قوله باختصار شديد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته عبدالرحمن صالح بابكر الذي يخصكم بالدعاء على ظهر الغيب