بقلم أ.د. أحمد الريسوني(*)
الجهاد القائم الآن في فلسطين ليس جهادا فلسطينيا، وما ينبغي أن يكون فلسطينيا، أو أن يظل فلسطينيا؛ بمعنى أن يقوم به الفلسطينيون وحدهم.
*ففلسطين التي اغتصبها الصهاينة، بدعم وتمكين استعماري صليبي، هي أولا جزء عزيز من بلاد المسلمين. واستعادة أي جزء من بلاد المسلمين يجب – وجوبا عينيا أو كفائيا – على جميع المسلمين، بحسب قربهم وبعدهم..
*وفلسطين المحتلة تضم المسجد الأقصى، وهو أحد المساجد الثلاثة التي يجب على عموم المسلمين إعمارها وشدُّ الرحال إليها، على مدار العام. وهو قبلتنا الأولى، ومسرى نبينا نبي البشرية صلى الله عليه وسلم.
*وفلسطين هي الأرض التي ذكر الله تعالى مرارا أنه باركها وبارك حولها، وقد اختصها دون سواها بهذا الامتياز، لكونها أرض الأنبياء والرسالات. ونحن الأمناء ورثة الأنبياء والرسالات.
فتحرير هذه الأرض المباركة، وتطهيرها من الظلم والعدوان والاغتصاب، ومن التهويد والصهينة، يقع على عاتق عموم المسلمين، حكاما ومحكومين؛ الأقرب فالأقرب، والأقدر فالأقدر..
ومن بركات معركة (طوفان الأقصى)، أو بلغة السياسة: من الآثار الاستراتيجية لهذه المعركة، أنها دفعت عددا من المسلمين غير الفلسطينيين إلى بداية الانخراط – بأشكال متعددة ومتفاوتة – في الجهاد المسلح لأجل فلسطين. فبعضهم دخلوا بصورة كاملة ومباشرة في مواجهة مع العدو الغاصب المعتدي، كحزب الله في لبنان. وبعضهم دخلوا بأشكال جزئية مساندة، ولكنها مقبلة على التطوير ومزيد من الفاعلية.. وننتظر فتح جبهات ومسالكَ جديدة للجهاد لأجل المسجد الأقصى وفلسطين، اللهم آمين.
ومعلوم أن الكيان الاستيطاني المسمى بإسرائيل، ليس سوى رأس الحربة للتحالف والتكتل الغربي الاستعماري، الذي تتزعمه أمريكا وبريطانيا وفرنسا، والذي يترصد أي محاولة للتحرر والنهوض لدى المسلمين، ويعمل على خنقها وسحقها. ونحن نرى اليوم وقبل اليوم، كيف أن حلف الناتو – وهو أكبر حلف عسكري في التاريخ – يضع كل قدراته وعتاده ومعلوماته في خدمة إسرائيل، التي هي أيضا في خدمة الناتو.. وهنا لا يمكن إلا أن نستحضر ونمتثل قول الله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
فقه العزيمة والرخصة:
عندنا مصطلحان فقهيان أصوليان، يُذكران غالبا متلازمين ومتقابلين: العزيمة والرخصة. وأنا الآن أتحدث عن فقه العزيمة والهزيمة، وليس عن فقه الرخصة والعزيمة. ولكن يستحسن تقديم شيء من التوضيح عن الرخصة والعزيمة عند الفقهاء والأصوليين..
فالعزيمة تعني وجوب الإتيان بالتكليف الشرعي على أصله، وبتمام أركانه وشروطه.
والرخصة تعني الإعفاء أو التخفيف المؤقت من التكليف أو بعض متطلباته، بحسب ما عرض للمكلف من عجز أو عذر.
ومثال العزيمة والرخصة في موضوعنا، موضوع الجهاد، ما في الآيتين من سورة الفتح: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}.
ففي الآية الأولى (16) عزيمة لذوي القدرة على الجهاد، وتحذير لهم من مغبة تركه. وفي الآية الثانية (17) رخصة لذوي الأعذار المذكورين، ومَن في حكمهم من الضعفاء والعجزة. وكل واحد فقيه حاله ومفتي نفسه، وحسابُه على الله.
وأما في حق الجماعة وجهادها الجماعي المنظم، فقادتها وأهل الحل والعقد فيها، هم الذين يقدرون الأمور باجتهادهم، ويتخذون القرار المناسب، وهم الذين يقررون المضي في العزيمة، أو الأخذ المؤقت بالرخصة.. قال تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83].
والشيطان شأنه ودأبه التخويف من الجهاد ومن قوة الأعداء وبطشهم {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175].
فقه الهزيمة ما هو؟ ومن هم أصحابه؟:
أصحاب فقه الهزيمة صنفان: صنف يريد أصحابه الهزيمة للمجاهدين، وصنف لا يريد أصحابه الهزيمة، ولكنهم يتوقعونها ولا يتوقعون غيرها.
فأما الصنف الأول:
فهم إما أعداء عقائديون للإسلام والمسلمين، وإما أعداء سياسيون للمجاهدين، وللقضية الفلسطينية عموما. وهم في الحالتين كارهون لأي انتصار للمجاهدين ولقضيتهم، ولا يريدون لهم إلا الهزيمة والنهاية، والخروجَ النهائي من الساحة. ولذلك فهم يعملون على نشر اليأس والإحباط والنكوص، ويسعون إلى قطع كل رجاء أو أمل في النصر، ويصورون النصر بكونه مستحيلا، وبكونه لو حصل سيكون خطرا وكارثة؟!
وتحت هذا الصنف تدخل أنظمة عربية معروفة، وحركات إلحادية، وأحزاب علمانية أو لادينية، وتيارات إباحية..
فهؤلاء جميعا ينشرون – عن عمد ومكر – فكر الهزيمة، وثقافة الهزيمة، ونفسية الهزيمة، وكل ما يخدم الهزيمة، لكونهم يريدون الهزيمة.
وأما الصنف الثاني:
فهم يتبنَّون فقه الهزيمة بنيةٍ حسنة وقصد سليم. فهم مع القضية، وقلوبهم مع المجاهدين، كغيرهم من الأنصار والمؤيدين. ولكنهم يروجون “نظرية النصر المستحيل”، لعدم شروطه، وأن الهزيمة آتية لا ريب فيها، لتحقق أسبابها ومقدماتها.. والنتيجة: أنهم بهذا يسيئون إلى الجهاد والمجاهدين وقضية فلسطين، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وفي أسوأ الحالات، فإن هذا الترويج يصبح سلاحا من أسلحة الأعداء، في سعيهم لهزيمة المجاهدين وإحباط قضيتهم، لولا أن الله عالب على أمره.
وأما مداخل فقه الهزيمة وحيثياته عند هؤلاء السادة، فيبدو لي منها ما يلي:
1-التأثر بالدعايات المكثفة والمعلومات المضللة، وبالقصف الإعلامي المتدفق والمتواصل، الذي تبثه وسائل الإعلام المعادية، ومعها حملات الصنف الأول من دعاة الهزيمة.
2-التأثر بالتحليلات والحسابات السياسية الصرفة، في غفلة عن المعتقدات الإيمانية، والقيم الدينية، والمقاصد الشرعية، والأبعاد الأخروية. فالساحة السياسية والإعلامية والثقافية تعج اليوم بخبراء ومحللين ومتنبئين، وكتاب صحفيين، سياسيين وعسكريين واستراتيجيين.. أكثرهم يصولون ويجولون، ويقدمون ويؤخرون، ويقَيِّمون ويثرثرون، في غياب تام – أو جهل تام – لأي اعتبار ديني، بما في ذلك وجود الله واليوم الآخر.. وهذا لا يليق التسليم به والانسياق معه، لمن لهم دين وعقيدة وشريعة.
وقد حكى شهاب الدين القرافي عن الإمام مالك أنه “يَشترط في المصلحة [أي في تقدير المصالح] أهلية الاجتهاد؛ ليكون الناظر متكيفًا بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها، بخلاف العالِم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول، فيكون بعيدَ الطبع عن أخلاق الشريعة، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير شعور” – (نفائس الأصول في شرح المحصول 9/ 4092).
3-المدخل الثالث من مداخل فقه الهزيمة هو التأثر النفسي العاطفي بالأخبار والمشاهد الحقيقية والرهيبة، لوقائع القتل والتدمير، والتجويع والتشريد، والبكاء والدعاء، وبالأرقام المتصاعدة لأعداد الشهداء والمصابين والأسرى..
ونحن جميعا متأثرون بهذا كله أشد التأثر، ومتألمون منه غاية الألم، لكن هل هذه العواطف الشريفة والنبيلة ستحل أي مشكلة؟ هل هي التي ستملي علينا أو على المجاهدين ما ينبغي فعله؟ وهل نستسلم لها فنستسلم للعدو وجرائمه، حقنا للدماء وإنهاءً للمآسي؟
لا وألف لا. فلا القرآن يقبل ذلك، ولا العقل يقول به، ولا التاريخ يشهد له.. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 39، 40].
(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة، ورئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سابقًا.