بقلم أ. محمد الحبيب الدكالي
(01/09/2021)
(ملاحظة: نشرت في المقالة السابقة نص الوثيقة التاريخية الصادرة بتاريخ 16/08/2021 عن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في شخص رئيسه د. أحمد الريسوني حول الوضعية في أفغانستان، وهي في أصلها كلمة مرتجلة بالفيديو نشرت في موقع يوتيوب، لذلك كان لزاما نشرها، كوثيقة، كما هي)
موجات الزلزال
لم يحدث، حسب ما أذكر، منذ حرب 1967، أن هزت قضية ما أركان السياسة الدولية مثلما تفعله القضية الأفغانية الآن، ولا حتى قضية فييتنام على أهميتها، باستثناء انهيار العملاق السوفييتي ذي القدمين الخشبيتين في يوم عيد الميلاد سنة1991.
فبالنسبة لفييتنام التي هزم شعبها الولايات المتحدة هزيمة مذلّة، يمكننا أن نتذكر المروحيات الأمريكية وهي تجلي سبعة آلاف مدني على عجل من فوق بناية في سايغون، لكن الحرب الأمريكية في فييتنام (1965-1976) لم تكن لها ارتدادات سوى على الولايات المتحدة مخلفة أزمة أخلاقية واجتماعية عميقة في المجتمع الأمريكي آنذاك، لتتحول فييتنام بعد ذلك إلى بلد رأسمالي صغير مندمج تماما في النظام الاقتصادي العالمي، وعلى المستوى الإقليمي، ساهمت تلك الحرب في تحول كامبودج ولاوس إلى النظام الشيوعي كارتدادات إقليمية محدودة نسبيا.
أما أفغانستان، فتشكل حالة مختلفة تماما. فالاحتلال الأمريكي كان مدعوما بحلف ناتو، أي بقوات عسكرية أوروبية من بريطانيا وفرنسا وألمانيا إيطاليا والنمسا وإسبانيا..إلخ.
من جهة أخرى، وعلى مستوى ارتدادات الزلزال الأفغاني بخلفياته الهامة، بما كشف عنها واستنبط وما لم يكشف عنه بعد، بدأت ردود الأفعال تظهر بشكل واضح في واشنطن وبروكسل (المجموعة الأوروبية) وموسكو وبيجين وطهران وتل أبيب، وهي أقرب ما تكون إلى “الإشارات الضعيفة” (Weak signals-signaux faibles) المعروفة في أدبيات الرصد الاستراتيجي، وهي مؤشرات خافتة تشير إلى طبيعة التوجهات الاستراتيجية تجاه قضية معينة لدى المعنيين.
ومن هذه الإشارات تجميد الأمريكان أرصدة للدولة الأفغانية بما يزيد عن أريع مليارات دولار، ورفض الأمريكان قبل الانسحاب الكامل لاستعدادات أنقرة لإدارة مطار كابل وقد أسقط في يدها الآن إذ صار القرار بيد حركة طالبان، وظهور لهجة التهديد والوعيد من لندن وباريس حول ما سمي بـ”المسارات الآمنة” بعد 31 أغسطس، أي استمرار استنزاف القدرات البشرية الأفغانية المؤهلة، وحكاية حقوق المرأة وحقوق الإنسان.. ولعل أهم هذه المؤشرات تحريك الخلايا الإرهابية (ما يسمى بإمارة خراسان وداعش)، للقيام بعمليات إرهابية دموية كانفجار المطار، حتى وإن كان من بين ضحاياها جنود أمريكيون.
وبخصوص هذه النقطة، تطرح بعض التساؤلات المشروعة: ألا تدل السرعة التي تم بها الإعلان عن استهداف المسؤول عن التخطيط للعمليات الإرهابية شمالي كابل خلال 24 ساعة فقط من التفجير، ثم استهداف اثنين من القيادات الإرهابية في كابل بعدها بـأقل من 24 ساعة، يشير إلى توفر الأمريكان على معلومات محددة عن هويات وأماكن تواجد هذه العناصر بشكل مسبق؟ ولماذا تركت هذه العناصر، وغيرها بالتأكيد، تتحرك وتعدّ الخطط الإرهابية وتنفذها دون أية عمليات استباقية كما هو مفترض؟
صحيح أن تلك التنظيمات الإرهابية نفّذت عمليات دموية مروّعة بالتفجيرات والذبح ضد مدنيين، لكن طبيعة المستهدفين الأبرياء في أحياء ومناطق شيعية (حفلات أعراس ومراكز ثقافية أساسا) تشير بوضوح إلى البدء في التحضير لإشعال حرب أهلية باستهداف مكوّن رئيسي من مكونات الشعب الأفغاني وكذلك تحرك رجل المخابرات الفرنسي برنارد هنري ليفي إلى بنشير لحث أحمد مسعود على إشعال الحرب بين الطاجيك والأوزبك ضد حركة طالبان.
كما صرحت الإدارة الأمريكية مؤخرا أن البنتاغون “يتقاسم” معلومات مع حركة طالبان في كابل و”لكن ليس كل المعلومات”!! نفس اللعبة تكررت في العراق وسوريا والصومال. منظمات إرهابية مرصودة قياداتها وخططها وعناصرها تعمل بحرية وتركز على شيء واحد وهو ارتكاب جرائم بشعة تحت راية التوحيد.
كما من بين هذه “الإشارات الضعيفة” كذلك، التصريحات المتكررة للمسؤولين الغربيين كون العلاقات مع حركة طالبان تتوقف على مدى التزام الحركة بقواعد القانون الدولي، وهي عبارة مائعة يمكن تفسيرها بطرق مختلفة حسب الظرف والمعطيات، وكأنما الدول الغربية تمثل الأنموذج للالتزام بقاعد ذلك القانون.
هذه بعض المؤشرات التي تعطي صورة واضحة بما فيه الكفاية عن المآلات التي كانت “تتوقعها” القوى الدولية الضالعة في أفغانستان وهي تعكس، في نفس الوقت، طبيعة توجهاتها تجاه أفغانستان التي بدأت ملامحها الجديدة تتشكل الآن، خاصة مع خطوات حركة طالبان، التي يبدو أنها جدية، لتشكيل حكومة وطنية جامعة عبر المشاورات المكثفة مع مختلف الأطراف الأفغانية التي تجري على قدم وساق.
حسابات القوى الدولية المعنية
لمحاولة قراءة هذه الحسابات، يجب استحضار عاملين جوهرين يتشكلان الآن في أفغانستان:
1: إصرار حركة طالبان على إقامة “إمارة إسلامية “وهو الهدف الأساس الذي تسعى الحركة إلى تحقيقه منذ تأسيسها، وبغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الذي يوجد في أذهان قيادات الحركة وما إذا كان هذا النظام سينجح في تقديم نموذج يتجاوز التصورات الضيقة لمفهوم نظام سياسي ما، فإن نجاح الحركة في صياغة وتنفيذ مشروع سياسي متقدم، يشكل هذا العامل، لو تحفف، كابوسا ومصدر قلق عميق حقيقي وليس بالمعنى المنافق الذي يتكرر في تصريحات المسؤولين الغربيين والروس عادة في قضايا مأساوية عدة (سوريا، العراق، اليمن..).
يجب ألا ننسى أن احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان كان مبعثه الرئيسي هو إجهاض أي تحول نحو نظام إسلامي ما بسبب تصاعد تأثيرات الحركة الإسلامية الأفغانية في مجتمع محافظ شديد التعلق بالدين الإسلامي، مع مايشكله مثل هذا التحول من خطر كبير عليه عبر بطنه الرخو في إقليم آسيا الوسطى الذي تشترك معه أفغانستان شمالا مع طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان.
ومع فشل النسخة الأولى من حكم نظام طالبان الذي اعترفت به المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات فقط بتشجيع أمريكي (!!)، تعود حركة طالبان الآن لتعلن عزمها الأكيد على تحقيق هذا الهدف، أي إقامة دولة إسلامية تلتزم بمبادئ الإسلام وبشريعته. ومع التساؤل حول قدرة الحركة وسعيها الجاد لإقامة حكومة وطنية ائتلافية قادرة على إعادة بناء السلام والتنمية في أفغانستان وإقامة نظام سياسي إسلامي وفقا لمبادئه ومقاصده الحضارية الحقيقية، وهو ما يشكل أهم التحديات التي تواجهها الحركة حاليا، سيكون نجاحها في تحقيق هذين الهدفين إجهاضا لمخططات إشعال الحرب الأهلية وسيؤدي مثل هذا النجاح إلى ظهور معادلات إقليمية ودولية جديدة على في عمق وسطح العلاقات الدولية، وحدوث مثل هذا السيناريو سيؤثر حتما على نفوذ ومصالح القوى الدولية بأشكال مختلفة في آسيا الوسطى وجنوب غرب آسيا (إيران وتركيا) ومنطقة الخليج والشرق الأوسط، وإيذانا لمرحلة جديدة في العلاقات بين العالم الإسلامي من جهة، والغرب وروسيا والصين من جهة ثانية. علينا أن ننتظر ما سيقوله التاريخ في المستقبل المنظور خلال السنوات العشر القادمة.
2: العامل الثاني يشكل ظاهرة جديدة في السياسة الدولية، وهو دخول دول إسلامية على خط صناعة القرار الدولي بقدر كبير من الاستقلالية والفاعلية والذكاء بعيدا عن وصاية الدول الكبرى وعن ألاعيبها وضغوطاتها في مجلس الأمن والمحافل الدولية، ويتعلق الأمر بتركيا وقطر وعلى ما يبدو باكستان.
2.1 فبالنسبة للدور القطري: الذي يطلق عليه بعض المراقبين “رجل الإطفاء” نظرا لوساطاتها في ملفات عديدة من بينها مشكلة دارفور في السودان، وفي العلاقات السعودية الإيرانية، وبين “حماس” والكيان الصهيوني والدعم الكبير لغزة على مختلف الصعد، وليبيا وفي قضايا أخرى لا يعرف عنها الكثير، فقد نجح هذا الدور ، فيما يتعلق بأفغانستان، في كسب ثقة حركة طالبان كوسيط مؤتمن حقيقي حريص على السلام والبناء في أفغانستان، كما نجحت قطر في فرض نفسها كطرف أصبح يمتلك قدرات ومهارات وتجارب مهمة، وهي الدولة الصغيرة، وفي بناء صورة إيجابية على مستوى المحافل والعلاقات الدولية كطرف قادر على التأثير والوساطة الإيجابية في حل المشكلات بعيدا عن عقلية الانتهازية والمصلحية الضيقة، وهذا ما يعترف لها به الأمريكان والأوروبيون والروس بدون مواربة على أعلى المستويات، دون أن ننسى وجود مقر “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” في الدوحة كمؤسسة قامت وتقوم بدور نشط ومؤثر في دعم توجهات الحركة بالنصيحة المخلصة والرأي العلمي الرصين.
وفي واقع الأمر، هذا الدور القطري المتعاظم في السياسة الدولية على المستويات الإقليمية، لا يعجب الكثيرين، وعلى رأسهم الكيان الصهيوني، وهنا يجب ألا ننسى المخططات المتواصلة لضرب قطر، وما محاولة غزوها عسكريا وإسقاط نظامها ثم حصارها بعد فشل محاولة الغزو عنا ببعيدة.
2.2 أما بالنسبة لتركيا: يشكل ثقلها الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري واستقلالية قراراتها، وقد تعوّد الرأي العام العالمي على سماع عبارة “لا نستأذن أحدا” من الرئيس التركي، عامل صعود وتأثير متعاظم في السياسة الدولية، ويبدو هذا الصعود جليا في ملفات كبيرة كالوضع في شرق المتوسط وقطر (بأبعاده الخليجية) وفلسطين التي يعمل لها الأتراك بشكل عميق بدون ضجيج، وفي سوريا والعراق والصومال (بأبعاده على مستوى القرن الإفريقي وبحر العرب وباب المندب)، وفي البحر الأسود وأذربيجان، وفي إدارة العلاقات المعقدة بندّية نادرة واقتدار مع الأمريكان والروس والمجموعة الأوروبية.
ومع التقدم النوعي السريع في الصناعات والقدرات العسكرية لتركيا، صارت تلك القوى الدولية تحسب الحسابات الجدية للثقل وللدور التركي.
نحن إذا أمام ظاهرة جديدة في علاقة القوى الإسلامية الصاعدة مع اللاعبين الدوليين الكبار، فالتحالف الاستراتيجي التركي القطري وقد بدأ يستقطب بلدانا عربية وإسلامية أخرى بأشكال مختلفة ومتفاوتة، أثبت لحد الآن أنه قادر على التدخل في ملفات تتعلق بالأوضاع في عدد من البلدان العربية والإسلامية، في اتجاهات إيجابية وبانية معاكسة للتوجهات الاستراتيجية للسياسات الغربية التي تحكمت طويلا في تلك الملفات والأوضاع وفقا لمصالحها الاستعمارية والتي عمّقت التبعية وكانت نتائجها دائما كارثية ومدمرة ومأساوية.
هذه بعض ملامح الصعود الإسلامي في الساحة الدولية، وهي بالتأكيد ليست كل الملامح ولا حتى أغلبها، فهناك عديد من العوامل ونقاط القوة في هذا الصعود الذي هو في بداياته فقط، والعالم الإسلامي يغلي تحت مرجل حقيقي سينفجر لا محالة بأشكال مختلفة، وما “الربيع العربي” إلا واحد من إرهاصاته المتعددة، منها ما هو فوق السطح وأغلبه تحته.
نتمني ان يتشكل حلف اسلامي قوى له مقومات القوة التي تمكنه من نصرة الاسلام والمسلمين