أ.د.فؤاد البنا
هل هناك خلفية دينية للحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا؟ ولماذا ظل ملايين الضحايا يسقطون في غالب الحروب التي تندلع بين البلدان الغربية أكثر مما يحدث في الشعوب والأمم الأخرى؟ وهل سيستعر القتال أكثر بين الطرفين أم سيطفئ العقلاء أواره؟
ستحاول هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة بتأصيل قرآني وتحليل واقعي مركز.
مائدة علل أهل الكتاب!
تُعد سورة المائدة أكثر سور القرآن احتواء على علل التدين التي ظهرت عند أهل الكتاب بشقيهم اليهودي والنصراني، وهي العلل التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بها على سبيل التحذير من الوقوع فيها والدعوة للبعد عن معاقرة أسبابها، حينما قال: “لتتبعنّ سنَنَ من كان قبلكم شبرا فشبراً وذراعاً فذراعا، حتى لو دخلوا جُحر ضبّ لدخلتموه”.
قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟”.
ومن أخطر هذه العلل شيوع داء الفرقة والتمزق ومعاقرة أسبابهما؛ وأهمها العبث بكلام الله ونسيان بعض تعاليمه وعدم الوفاء بميثاقه، قال تعالى عن النصارى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}[المائدة: ١٤]، وعن اليهود قال تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غُلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدنّ كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين}[المائدة: ٦٤].
وتعد هاتان الآيتان من المصابيح القرآنية التي تكشف مجاهل المستقبل وتشخص أدواء الأمم، وقد عزز هذا الأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر بأن اليهود قد اختلفوا إلى ٧١ فرقة والنصارى إلى ٧٢ فرقة، محذراً من أن الاختلاف يسير في طريق تصاعدي وأن المسلمين سيفترقون إلى ٧٣ فرقة، ما داموا يعاقرون ذات الأسباب التي أدت إلى افتراق الأولين.
وتخبرنا وقائع التأريخ بوقوع اختلافات وصلت إلى حد الافتراق والاحتراب وسط فرق اليهود ووسط فرق النصارى، لكن الفرقة وسط فرق النصارى كانت أشد، فقد حدثت حروب بين مكونات الشعوب النصرانية أتت على عشرات الملايين منها في سائر العصور، إذ ظلت كل فرقة تحتكر الحق لنفسها وتزعم امتلاك الحقيقة المطلقة وحدها، مسفهةً قناعات الآخرين ومشيطنةً لما يعتنقوا من أفكار!
الانقسام وشيوع الكراهية:
كانت النصرانية التي اعتنقتها الدولة الرومانية الحاكمة لمعظم أوروبا، قد انقسمت في البداية إلى كنيستين: الكنيسة الشرقية التي اتخذت من القسطنطينية عاصمة لها، وتتمثل في المذهب الأرثوذكسي، والكنيسة الغربية التي جعلت روما عاصمة لها، ويمثلها المذهب الكاثوليكي الذي يتزعمه بابا الفاتيكان محاولاً الظهور كممثل وحيد للنصرانية في العالم، وخاضت الكنيستان حروبا عديدة، طيلة قرون من الكراهية العميقة والشيطنة المتبادلة، وأتت على مئات الملايين البشر الذين توزعوا بين قتلى ومشوهين وأرقاء ومشردين، واتخذت تلك الحروب عناوين سياسية وقومية وجهوية في بعض الأحيان، لكن جذر الاختلاف ظل مرتبطا بما ذكرته الآية التي أوردناها في مطلع المقال: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}، والإغراء هو تحبيب وتزيين وإلصاق؛ بحيث يتضخم خطأ الشقيق المختلف، ويصبح خطيئة لا يمكن تطهيرها إلا بالقتل!
وكانت أهم أسباب الاقتتال بين الطائفتين الأساسيتين في المسيحية تدور حول طبيعة المسيح بوصفه ابن الله، هل هي طبيعة ناسوتية بحتة أم طبيعة ثنائية يمتزج فيها الإلهي بالناسوتي!
ووصل الحال بالكاثوليك إلى حد أنهم حينما قرروا البدء بالحروب الصليبية ضد المسلمين، مروا أولا ببلدان أوروبا الشرقية ذات الأغلبية الأرثوذكسية فقتلوا مئات الآلاف من أبناء هذا المذهب وأحرقوا عديدا من مدنهم، ولما وصلوا إلى القسطنطينية فعلوا ما هو أشنع من تقتيل وتدمير وإفساد، لدرجة أن أعدادا من هؤلاء استجارت بمسلمين من إخوانهم في الدين!
وبسبب فساد رجال الدين والبابوات الكاثوليك؛ ظهرت في القرن السادس عشر الميلادي حركة احتجاج وسط أبناء هذا المذهب، وقادها قس ألماني يدعي مارتن لوثر، بعد أن اتضح له هذا الأمر خلال زيارته لمقر البابوية في الفاتيكان بإيطاليا، حيث رفع راية الاحتجاج ضد المفاسد الفكرية والسلوكية التي يقوم بها قادة الكاثوليك، ويبدو أنه كان متأثرا بالإسلام إلى حد كبير؛ ولذلك فقد رفع ٩٥ احتجاجا في باب كنيسته، ومنها رفض وساطة رجال الدين بين الناس وبين الله، ورفض بيع صكوك الغفران، ومقاومة التدين اللاهوتي البحت الذي يفصل العبادة عن الحياة ويجعل للدين رجالا مخصصين يمنعهم من العمل والزواج والتمتع بالطيبات، وقد توج ذلك بسلوكه العملي حيث تزوج وخلع ثياب رجل الدين وعاش بطريقة طبيعية مثل سائر الناس، وحث أتباعه على العمل والإنتاج ومغادرة حياة الرهبان، وهي الأخلاق التي أسهمت بفاعلية في صناعة النهضة الأوروبية والتي كتب عنها المفكر الألماني الشهير كارل بوبر في كتابه (الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية)!
وخلال سنوات من النضال الدائب والشجاع تكاثر أتباع لوثر وعرفوا بالبروتستانت أي المحتجين، وكوّنوا مع الأيام كنيسة مستقلة حملت ذات الاسم إلى يومنا هذا.
لكن ذلك لم يتم بسلام أو حتى بخسائر هيّنة، بل بحروب أهلكت الحرث والنسل بين الكاثوليك والبروتستانت استمرت طيلة قرنين من الزمان وقتلت ملايين من الطرفين!
وكانت محاكم التفتيش التي أنشأها الكاثوليك لاستئصال المسلمين واليهود في بلاد الأندلس قد مددت البابوية صلاحياتها لتشمل محاربة البروتستانت وقتلت مئات الآلاف منهم ولا سيما في فرنسا، التي ظهر فيها ثاني أقطاب البروتستانت وهو جون كالفن، لكنه لم ينجح في اكتساب الأتباع المؤثرين إلا في سويسرا التي استقر فيها حتى مماته.
ومن المآسي التي وثقها التاريخ الأوروبي في هذا السياق، وتبين إلى أي حد وصلت الاستهانة بالدماء والحرمات، ما يروى من أن حملة عسكرية خرجت لمطاردة بضع مئات من البروتستانت الذين كان الكاثوليك يطلقون عليهم مصطلح الهراطقة أي الزنادقة المرتدين، ووصل البروتستانت إلى مدينة فيها كنيسة كاثوليكية ضخمة تتسع للآلاف، وكانت مليئة عن بكرة أبيها بسبب حضور الناس لإحدى المناسبات العامة، فدخل البروتستانت وسط هذه الآلاف من الكاثوليك فتوقف القائد الذي يطاردهم وانتظر حتى وصل القائد الأعلى مخبرا إياه بأن المئات من الهراطقة قد اختفوا وسط الآلاف من إخوانهم الكاثوليك، فقال له القائد الأعلى: اقتل الجميع والله سيعرف أصحابه يوم القيامة!
حروب وضحايا بلا حساب:
ولا نريد أن نعدد الحروب التي حدثت بين شعوب أوروبية وغربية على أسس طائفية فهي من الكثرة بمكان، وإن كانت الشعارات التي رفعت بعد تسيّد العلمانية، شعارات قومية أو مصلحية، لكن الخلفية التي ظلت تحرك العقل الباطن حتى بعد نبذ الدين واعتناق العلمانية هي خلفية طائفية بامتياز، كما حدث بين فرنسا الكاثوليكية وبريطانيا البروتستانتية مرات عديدة، وكما حدث بين أمريكا البروتستانتية والمكسيك الكاثوليكية، وظهر ذلك حتى في الحروب الأهلية، كالحرب الأهلية الأمريكية والحرب الأهلية الأيرلندية التي لم تتوقف إلا منذ أمد بسيط وما تزال جذوة الكراهية تستعر تحت رماد العلمانية، مهددة باندلاع الحرب في أي وقت، مثل البراكين الكامنة!
ويكفي للتدليل على ضراوة الكراهية وسط المجتمعات المسيحية في الغرب، أن نتذكر بأن القرن العشرين الميلادي شهد حربين عالميتين اثنتين، انتهت الأولى بمقتل أكثر من عشرين مليون إنسان، أما الثانية فلم تنته إلا بقنبلتين نوويتين، بعد أن زاد عدد القتلى عن سبعين مليون، بل تشير بعض تقديرات المؤرخين إلى أن العدد يصل إلى مائة مليون قتيل!
ومع أن هاتين الحربين توصفان بالعالميتين إلا أن الأغلبية الساحقة من الجناة والمجني عليهم هم من المسيحيين، ولم يقف الأمر عند ضالقتل، فقد دمرت مدن بكاملها وسويت بالأرض وتم اغتصاب ملايين النساء من الطرفين ولا سيما الطرف المنهزم، كما حدث للنساء الألمانيات بعد هزيمة بلدهن في الحرب العالمية الثانية، وهنا تتجلى الحقيقة القرآنية التي وردت في قوله تعالى: {فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}
بين أوكرانيا وروسيا:
ومع أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى طائفة واحدة هي الأرثوذكسية، وإلى عرقية واحدة وهي العرقية السلافية، إلا أن العامل الطائفي حاضر بصورة غير مباشرة لكنها فاعلة!
فروسيا بوصفها أكبر بلد أرثوذكسي في المساحة والسكان والقوة العسكرية، ظلت تحتضن الكنيسة الأرثوذكسية بعد سقوط مدينة القسطنطينية بيد الأتراك وتحولها إلى عاصمة إسلامية، وتشعر روسيا بأن الأرثوذكس مهضومون وأن البروتستانت والكاثوليك اقتسموا العالم ولم يعطوهم ما يستحقون كإخوان لهم في المسيحية وشركاء في الثقافة الغربية العامة وفي الهجمات الاستعمارية للنيل من الثقافات والحضارات الأخرى!
وكما أن البلدان البروتستانتية مصطفة خلف الولايات المتحدة الأمريكية، والبلدان الكاثوليكية متخندقة خلف فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، فإن روسيا تريد أن تصطف البلدان الأرثوذكسية خلفها، وبالطبع فإن أوكرانيا هي ثاني أقوى بلد أرثوذكسي بعد روسيا وجار قريب لها وبينهما صلات جغرافية ووشائج تاريخية ومصالح مشتركة، لكن دعم الغربيين وخاصة أمريكا وألمانيا وبريطانيا، وهي بلدان بروتستانتينية، للانقلاب الذي حدث على الرئيس السابق الموالي لموسكو، ودعم الرئيس الحالي ذي الديانة اليهودية وصاحب التوجه الغربي المطالب بالانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، قد أظهر لروسيا حجم التآمر الغربي والخيانة الأوكرانية، رغم الوشائج المذكورة ورغم أن روسيا ما تزال ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم، بجانب أن بعض الأقاليم الأوكرانية التي يتواجد فيها ١٢ مليون روسي، كانت في الأصل روسية وقد ضمها لينين إلى أوكرانيا بعد قيام الاتحاد السوفياتي من أجل تذويب الحدود السابقة بين شعوب الاتحاد السوفياتي!
ومن هنا فإن الرئيس الروسي بوتين يشعر بالغبن من عدم مراعاة منافسيه البروتستانت والكاثوليك لمصالح طائفته الأرثوذكسية وقوميته السلافية ومعسكره الذي يمثل امتدادا لحلف وارسو، وبأن تحالف الكنيسة الغربية يبذل اقصى جهوده من أجل إقصاء الكنيسة الشرقية من مكانتها المستحقة كجزء من حكام العالم في هذا الزمان!
وهذا ما صرح به بوتين والمسؤولون الروس والمحللون السياسيون، ولكن دون استخدام مصطلح الكنيسة وأسماء الطوائف؛ وذلك بسبب الثقافة العلمانية التي يدينون بها وتمنعهم من استخدام المصطلحات الدينية والطائفية، لكنها حاضرة في العقول والقلوب وفاعلة في الميدان!
ولاستمالة المتدينين فإن السياسيين يرسلون بعض الرسائل ذات المنحى الديني بين الحين والآخر، كما فعل بوتين حينما ذهب لتعميده من قبل قيادة الكنيسة الأرثوذكسية، وحديثه عن أن جنوده الذين سيسقطون في هذه الحرب سيدخلون الجنة، بينما لن يجد الجنود الأوكرانيون وقتا للتفكير الذي يمنعهم من دخول النار؛ لاعتقاده بأن موالاتهم للغربيين المختلفين عنهم في الطائفة، قد جعلتهم خائنين للكنيسة الشرقية، وأن تسببهم في انشقاق الأرثوذكس قد صيّرهم عملاء للغرب وطليعة للاستعمار الأنجلو ساكسوني!
وقد صرح بوتين قبل أيام عديدة أن أمريكا تريد أن تأخذ نصيبا من الكعكة الروسية!