الكتاب الخامس: الرؤية الاقتصادية للمشروع الإسلامي

“ما ينقص الحركة الإسلامية”

قراءة في سلسلة المشروع الحضاري الإسلامي ..

للدكتور عطية عدلان

 الكتاب الخامس: الرؤية الاقتصادية للمشروع الإسلامي

عرض وقراءة د. وصفي عاشور أبو زيد(*)

في حلقات أربع سابقة قدمنا قراءة لأربعة كتب ضمن سلسلة المشروع الحضاري الإسلامي التي قام بتأليفها د. عطية عدلان، الأول هو: “القيم الحاكمة للمشروع الحضاري الإسلامي”، والثاني هو: “منطلقات المشروع الإسلامي”، والثالث هو: “المفاهيم المئة المتعلقة بالمشروع الإسلامي”، والرابع هو: “النظام السياسي الإسلامي ومؤهلات التفوق”، وهي سلسلة – كما قلنا – تضع أطرًا عامة للمشروع الحضاري الإسلامي، وتجمع إلى الإطارِ النظريّ الإجراءاتِ العمليةَ التطبيقية.

وفي هذا الكتاب الخامس الذي جاء بعنوان: “الرؤية الاقتصادية للمشروع الإسلامي” يقدم د. عطية عدلان، ولأول مرة تصورا نظريا عمليًّا يقدم به رؤية الإسلام للاقتصاد في الدولة وللأمة، وهو ما تفتقده الحركة الإسلامية في مشروعها الحضاري؛ حيث نُشر الكتاب في دار الأصول العلمية باسطنبول، وجاء في 255 صفحة.

أسئلة الكتاب

وقد صدَّر د. عدلان الكتاب بعدد من الأسئلة جعلها مسوغًا للقيام بوضع هذه الرؤية الاقتصادية الشاملة، وهي: هل يوجد في الإسلام نظام اقتصادي؟ هل هناك وجود لما يسمى بالنظام الاقتصادي الإسلامي؟ أم أنّها مجرد جملة من المبادئ مع جملة من الأحكام، تتدخل لتعديل مسار النظم الاقتصادية إذا انحرفت عن الجادة وصارت ضد مصالح الإنسانية؟

ويقرر المؤلف – وفقه الله – جوابًا عن هذه الأسئلة: أنّ الاستقراء التام لشرائع الإسلام يثبت أنّ الأمر فيما يتعلق بالاقتصاد لا يتوقف عند حدّ مجموعة من القيم المتناثرة مع مجموعة من الأحكام المبعثرة، وإنّما هي منظومة قيمية متماسكة، ينبثق عنها تشريع واسع ممتد، لا يقف عند حد التحليل والتحريم، وإنّما يتسع ليضع مجموعة من البرامج والأدوات التي تعمل على تحقيق غايات متسقة غاية الاتساق مع المنطلقات التي تُرسيها هذه المنظومة القيمية المتماسكة؛ فهو نظام إِذَنْ، وماذا يكون النظام إن لم يكن هذا نظاما؟

وقد عرّف المؤلف الاقتصاد الإسلاميّ بأنّه: “النشاط والسعي المنضبط بأحكام الشريعة الإسلامية في مجال تنمية الثروة والحفاظ عليها وترشيد إنفاقها بما يحقق مقاصد الإسلام”، ومن ثمَّ يمكن تعريف النظام الاقتصادي بأنّه: “جملة من البرامج الاقتصادية والخطط التنموية والأجهزة والمؤسسات المالية، تحكمها وتنظمها جملةٌ من القيم والمبادئ والأحكام المتسقة”. أمّا النظام الاقتصادي الإسلاميّ فيمكن تعريفه بأنّه: “مجموعة من البرامج الاقتصادية والخطط التنموية والأجهزة والمؤسسات المالية، تحكمها وتنظمها مجموعةٌ متسقة من القيم والمبادئ الإسلامية والأحكام الشرعية”.

ومن مسوغات كتابة هذا الإصدار نظرة المؤلف للتاريخ والواقع فيما يتعلق بالنظم الاقتصادية وأنظمة التعامل معها، وكيف أن حياة الناس اختلفت شرقًا وغربًا باختلاف النظم الاقتصادية، ففي الغرب – الأكثر تأثيرًا في عالمنا الإسلاميّ – تطورت النظمُ الاقتصادية، من رأسمالية عاتية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى رأسمالية ذات مضامين اجتماعية استمرت إلى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، إلى رأسمالية نيوليبرالية أشد عُتوًّا من الرأسمالية الأولى التي سادت في القرن التاسع عشر، وفي ظلّ الرأسمالية كلها ولا سيما هذه الأخيرة اتسعت وتعمقت الهوةُ بين الأغنياء وسائر الناس بصورة لا يكاد العقلُ يسبر غَوْرَها، واختلت موازين العدالة الاجتماعية بشكل يدير الرؤوس لدى تأمله والتفكر فيه، وتركزت الثروةُ والسلطة في يد حفنة من المرابين بما يجعل مصائر الأمم رهن بعض العائلات الثرية في العالم، أمّا “الاتجار بالبشر والسخرة وظروف العمل السيئة والمنتجات غير الآمنة وتدمير البيئة”؛ فهذه جميعها قضايا مستمرة، وصار من الصعب إن لم يكن من المستحيل علاجها، ما لم يقع انقلاب جِذريّ في النظم الاقتصادية والسياسية العالمية يفتح الباب لإصلاح سياسي واقتصادي شامل؛ فهل يُقدم الإسلام أنموذجا يُحتذى في ميدان الاقتصاد؟ هذا ما تُجيب عنه سطور هذا الكتاب.

ثلاثة موضوعات رئيسة في الكتاب

    قام المؤلف بالتأكيد على أن الاهتمام منصبٌّ ليس فقط على بيان أنّه نظام متكامل الأركان؛ فتلك غاية ستتحقق تبعًا، وإنّما سينصب الاهتمام على بيان أسس هذا النظام ومؤسساته، مع إعطاء رؤية واضحة لكيفية تطبيق هذا النظام في واقعنا المعاصر، وكيفية التحرر من ربقة النظام الدوليّ المهيمن، القائم على الربا، والاحتكار، وأكل أموال الناس بالباطل، وابتزاز ثروات الأمم ومقدرات الشعوب، والذي يحُول دون قيام نظام اقتصادي عادل؛ لذلك تضمن هذا الكتاب المهم دراسة ثلاث أفكار وموضوعات رئيسة هي:

الموضوع الأول: النظرية الاقتصادية الإسلامية بمحاورها الثلاثة: الأسس العقدية والتشريعية والأخلاقية، والمؤسسات وما يتصل بها من برامج للتنمية، والمقاصد والغايات وما ينبثق عنها من أهداف.

الموضوع الثاني: كيفية الخروج من هيمنة النظام الدوليّ، والحديث حولها يتطرق إلى توصيف المشكلة وتاريخها وجذورها ومخاطرها، وإلى اقتراح الأدوات التي تساعد على الخروج من أسْر المنظومة العالمية الظالمة، إضافة إلى إعطاء صورة واضحة عن الحلول الإسلامية للمشكلة الاقتصادية التي تعاني منها البشريةُ كلها، وبهذا تكون سبل الخلاص قد تهيأت من الناحية النظرية.

الموضوع الثالث: تقديم برنامج عملي للاستثمار والتنمية؛ عبر طرق من الاستثمار الحلال، تجمع بين أمرين: الأول: موافقة الشريعة وعدم مصادمة الأحكام، الثاني: الإبداع في الاستثمار والتنمية.

خارطة الكتاب

ولأجل تناول هذه الموضوعات الثلاثة الرئيسة، اقتضت طبيعة الدراسة أن تكون في مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول، وقائمة مراجع شاملة استغرقت اثنتي عشرة صفحة، وخاتمة.

ففي المقدمة قدم الأسئلةَ التي تولّت الدراسةُ الجواب عنها، وبيان الموضوعات الرئيسة للكتاب، وتقسيمه لفصول ومباحث.

وفي التمهيد عرف الاقتصاد، والمال، الاقتصاد الإسلامي، وبين ميزة الاقتصاد في الإسلام عن غيره من النظم، مؤكدًا على تميزه ابتداء بجملة من الخصائص، ليست مقصودة هنا بالدراسة، لذلك ذكرها إجمالا، ولن يدلل عليها؛ لأنّها بدهية، يدل عليها مجردُ عزوها للإسلام ولشريعة الإسلام، وهي: “ربانية المصدر – ربانية الهدف – التوازن بين المادية والروحية – التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة – الواقعية المتسامية – الشمول والكمال – الجمع بين الثبات والمرونة”.

وفي الفصل الأول تحدث عن النظرية الاقتصادية الإسلامية أو النظام الاقتصادي الإسلامي ومؤسساته، وتحدث فيه عن الأسس العقدية والتشريعية والأخلاقية للنظام الاقتصادي الإسلامي.

أما الفصل الثاني فقد رسم فيه معالم الخروج وكيفية التحرر من المنظومة المالية العالمية المهيمنة، من خلال الحديث عن النقد في نظر الشريعة، وتاريخ تطور النقد، وسبل الخروج من الهيمنة.

وأما الفصل الثالث والأخير فقد تحدث فيه عن البرنامج العملي للاقتصاد الإسلامي، وفصل فيه القول عن: النظام المصرفي البديل، والبرامج التنموية البديلة.

أسس النظام الاقتصادي ومُكوّناته

في فصول الكتاب الثلاثة تحدث المؤلف عن قضايا وأفكار مهمة، ففي الفصل الأول كان الحديث عن أسس النظام الاقتصادي الإسلامي، فذكر الأسس العقدية، وهي: الاستخلاف، والكفاية والوفرة، والقصد، والمسئولية، والعمارة.

ثم تحدث عن الأسس التشريعية، وذكر منها: الانضباط بأحكام الشريعة، والعدالة في توزيع الثروة ودور الدولة في ذلك، والحرية المنضبطة بالشرع، والملكية المزدوجة، وضرورة استقرار النقد، وحماية الأسواق، والحوافز الاقتصادية.

وتحدث في هذا الفصل كذلك عن الأسس الأخلاقية، وذكر منها: التراحم والإنسانية، والمسئولية، والأخلاقية.

كما تحدث في هذا الفصل عن مؤسسات النظام الاقتصادي الإسلامي التي يكوّنها (بيت المال وما يتفرع عنه)، وقرر أنه باستقراء الأحكام المنظمة لعمل بيت المال يتضح أن مؤسسة بيت المال تتكون من ستة عناصر، ما بين مادية وبشرية وقانونية، وهذه العناصر في مجموعها تُكوّن المؤسسة، وهي: الخزانة العامة وفروعها – الجهاز الإداري – الإيرادات – النفقات – الموارد الاقتصادية العامة والنشاط الاقتصادي – حزمة التشريعات، وتتحدث عن السياسات العامة لبيت المال.

ومن أهم ما جاء في هذا الفصل حديثه عن: مقاصد وغايات النظام الاقتصادي الإسلامي، ومن ذلك: تحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز الكفاءة الاقتصادية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي أو التعاوني، وبناء القوة والإعداد، والقيام بالعمارة والحضارة.

النظام الاقتصادي العالمي الظالم وسبل التخلص منه

وفي الفصل الثاني وهو فصل مُشخّص ومُواجِه للسيطرة العالمية والفساد الاقتصادي العالمي، فقد بين المؤلف – وفقه الله – أن أساس البلاء في عالم الاقتصاد والمال يتلخص في ثلاثة أمور: النظام الربوي العالمي، والسياسة النقدية الدولية، والهيمنة الدولارية، تدعمها ثلاث مؤسسات هن أصل المظالم الاقتصادية والمالية في هذا العالم، هي: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، فهذه ستٌّ سابعُها نظامُ السويفت المهيمن، الذي يضم أكثر من أحد عشر ألف مؤسسة مالية في مائتي دولة حول العالم.

وأكد المؤلف أنه لا يمكن بحال الاستمرارُ في الحديث عن نظام نحلم به في الاقتصاد ونحن أسرى لنظام عالمي مهيمن، لا يدع الناس يتحركون عند تخوم أسواره العالية، ويستمر في ابتزاز أقوات الشعوب، وتسخيرها في التسليح، وبناء القواعد العسكرية، ونشرها في أقطار الأرض لتحقيق الهيمنة العسكرية، والتمكين من خلالها للهيمنة السياسية والاقتصادية، بل يجب أن يتضمن حديثنا عن نظامنا الاقتصادي خطة التحرر من هذا السجن شديد الحراسة، فهل من سبيل للخلاص؟ هذا ما ناقشه هذا الفصل من خلال مباحث ثلاثة، يتحدث أحدها عن النقد وخصائصه في نظر الشريعة الإسلامية، ومن ضرورة استقراره ليبقى حكما عادلا وميزانا فاصلا، ويتحدث الثاني عن تاريخ تطور المنظومة النقدية العالمية، ثم يأتي الثالث ليقترح سبيلا للخلاص، ومحاور للخروج من الهيمنة، ومنها: خطة التنمية والتكامل الاقتصادي، وخطة امتلاك القوة، ويضع توصيات هامة قبل استكمال الحديث عن النظام الاقتصادي، مقررا أنه يجب أن نضع في اعتبارنا أن هذه الهيمنة لها جوانب متعددة، فانفصال الدولار عن قاعدة الذهب وتفرده كعملة عالمية هيمنةٌ ظالمة، والديون المسلطة على رقاب الضعفاء هيمنة أخرى، إضافة للنظام الربوي.

البرنامج العملي للاقتصاد الإسلامي

أما الفصل الثالث فهو من أهم ما جاء في هذه الدراسة، وهو عن البرنامج العملي للاقتصاد الإسلامي، وهو بحق ما تفتقر إليه الحركة الإسلامية التي وقفت عند حدود الكلام النظري العام، والأطر الكلية والمبادئ الكبرى، في حالة غياب عن وضع البرامج العملية لتقديم اقتصاد إسلامي حقيقي.

وقد أكد المؤلف في بداية هذا الفصل أنه لا يتم التصور العام للنظام إلا بالتطرق إلى البرامج العملية التي تتسق مع قيمه ومبادئه، وتنبثق من أسسه العامة وقواعده الكلية، وإلا بقيت نظريةً فقط، لا ترتقي لمستوى النظام القابل للتطبيق ولو بالتدريج، وإذا كنا نُسَلِّم أن الإسلام قد أتى في عالم الاقتصاد بنظام كامل؛ فمن الضروري أن يكون لهذا النظام برامج عملية، تتنوع ما بين برامج للتنمية والاستثمار والبناء والإعمار، وبرامج أخرى للإدارة النقدية المصرفية، وهذا ما تعرض له هذا الفصلُ باختصار وإيجاز، من خلال مبحثين، الأول: النظام المصرفي الإسلامي، الذي يقوم على أنواع الشركات المشروعة، القديم منها والجديد، وكذلك المضاربات المشتركة، والنظام النقدي القائم على قاعدة الذهب. والمبحث الثاني: تحدث فيه عن البرامج التنموية، برامج التنمية الاقتصادية في الإسلام، وهو ما لا يتوقعه الكثيرون حتى من الإسلاميين ومفكريهم؛ وذلك لطغيان النظامين الرأسمالي والاشتراكي، وقيام النظام العالمي على البنوك الربوية مدة أكثر من قرن من الزمان، وعدَّ من ذلك الشركات، والمصارف الإسلامية، والتجارات، وصكوك الاستثمار المشترك، وغير ذلك.

*****

نستطيع القول بعد استعراض هذه الدراسة: إن الإسلام تضمن نظامًا اقتصاديًّا حقيقيًّا، يتمتع بقيم عقدية وأخلاقية وتشريعية، تنسجم مع التشريع الإسلامي وتحقق مقاصده في حياة الناس، وتحدد له هويته الخاصة المستقلة، كما أن لهذا النظام مؤسساتِه وأجهزتَه وإجراءاتِه، وليس مجرد مجموعة من القيم والمبادئ والأسس كما يتصور البعض، وأنه لا يمكننا إنشاء نظام اقتصادي قبل التحرر من المنظومة الاقتصادية العالمية المتوحشة المهيمنة الظالمة، وذلك من خلال: التنمية الوثابة وفق برامج تنموية أقرها الإسلام، والتكامل الاقتصادي بين الدول المسلمة بقدر الإمكان، ثم يكون التحرر من خلال أمرين: التخلص من قيود الديون عبر إجراءات ذكرها، وتأسيس منظومة مالية مغايرة تقوم على استعادة قاعدة الذهب.

إننا بإقامة نظام اقتصادي إسلامي حقيقي شامل، جامع بين الأطر النظرية والإجراءات العملية، نكون قد أنجزنا شيئًا كبيرًا في إقامة مشروع إسلامي عام لا يستغنى عن إقامة نظام سياسي عرضناه في المقالة السابقة، ويتطلب أنظمة قضائية وعسكرية واجتماعية وتعليمية، هي موجودة في الإسلام جملة وتفصيلًا، عسى أن يتعرض لها د. عطية عدلان بالتناول والتفصيل في قابل الأيام.


(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.