بقلم: أ. د. محسن محمد صالح(*)
خرج الجزائريون في 8 أيار/ مايو 1945، يحتفلون بهزيمة الألمان ونهاية الحرب العالمية الثانية في أوروبا، ويطالبون فرنسا بالوفاء بوعدها بالاستقلال. غير أن القوات الفرنسية قامت بارتكاب أحد أشهر المجازر في التاريخ الجزائري والتي عرفت بمجزرة سطيف، وتشير المصادر الجزائرية لاستشهاد 45 ألف جزائري. وفي المقابل، يرى عدد من المؤرخين أن التأريخ للثورة الجزائرية التي اقتلعت الاستعمار الفرنسي بعد 132 سنة من الاستعمار، يبدأ من مجزرة سطيف التي شكَّلت عنصر إلهام وتفجير للثورة، وليس من الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954. فقد تابع الجزائريون تضحياتهم، وواصل الفرنسيون بطشهم ووحشيتهم، حتى استشهد أكثر من مليون شهيد معظمهم مدنيون، لينتزع الجزائريون استقلالهم.
وعلى درب الجزائر، يواصل الفلسطينيون ثوراتهم وانتفاضاتهم ومعاركهم على مدى 105 سنوات (من الاستعمار البريطاني والصهيوني)، مُصرّين على حقهم الكامل في أرضهم المقدسة المباركة.
***
إفشال كسر إرادة المقاومة بمجازر المدنيين:
ما أغلى قطرة الدم، وفي الفهم الإسلامي فإن هدم الكعبة المشرفة حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دمِ امرىء مسلم. والشعب الفلسطيني شعب متفتحٌ محبٌّ للحياة، كما يحب أرضه ويعشقها، كما أن بنيته النفسية والاجتماعية مجبولة بالشرف والعزة والكرامة. ولكنه وُضع تحت الاحتلال الصهيوني تحت اختيارات قاسية، ففُرض عليه التهجير، واغتصبت أرضه ومقدساته، وضوعفت معاناته، وسعى العدو لإذلاله ولإفقاده حريته وكرامته. فكان لا بدّ من الثورة، لأن الحياة تفقد معناها والإنسان يفقد إنسانيته بلا وطن ولا أرضٍ ولا عزة ولا كرامة.
في التاريخ الاستعماري على مدى قرون، يلجأ المستعمر عادة للانتقام من المدنيين نساءً وأطفالاً ومُسنّين، ويدمّر بيوتهم ودور عبادتهم ومدارسهم وثرواتهم، لأنه يعلم أن هذا نقطة ضعف لدى الشعوب، ليجبر الثورات على الاستسلام والرضوخ، وحتى يستأنف المستعمر استعماره، بعد تدمير الحاضنة الشعبية للثورة.
وقد يختلف البطش من مستعمر لآخر، كما قد يختلف الصمود من شعب لآخر، لكن المعادلة الأساسية للتحرير هي أن تستمر المقاومة والبيئة الشعبية الحاضنة، وأن تُثبِتَ للمستعمر أن الضغط على المدنيين لن يوقف الثورة، وأنه لن يزيدها إلا قوةً واشتعالاً، وأن لا حلّ أمامه سوى الرحيل. ولو أن شعب الجزائر مثلاً توقفوا (لا قدَّر الله) في منتصف مسيرة ثورتهم بعد استشهاد 400 ألف أو 500 ألف مدني، ونجح القمع الفرنسي، لربما ظلت الجزائر حتى الآن مستعمرة فرنسية!!
لقد خسر الروس (السوفييت) في الحرب العالمية الثانية نحو 12 مليون مدني، كان بينهم نحو مليون مدني في حصار النازيين المُروّع لمدينة لينينغراد (سان بطرسبرغ)، وخسر الفييتناميون نحو مليوني مدني في حربهم لتوحيد بلدهم في الفترة 1955–1975؛ وتشير بعض التقديرات أن شهداء الأفغان المدنيين في مواجهة الغزو الروسي يصل إلى نحو مليونين، وأعداداً كبيرة لم تُحدد بدقة في مواجهة الاحتلال الأمريكي. كما زاد شهداء المدنيين في العراق عن 600 ألف تحت الاحتلال الأمريكي.
إنها معادلة صعبة قاسية مع مستعمر لا يعترف بقيمتك كإنسان، ولا بحقك في أرضك ومقدساتك، ولا يسمح لك بالحياة إلا ذليلاً مهاناً مستعبداً… ولكنك مجبر على خوضها لكنسه ولانتزاع حقوقك.
إذا لم تكن إلَّا الأسنة مركباً .. فما حيلة المضطر إلا ركوبها
المقاومة ضرورة في وجه مشروع صهيوني عدواني:
من ناحية ثانية، فإن المشروع الصهيوني بطبيعته مشروع عدواني استيطاني إحلالي توسعي، يسعى للاحتفاظ بالأرض والتخلص من السكان، وفي عقليته أن لا مكان في فلسطين لدولتين، ولا لشعبين متكافئين. وفي الأيديولوجية الصهيونية القائمة على العنف، فإن ما لا يتحقق بالقوة، يمكن أن يتحقق بمزيد من القوة. وإنشاء الكيان الصهيوني جاء بعد ارتكاب عشرات المجازر، وتنفيذ عمليات التطهير العرقي والتهجير بحق نحو شعب فلسطين، مع تدمير أكثر من 530 قرية وتجمعاً فلسطينياً. وظلت المجازر وتهويد الأرض والإنسان سلوكاً “طبيعياً” لدى الصهاينة طوال الـ 75 سنة الماضية.
وعلى سبيل المثال، فخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 استشهد وجرح نحو 55 ألفاً معظمهم من المدنيين. وفي الفترة منذ بدء انتفاضة الأقصى سنة 2000 وحتى شهر أيلول/ سبتمبر 2023 استشهد من المدنيين الفلسطينيين نحو 11,300 وجرح نحو 157 ألفاً.
ولم يشفع للفلسطينيين مسار التسوية السلمية الذي تبنته قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية على مدى الـ 30 عاماً الماضية، واستخدمه الصهاينة غطاء لبرامج التهويد والاستيطان في القدس وباقي الضفة الغربية، كما ظل قطاع غزة يعاني أكثر من 16 عاماً من الحصار الخانق، حتى تحوَّل القطاع إلى أكبر سجنٍ مفتوح في العالم، دونما أفق.
لقد فشل مسار التسوية السلمية، وسقط حلّ الدولتين، واستمر سقوط آلاف الضحايا، ودخل مسار تهويد القدس وبناء الهيكل مكان المسجد الأقصى مراحل حاسمة، كما وضع الصهاينة في ترتيباتهم إنهاء المقاومة في غزة، ووقف نتنياهو على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي (أيلول/ سبتمبر 2023) ليدعي أنه بالإمكان النجاح في التطبيع مع البلاد العربية، وتجاوز الملف الفلسطيني؛ حيث كانت الإرادة الصهيونية تسعى لعزل قضية فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي، وفرض الرؤية الصهيونية في إغلاق الملف الفلسطيني. وبلغ التجاهل العربي والإسلامي مداه، ولم تجد كل النداءات وكل أشكال التحذير الفلسطينية آذاناً صاغية، بعد أن تُركوا لوحدهم، فكان لا بدّ من “طوفان الأقصى” ليتم فرض الأجندة الفلسطينية على العالم من جديد. وبقدر ما كانت العملية صاعقة مدوية مدمرة لنظرية الردع والأمن الإسرائيلي ولهيبة الكيان ولأساس وجوده، بقدر ما أحدثت التأثير المطلوب، وأنه لا يمكن تجاوز الشعب الفلسطيني وحقوقه.
وبالتأكيد، فالمشروع الصهيوني سيسعى لاستعادة بعض هيبته من خلال المذابح والمجازر في المدنيين، وبغطاء من حلفائه العالميين، ولكنه ثمنٌ يدفعه الشعب الفلسطيني المضطر إذا كان عدم أدائه معناه ضياع الأقصى والقدس وفلسطين، وتشريد وتركيع شعبها، وسحق المقاومة، وشطب أقدس وأعدل قضية على وجه الأرض.
المقاومة أكثر جدوى:
من ناحية ثالثة، فإذا ثبت أن مسار التسوية كان الوسيلة الأسهل والأسرع للصهاينة لتهويد فلسطين وإغلاق الملف الفلسطيني، فليس أمام الشعب الفلسطيني سوى المقاومة، وهي إما أنها مقاومة ستقود بشكل متدرج متصاعد إلى التحرير، وإما أنها ستكون مقاومة بشكل موجي تصعد وتهبط وتخوض جولات من المدّ والجزر، ولكنها لا تتوقف، وربما تدفع أثماناً غالية، خصوصاً من المدنيين، غير أنها في محصلتها النهائية:
• وتحقق وعد الله بالنصر للمؤمنين، تُمضي سنة الله في هلاك الظالمين والمفسدين، وتحقق إرادة الشعوب، وأنه لا يضيع حق وراءه مطالب.
• المقاومة تفضح بشاعة الاحتلال، وتكشفه عربياً ودولياً على حقيقته التي يحاول إخفاءها، حتى لو أدت لاستشهاد مدنيين.
• المقاومة المستمرة تفقد الاحتلال الأساسيين الرئيسيين لوجوده واستقراره وهما الأمن والاقتصاد، مما يفقد جوهر فكرة وجوده “كواحة” للأمن والازدهار، وكبيئة جاذبة ليهود العالم. كما تفقده مبرر تقديم نفسه كشرطي للمنطقة، وكقوة حاسمة في الصراعات الطائفية والعرقية التي يسعى لافتعالها.
• المقاومة تقطع الطريق على التطبيع والمطبّعين، وتفقد العلاقة مع الكيان مبرراتها، كما تقطع الطريق على محاصرة الملف الفلسطيني وعزله.
• لو مضى مسار التسوية، وفرض الاحتلال رؤيته، سيظهر الشعب الفلسطيني وكأنه جرى استغفاله، أو فرّط في أرضه، وأن الاحتلال حقق أهدافه بثمن بخسٍ دراهم معدودة. وسيصبح اتهامهم بالتخاذل أسوأ من اتهامهم بالتقصير في حقّ المدنيين في أثناء المقاومة.
مواجهة المجرم لا لوم الضحية:
من ناحية رابعة، فإن بعض أصحاب “العقول المستريحة” يفضلون توجيه اللوم للمقاومة بسبب خسائر المدنيين؛ دون أن ينتبهوا أن واجبهم هو الوقوف في وجه المجرم المعتدي وليس في وجه الضحية؛ وفي منع بطش الاحتلال بالمدنيين وليس في منع المقاومة عن ممارسة حقها وواجبها؛ خصوصاً إذا كانت حاضنتها الشعبية المضحية صابرة محتسبة ملتفة حول المقاومة وبرنامجها.
المقاومة استنفذت أسبابها:
من ناحية خامسة، فالمقاومة في غزة، بذلت واستنفذت كل ما لديها من أسباب في بناء عناصر القوة، بالرغم من وجود بيئة عربية ودولية معادية ومخاصمة ومُحاصِرة، كما أعدت حاضنتها الشعبية بما تستطيع، وأعدت لطوفان الأقصى كل عناصر النجاح بحيث حققت العملية هدفها الأساس بشكل مذهل منذ اليوم الأول.
وبالتأكيد فقد كانت تتوقع عدواناً شرساً من الاحتلال، لكن هناك أموراً يصعب توقعها بدقة ليس لدى المقاومة فقط، وإنما لدى كافة الأجهزة ومراكز الدراسات والمخابرات في أقوى دول العالم. فقيام تحالف دولي بقيادة أمريكية، وتوفير غطاء كامل للمجازر الصهيونية، وتشديد السيطرة على الإعلام لنشر الرواية الصهيونية ومحاربة المحتوى الفلسطيني بشكل غير مسبوق، على وسائل التواصل؛ والتواطؤ والتخاذل العربي الذي لم يدفع البلدان المطبّعة حتى لمجرد طرد السفير الصهيوني أو استدعاء سفيرها، والذي منع حرية التعبير في التعاطف مع فلسطين في عدد من البلدان العربية؛ حتى سلطة التنسيق الأمني أدت دورها المتخاذل في الضفة الغربية… كل ذلك وصل إلى درجات غير مسبوقة، وكأن الجميع ينتظر بشوق لحظة الإجهاز على حماس وقوى المقاومة.
ولكن بعد أن أدت غزة ما عليها وبذلت أسبابها، فلا تلام على ما اجتهدت فيه، والغيب بيد الله، قال تعالى “ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء” سورة الأعراف، 188. وحتى الأنبياء والرسل والقادة العظام عبر التاريخ، كانوا يقدرون أو يقررون أمراً، فيمضي الله سبحانه قدره بخلاف ذلك، كما حدث مثلاً في غزوة أحد، أو بئر معونة… وغيرها.
من جهة أخرى فما زلنا في خِضَمّ المعركة، وللمقاومة الكثير مما تقدمه، ولعل الله يفتح على يديها، والوقت وقت نُصرة وتثبيت، والأصل الوقوف إلى جانبها لا الاستعجال باللوم والإرجاف.
وبالتأكيد فمدى بشاعة الاحتلال وإجرامه (وهو أمر يقرره الاحتلال نفسه، ويتحمل مسؤوليته) كان أمراً يكاد يفوق التصور في الانتقام من المدنيين، واستخدام متفجرات يزيد مجموع قوتها التفجيرية عن القنبلة النووية التي أسقطت على هيروشيما بحسب خبراء، ومع ذلك فإن الاحتلال حتى اليوم الحادي والعشرين لم يجرؤ بعدُ على منازلة المقاومة في الميدان.
مقاومة ملتحمة بحاضنتها الشعبية:
من ناحية سادسة، فإنّ المقاومة في غزة ملتحمة مع حاضنتها الشعبية، وقياداتها السياسية والعسكرية والتنظيمية تعيش في وسط الناس وتحيا همومهم، وقاعدتها الشعبية هي الأوسع في قطاع غزة مقارنة بغيرها، ويجري عليها ما يجري على الجميع. بل إن العدوان الصهيوني كان أكثر تعمداً في استهداف كوادر حماس وتدمير المؤسسات المحسوبة عليها باعتبارها الجهة المسؤولة عن طوفان الأقصى وعن إدارة القطاع، فاستشهد الكثير من القيادات والكوادر في أثناء العدوان، وفي كل يوم تأتي أخبار بارتقاء العديد منهم.
وعلى سبيل المثال، ففي هذه المعركة استشهد خمسة من عائلة قائد الحركة إسماعيل هنية، واستشهد حتى الآن على الأقل ثلاثة من أعضاء المكتب السياسي لحماس، واستشهد رئيس مجلس شورى حماس في القطاع أسامة المزيني، واستشهد شقيق القائد العام للقسام محمد الضيف وابن شقيقه وحفيدة شقيقه، ومن أعضاء المجلس العسكري لكتائب القسام استشهد أيمن نوفل، واستشهد ابن أو اثنين لكل من أعضاء المجلس العسكري أبو أنس الغندور(ابنين)، وأبو أنس شبانة (ابنين)، وأبو معاذ عقل (ابنه)، وأبو عمرو عودة (ابنه)؛ كما استشهد ابن عضو المكتب السياسي لحماس نزار عوض الله، وابن عضو المكتب السياسي لحماس أبو حامد أبو عون وأحفاده الثلاثة… وغيرهم الكثير. ولذلك، كان من الطبيعي أن تظهر الحاضنة الشعبية صموداً أسطورياً، وأن تقدم أداءً بطولياً.
صناعة التاريخ:
وسابعاً، فإن صناعة التاريخ لا يقوم بها فقط الأبطال الذين يحققون الانتصارات، وإنما أيضاً الرموز المضحون وأصحاب الرسالات (من المدنيين) ممن يستشهدون لأجل مبادئهم، ويصبحون منارات هادية ومصادر إلهام لشعوبهم، فتتبع نهجهم، حتى تنتزع حريتها وتحرر أرضها.
إن الأدبيات الإسلامية مليئة بالتأكيد على عزة المسلم وكرامته، وحضه على الجهاد والاستشهاد ورفض الذل والهوان والتضحية في سبيل العدل والحرية وانتزاع الحق، وتبقى قضية فلسطين قضية مقدسة في قلب كل عربي ومسلم وإنسان حر. فلا يتوقعن الاحتلال الصهيوني أن يجد بيئة مريحة متعايشة، وستُبذل التضحيات وتُدفع أعلى الأثمان حتى النصر والتحرير.
***
وأخيراً، فالسؤال الأهم لمن يخشى على المدنيين هو: هل قمتم بواجبكم، وماذا قدمتم لحمايتهم، وكيف تدعمون المقاومة وصمود حاضنتها الشعبية، وهل تبذلون “ما استطعتم” بكل ما تعنيه الكلمة، من خلال إمكاناتكم ومواقعكم؟.
(*) مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تم نشر أصل هذا المقال على موقع “عربي 21″، بتاريخ: 2023/10/27م.