د. مصطفى السباعي
لا يسع الباحث في حضارتنا الخالدة وآثارها إلا أن يعني بالنزعة الإنسانية التي تميزت بها حضارتنا عن كل الحضارات، فنقلت الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة والعصبية إلى أجواء الحب والتسامح والتعاون والتساوي أمام الله، ولدى القانون، وفى كيان المجتمع تساويا لا أثر فيه لاستعلاء عرق على عرق، أو فئة على فئة، أو أمة على أمة.. وإن هذه النزعة لتتجلى في مبادئ حضارتنا وتشريعها وواقعها.
أما النزعة الإنسانية في مبادئها فذلك حين يعلن الإسلام أن الناس جميعا خلقوا من نفس واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} النساء- 1..
فالأصل البشري لأبناء البشرية قاطبة هو أصل واحد. ومهما تفرق الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبلدان وأجناس، فإنما هو كتفرق البيت الواحد والأخوة من أب واحد وأم واحدة. وما كان كذلك فسبيل هذا الاختلاف في أجناسهم وبلدانهم أن يؤدي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، ومن ذلك انبثق المبدأ الإنساني الخالد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات- 13. والكل سواء، سواء عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم لا تمايز بينهم إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الحجرات- 13. وهم سواء أمام القانون في الخضوع له، لا تمايز بينهم إلا بالحق {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} الزلزلة- (7-8). وهم سواء في كيان المجتمع، يتأثر قويهم بضعيفهم، ومجموعهم لعلم أفراد منهم (مثل المؤمنين في توادَهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) رواه مسلم وأحمد.
وأما النزعة الإنسانية في تشريعنا الحضاري، فإنك لتلمس ذلك واضحا في كل باب من أبواب التشريع، في الصلاة يقف الناس جميعا بين يدي الله لا يخصص مكانا لملك أو عظيم أو عالم. وفي الصوم يجوع الناس جوعا واحدا لا يفرد من بينهم أمير، أو غني، أو شريف. وفي الحجّ يلبس الناس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفاً واحداً، ويؤدون منسكاً واحداً، لا تمييز بين قاص ودان، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة.
فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني وجدت الحق هو الشرعة السائدة في العلاقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يحمله القانون ليفئ إليه مضطهد ومظلوم.
فإذا انتقلت من ذلك إلي القانون الجزائي وجدت العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس، فمن قتل قُتل، ومن سرق عوقب، ومن اعتدى أُدب، لا فرق بين أن يكون القاتل عالما أو جاهلا، والمقتول أميرا أو فلاحا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين، أو صانع النسيج، والمعتدي عليه أعجمياً أو عربياً، شرقياً أو غربياً، فالكل سواء في نظر القانون {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} البقرة- 178.
ويسمو التشريع إلى أرفع من هذا حين يثبت الكرامة الإنسانية للناس جميعا بقطع النظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم فيقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} الإسراء- 70. هذه الكرامة هي التي تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة والعقيدة والعلم والعيش، هي للناس جميعا، ومن واجب الدولة أن تكفلها لهم على قدم المساواة بلا استثناء.
ويسمو التشريع فوق هذا إلى ذروة عالية من السمو الإنساني حين يجعل أساس المثوبة والعقاب للناس لا على ظواهر أفعالهم بل على نواياهم (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم) رواه مسلم. فالنية هي محل المؤاخذة أو الإثابة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه أئمة السنة كلهم. والنية المقبولة عند الله هي نية الخير والنفع للناس وابتغاء وجه الله ومرضاته دون غرض مادي، أو نفع تجاري {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الحج- 78.
ويبلغ التشريع أعلى ذروة من النزعة الإنسانية حين يقرر وحدة العوالم كلها من إنسان وحيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك في سلك العبودية لله والخضوع لنواميس الكون، وما أروع ما يطلبه القرآن من المسلم أن يذكره في كل ركعة من ركعات صلاته {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} سورة الفاتحة.
إنه لواجب أن يذكر المسلم أنه جزء من الكون مخلوق لإلّه واحد متصف بالرحمة البالغة الشاملة، فليكن المسلم في هذا العالم الذي يعيش فيه وهو محتاج إليه مثالا للرحمة التي يتصف بها الله، وهو غني عن العالمين.
من كتاب: من روائع حضارتنا، للدكتور مصطفى السباعي.