بقلم الأستاذ الدكتور جمال عبدالعزيز أحمد(*)
إن المتأنيَ في النظر إلى أحداث الهجرة المباركة، المستملِيَ لوقائعها، الشادِيَ في استنباط دروسِها، والواقفَ على استخراج أحكامها، وإدراك حِكَمها – سيخرج بمعانٍ عديدةٍ، ودلالات كثيرة، فريدةٍ، يمكنها أن تنتشلَ المسلمَ من هذا الواقع، وترفعَه من وَهْدَتِهِ، وتقيلَه من عثرته، وتقيمَه من رقدته، وتنهضَ به من كَبْوَتِهِ، وتغيِّرَ مستقبله إلى الأجمل، وواقعه إلى الأفضل، وحياته كلها إلى الأحسن، ويَمشي على هَدْي، ونور من أمره.
نتكلم على حول “الهجرة بين تغيير الواقع، واستشراف المستقبل”، وعودة إلى روح الإسلام الجليلة الراقية في النظر إلى المرأة، إن الهجرة تغيير للأحسن، وتعديل للأقوم، وعودة إلى روح الإسلام الجليلة الراقية في النظر إلى المرأة، ثم أيضًا هذا عبد الله بن أبي بكر اختاره الرسول بدقة لمهمة نقل أخبار قريش في مرحلة الكُمُون في الغار، وقبل بدء مرحلة الوصول إلى المدينة المنورة، حيث يكون سحابة النهار في مكة، يراه الناس، ويجمع الأخبار من أفواههم، ويتعرف على ما يدور بينهم بشأن الرسول، وصاحبه، ثم هو بليل يقوم بمهمة المخابرات العسكرية، وكتيبة جمع المعلومات، ووجوب إيصالها إلى القائد، ووضع كل ما يدور في بيوتاتِ مكة بين يديه الشريفتين، ثم هو قبيل الفجر يعود أدراجَه إلى مكة، فيصبح، وكأنه كان فيهم، وبين ظهرانَيْهم، لم يشعر بخروجه، ورجوعه أحد، فلا يقوى على ذلك إلا شابٌّ قويٌّ، فتيُّ البنية، ذكيٌّ، ألمعيٌّ، يتمتع بعقل حصيف، وقلب رهيف.
وهكذا يجب أن نختار لكل مهمة من يحسنها في أعمالنا ، كمديرين، أو رؤساء شركات، أو عمداء كليات، أو رؤساء جامعات، أو معاهد، أو مؤسسات ثقافية، وعلمية، واقتصادية، وكما يقولون:” وضع الرجل المناسب في المكان المناسب”.
في الهجرة نتعلم من رسولنا الكريم كيف يكون التخطيط للواقع، وتغييره؛ للانطلاق ناحية المستقبل برؤية علمية دقيقة، ونظرة فكرية ثاقبة، وهذا كذلك عامر بن فهيرة، مولى لأبي بكر ، كانت مهمته – وهو راع لأغنام أبي بكر- يُحْسِنُ رَعْيَ الأغنام، ويقوم على شأنها: أن يقوم بتسريح أغنامه خلف خُطا الرسول الكريم، وصاحبه حتى لا يراها مقتفو الأثر، الذين يَعرِفون بكل دقة مواضعَ الأقدامِ، ويتوصلون إلى نتائجَ مذهلة في ذلك، وكان العربُ يُعرَفون بمهنة قَفْوِ الأثر، حيث يعرفون من هذا؟، وأين مشى؟، وإلى أين اتجه؟، وهل هو رجل، أم امرأة ؟، وهل هي بقرة عمياء، أم ببصرها الكامل؟، وهل كانت عوراء، أم لا؟، كانوا يحترفون هذه المهارة، فكانت مهمته التعمية عنهم، حيث إن الغنم تمحو أيَّ أثر، وتُعِيد تشكيل الأرض بحيث لا يعرف هؤلاء إلى أين مضى الرسول، وصاحبُه، وإلى أين اتجها، فاختاره الرسول لهذه المهمة خصيصا، وكانت مهمته دقيقة ، وقام بها خير قيام، وهذا مثَّل شريحة الموالي، وأغنامه مثلتْ شريحة الحيوان مع الرواحل، ومع حصان سراقة بن مالك كذلك ؛ لأنه- في رأيي- فإن جميع العوالم والكائنات تعاونت في إنجاح مهمة الهجرة، والجميع اشترك: حيوانا وطيرا، وإنسا وجنا، وغازا، وماء، ورجالا ونساء، وأرضا، وسماء، ومسلمين، ومشركين.
فهل نحن نحسن دراسة مشكلاتنا الواقعية، والمستقبلية بذلك التوسع ، وهذا التخطيط ، وتلك الرؤية الشاملة الواعية الحصيفة؟!.
وهذا أيضا عبد الله بن أريقط أحد مشركي مكة، استأمنه الرسول على الهجرة، فقبل، واختاره؛ لكونه ماهرا خريتا بدروب الصحراء، ومداخلها، ومخارجها، وأعلامها، وطرقها، ولم يقل:” هذا مشرك، لا نستعين به”، نحن – بوصفنا مسلمين واعين- نحترم الآخر، ونقدر تعبه ،وفنه ، وتخصصه، ومهارته، وخبرته، ونمد أيدينا إلى الجميع، ونحرص على الإفادة من أيِّ إنسان ، ونجتلبه إلى بلادنا، نستعين به، شريطة ألا يتحكم في مستقبل ديننا ، ومستقبل بلادنا، نستأجره فإذا انتهت مهمته عاد إلى بلاده معززا مكرَّما، لا نهينه، ولا نحقره ؛ لكونه على غير ملتنا، أو يخالف ديننا، ولا ننظر له نظرة تدنٍّ وسخرية، بل نحترمه ونقدر ما عنده من خبرة، ولا ننال من شخصه، وأمانته، ولا نقلِّل من منزلته في الناس ؛ لأجل اعتقاده؛ لأن لدينا معيارا قرآنيا واضحا:” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”، ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”،” أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ، صحيح أن بعض العلماء ذكر أنه كان قد أسلم، لكن الجمهور على أنه بقي على شركه، ولما عاد إلى مكة أخبر عبد الرحمن بن أبي بكر بأن أباه والرسول قد وصلا إلى المدينة آمنيْن معزَّزَين، وطمأنه على ذلك.
إن إسلامنا جميل، والهجرة تعطينا دروسا قيمة، منها أن أهل الخبرة يمكن الاستعانة بهم ، حتى ولو كانوا على غير ملتنا ، ويخالفون ديننا، لا بأس أن نأخذ ما عندهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها، ولا يضره من أي وعاء خرجت، ما دامت لا تتعارض مع ثوابت ديننا الكريم، فهذا الرجل المشرك عبد الله بن أريقط كان – كما قلت سلفا- على دين قريش ، ولم يكن مسلما، ولكن الرسول الكريم اختاره لمهارته، وخبرته، فقد جاء في السيرة المكرمة أنه لم يكن عبد الله بن أريقط مسلمًا بل كان على دين قريش، فعن عائشة بنت أبي بكر ، قالت: “وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلا مِنْ بَنِي الدَّيْلِ ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خرِّيتًا، وَالْخَرِيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ، قَدْ غَمَسَ يَمِينَ حِلْفٍ فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمَّنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلاثِ لَيَالٍ، فَأَتَاهُمَا بِرَاحِلَتَيْهِمَا صَبِيحَةَ لَيَالٍ ثَلاثٍ، فَارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ الدَّيْلِيُّ فَأَخَذَتْهُمْ طَرِيقُ السَّاحِلِ”، فيجوز الاستعانة بالمشركين لصالح المسلمين، ولا يجوز ظلمهم بأكل حقوقهم، أو احتقارهم، فهذا إثم كبير، يقول الرسول الكريم في شأن أهل الذمة، :” من آذى ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة”، والله – تعالى- يقول في شأن الوالدين المشركين: “وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا”، ويقول- جل جلاله-:”ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى”.
إن الصحبة شيء، والولاء والانتماء شيء آخر، وهذا خير ميزان يستقر معه المجتمع ، ويتعاون أبناؤه، ورجاله، ونساؤه، ويعيش مجتمعًا مسالمًا متماسكًا قويًّا، يحب أبناؤه بعضهم بعضا، ولا يكون فيه شحناء ، ولا إحن، ولا بغضاء، والجميع يسهم في تطوره، ورقيه.
نسأل الله أن يبصرنا بجلال الهجرة ، ودروسها، وأن يُفيدنا منها في تعديل واقعنا ، ورؤية مستقبلنا بصورة أكثر نضجا، وأوسع رؤية، وأن يحسِّن أحوال المسلمين في كل مكان من أرض الله، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير، نعم المولى ، ونعم النصير، ونواصل الحديث في اللقاء القادم عن الهجرة، بين تغيير الواقع ، واستشراف المستقبل، وصلى الله وسلم وبارك على صاحب الذكرى، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
(*) أستاذ النحو والصرف والعروض، كلية دار العلوم جامعة القاهرة، جمهورية مصر العربية.
I¦ve read several just right stuff here. Definitely price bookmarking for revisiting. I wonder how much effort you put to make the sort of wonderful informative site.