بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد(*)
لا يماري منصف يملك أدوات الفكر والعلم ووسائل الإدراك والتمييز أن الشيخ محمد الغزالي ـ الذي توفي في 6 مارس 1966م ـ أحد أعلام الإصلاح في عصرنا، فقد نجح في تكوين مدرسة فكرية تخرج فيها العديد من أعلام العصر، على رأسهم: الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور محمد عمارة، والدكتور أحمد العسال، والدكتور عبد الحليم عويس، والمرحوم الدكتور محمود حماية، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور عماد الدين خليل، وغيرهم كثير.
لقد كرس حياته كلها في خدمة الدعوة الإسلامية، والجهاد من أجل إعادة الهوية العربية والإسلامية لكثير من شعوب العالم، على رأسها مصر والجزائر، قضى ما يزيد على شطر حياته الأول في محاربة الاستبداد السياسي، وبيان مكائد الاستعمار، وصد طعنات المستشرقين وسماسرتهم في القرآن والسنة، وتوضيح معالم الإسلام، وإرساء قواعد الدعوة إلى الله تعالى، بينما كان شطر حياته الثاني مركَّزًا في محاربة الفهم المغلوط للإسلام، والإنكار الشديد على العقول السقيمة والفكر السطحي الذي يصطلي بشُواظٍ من نارٍ أُفْعم بها قلب الشيخ وقلمه ولسانه.
وتمتع الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- بثقافة موسوعية أنتجت لنا العديد من الكتب في شتى نواحي الفكر والمعرفة؛ فنجد له تراثًا في العقيدة والتفسير، والأخلاق والتصوف، والفكر والفلسفة، والأدب والدعوة، والإصلاح والتغيير، وغيرها.
ومن أبرز المجالات التي أبدع فيها الشيخ الغزالي مجال السيرة النبوية التي له فيها صولات وجولات مع الأحداث، وتعليقات على كثير من المواقف والغزوات، يشعر القارئ معها بفكر جديد وفهم فريد لأحداث ووقائع السيرة العطرة.
ومن القضايا المهمة التي تحدث عنها الشيخ في السيرة في غير موضع من كتبه قضية الهجرة النبوية التي تمر علينا ذكراها في هذه الأيام، وقد تمركزت أفكار الشيخ حولها فيما يلي:
أولا: الهجرة حدث أكبر من أن تعلق عليه سورة واحدة:
وهذه واحدة من مناقب الشيخ في فهمه للهجرة النبوية؛ ذلك أننا أَلِفْنا أن يتنزل القرآن تعليقًا على ما يكون من أحداث؛ فيوجه المسلمين التوجيه الذي يفتقرون إليه؛ فإن كان نصرًا بيّن أسبابه وكسر الغرور الذي قد يصاحب المنتصرين، وإن كانت هزيمة بيّن أسبابها ومسح التراب الذي عفر جباه المنهزمين.
لقد نزلت سورة الأنفال في أعقاب غزوة بدر، ونزلت سورة الأحزاب في أعقاب الخندق، ونزل النصف الأخير من سورة آل عمران في أعقاب أحد.. فهل نزلت في أعقاب الهجرة سورة لا سيما بعد نجاح رحلتها كما حدث في أعقاب الغزوات؟
ويجيب الشيخ على هذا التساؤل قائلا: “لم يقع هذا، ولكن وقع ما هو أخطر وأهم، كأن الله -سبحانه وتعالى- حكم بأن قصة الهجرة أكبر من أن تعلق عليها سورة واحدة، وأن تمر مناسبتها بهذا التعقيب وينتهي الأمر؛ فحكم -جل شأنه- بأن تكون ذكرى الهجرة قصة تؤخذ العبرة منها على امتداد الأيام، وتُذكر في أمور كثيرة وفي مناسبات مختلفة” (١) .
ومن ناحية أخرى يرى الشيخ أنها لم تُذكر في سورة واحدة مثل المعارك؛ لأن “هذه المعارك استغرقت أيامًا قليلة، أما الهجرة فشأن آخر.. لقد ظلت أفواج المهاجرين متصلة سنين عددًا، وتطلَّب التعليق عليها مواضع عديدة” (٢) .
ومن ثم ذُكرت الهجرة في سور: البقرة(٣) وآل عمران(٤) والنساء(٥) والأنفال(٦) والتوبة(٧) والنحل(٨) والحج(٩) والممتحنة(١٠) والتغابن(١١) والحشر(١٢)… وكان التعليق في كل سورة إبرازًا لمعنًى مقصود(١٣).
ثانيًا: وزن الإيمان في الهجرة:
والإيمان في فكر الشيخ له وزن لا يستهان به عموما، وفي الهجرة خصوصا؛ فليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلد ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة، إنها إكراه رجل آمِنٍ في سربه، ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه وتضحيته بأمواله والنجاة بشخصه، وإشعاره بأنه مستباح منهوب قد يُسلَب أو يَهلك في بداية الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة شخص بنفسه لقيل: مغامر طياش؛ فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها حاملاً أهله وولده؟! وكيف وهو بذلك رضيُّ الضمير وضاء الوجه(١٤).
ما السر وراء تحمله ذلك كله؟ وليس الأمر تحملا وحسب، إنما تحمُّلٌ يصاحبه فرحة وسرور، وصبر يحوطه رضًى وحبور، إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش، هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن تربى على تعاليم النبوة، وقبَس من أنوار الوحي، وتضلَّع من هدْي الإسلام.
أما الهياب الخوَّار القَلِق فما يستطيع أن يفارق أهله ووطنه، فضلا عن أن يكون بذلك مطمئن النفس رضيَّ الضمير.
ثالثًا: إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب:
هكذا يعبر الشيخ “إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب” ، وكان المنتظر أن يقول “إيمان بالغيب وثقة بالمستقبل” ، لكنه عبر مع المستقبل بالإيمان ليرفع الثقة بالمستقبل إلى درجة العقيدة والإيمان بالغيب.
فلن تكتمل حقيقة الدين في قلب إلا إذا كان الإيمان فيه بالغيب قسيم الإيمان بالحاضر، ولا يصح تدين ما إلا إذا كان الإنسان مشدود الأواصر إلى ما عند الله، مثلما يتعلق بما يرى ويسمع في هذه الدنيا؛ فالمجاهد مثلا يقاتل من أجل النصر للعقيدة أو الشهادة لنفسه، لكن النصر عنده غيب، خصوصًا إذا وهنت الوسيلة، وقل العون، وترادفت العوائق، بيد أن هذا النصر ينبع من الإيمان بالله؛ فهو يمضي في طريقه المر واثقًا من النتيجة الأخيرة. إن غيره يستبعدها أو يرتاب فيها، أما هو فعقيدته أن اختلاف الليل والنهار يقربه منها وإن طال المدى؛ لأن الله حقَّ على نفسه عون الموحدين ونصر المؤمنين.. فلماذا الخوف من وعثاء الطريق وضراوة الخصوم؟ ولِمَ الشك في وعد الله القريب أو البعيد؟!
إن المهاجرين الأوائل لم ينقصهم إيمان بمستقبل أو ثقة بغيب، إنما نهضوا بحقوق الدين الذي اعتنقوه، وثبتوا على صراطه المستقيم، على الرغم من تعدد العقبات وكثرة الفتن، من أجل ذلك هاجروا لمَّا اقتضاهم الأمر أن يهاجروا، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل عقيدتهم.
ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين أن رسالتهم ستستقر، وأن رايتهم ستعلو، وأن الكفر لا محالة زاهق، إلا أنه علق أفئدتهم بالمستقبل البعيد وهو الدار الآخرة: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف ٤١- ٤٤) . ومن هنا لا يعتري النفسَ مللٌ، ولا الجسم كلل؛ لأن أشواقه ممتدة إلى المستقبل البعيد، وآماله قد طارت لتحط في أفراح الآخرة عند رب العالمين.
فليس شرطًا أن يرى المرء ثمرة جهاده والتمكين لدينه وهو حي، بل ربما يطويه الموت، ولم يعرف بعدُ نتيجة الصراع بين الهدى والضلال، وهذا كثير الوقوع، لكن وعد الله لا يتخلف: “فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون” ؛ فيكون هذا المرء جسرًا تعبر عليه الأفكار والمبادئ إلى جيل يرى نصرتها والتمكين لها.
والخطة المثلى أن يؤدي المرء واجبه المجرد دون استعجال لنتائج المعركة المحتدمة بين الحق والباطل؛ لأن الله قد تولاها بذاته العلية.
في إطار هذا الإيمان العميق لبى المسلمون نداء الهجرة عندما طولبوا بها، واستجابوا لنداء الله ورسوله غير خائفين ولا جازعين(١٥).
رابعًا: فكرة لا رحلة:
فالهجرة في فكر الشيخ ليست رحلة ولا عملاً ترفيهيًّا، ولم تكرَّم الهجرة لكونها سفرًا فحسب؛ فما أكثر المسافرين قديمًا وحديثًا بين مكة والمدينة.
إن الشيء الواحد قد يكون عملاً مضنيًا أو لعبًا مريحًا مسليًا، فالمظهر والشكل لا يتغير، لكن الذي يتغير هو البواعث والجوهر والملابسات.
فصيد السمك رياضة مرحة يلهو بها بعض المترفين الناعمين، بينما هو عند أناس آخرين حرفة يرتزقون منها مع الكدح والمكابدة، والرحلة من قطر إلى قطر قد تكون للتنعم والاسترواح، وقد تكون مشيًا في مناكب الأرض لتحصيل علم، أو جمع رزق، أو فرارًا من شر محظور إلى خير منظور.
وهكذا كانت الهجرة.. خطواتٌ يتحرك بها القلب المؤمن في الحياة؛ فتتحرك في ركابها الثقة الغالية والتضحية النبيلة، إنها طريق الأبطال تزدحم بالفدائيين من حملة العقائد، يتركون البلد الذي اضطُهد دينهم فيه ليلتمسوا في مهجرهم مأمنًا لعقيدتهم ومتنفسًا لدينهم، ويقيموا فيه مجتمعا يحتضن الشعائر والشرائع.
وفي الهجرة نفسها خرج رجل إلى المدينة من أجل عشيقة يهواها، وشتان بين المهاجرين لعقيدتهم ودينهم وبين من يخطو خطوات الشهوة الصغيرة، تتحرك بصاحبها؛ فلا تفرق بينها وبين خطوات الدابة التي حملته، ورب قاعد في بلده أشرف نفسًا من هذا المهاجر التافه(١٦).
خامسًا: ليست تخلُّصًا من فتنة بل لإقامة مجتمع آمن:
والهجرة في فكر الشيخ الغزالي ليست تخلصًا من فتنة أو فرارًا من أذًى، وإلا لم يكن هنالك مبرر للمكث ثلاثة عشر عامًا في هذا الجو الملبد بسحب الكفر والاضطهاد، إن الذي يبرر هذه المدة هو تمهيد المؤمنين بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن ذهب إليه مصعب بن عمير ليستتبع الناس ويستقطبهم للإسلام؛ ذلك أن إقامة الدين في مجتمع مكة أضحى دونه خرط القتاد؛ لما اتصف به من عناد وجبروت، فلم يكُ يصلح لهذا الفكر، والدعوة ما زالت وليدة غضة طرية، والمسلمون قلة مستضعفة، فلم يكن هنالك بدٌّ من التهيئة للدين في مكان آمن، عندئذ يقوى المسلمون وتشب الدعوة.
ويعلق الشيخ قائلا: “ولا شك أن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة، وأصبح فرضًا على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة -بعد الهجرة إليها- نكوصًا عن تكاليف الحق، وعن نصرة الله ورسوله؛ فالحياة بها دين؛ لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها” (١٧) .
سادسًا: الهجرة تطبيق لقانون السببية:
الأخذ بالأسباب في فكر الشيخ الغزالي دين، وهو معنًى يكرره الشيخ كثيرًا كلما عرض للحديث عن الهجرة أو للكلام عن تخلف المسلمين وتقدم غيرهم(١٨)، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: إننا أوذينا وأُخرِجنا من ديارنا؛ فعناية الله ينبغي أن تلاحقنا، وحماية الله يجب أن تحوطنا، ولا حرج في بعض التقصير فإن الله سيجبر الكسر ويسد النقص… إلى آخر هذا الكلام، لم يقل النبي هذا، إنما استنفد كل وسيلة بشرية يمكن أن تؤخذ، فلم يترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانًا يكمله الذكاء والفطنة.
ومع أن محمد بن عبد الله -عليه السلام- أولى الناس بتوفيق الله ورعايته، وأجدر الخلق بنصره وعنايته؛ فإن ذلك لا يغني عن إتقان التخطيط وإحكام الوسائل وسد الثغرات شيئًا مذكورًا.
ومن هنا جعل -صلى الله عليه وسلم- يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبًا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وأخذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق. وهذا دليل مدرَّب ليعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن السير فيها بعيدًا عن أعين الأعداء، وهذا علي بن أبي طالب ينام مكانه ليضلل الكافرين، وذلك يسير بالأغنام وراءهما يمحو آثار المسير، ولكي يكون على دراية تامة باتجاهات العدو ونواياه تأتيه الأخبار عن طريق راعي أبي بكر، كما أتت بعض الأغذية عن طريق بنت أبي بكر… هل بقي من الأسباب شيء لم يؤخذ، أو من الوسائل لم يستنفد، أو من الثغرات لم يُسد؟ كلا كلا..
إن منطق الإسلام هو احترام قانون السببية؛ لأن الله تعالى لا ينصر المفرطين ولو كانوا مؤمنين، بل ينتقم من المقصرين المفرطين كما ينتقم من الظالمين المعتدين، “وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر، فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك” (١٩) . كيف ينتظر المرء من الله أن يقدم له كل شيء وهو لم يقدم له شيئًا؟!
وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببًا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة.
وهذا هو الفرق بين موقف المؤمن والكافر من الأخذ بالأسباب؛ فالمؤمن يأخذ بالأسباب ولا يعتمد عليها ولا يعتقد أنها هي التي تفعل أو تترك، بل يؤمن أن الأمور بيد الله، وأن النتائج تتم بقدرة الله، وأن شيئًا لا قيام له إلا بالله.
بينما يعتقد الكافر -إن جاز أن تكون له عقيدة- أن الأسباب هي الفاعلة والمعوَّل عليها، ولا علاقة لها بالتوفيق الأعلى.
إذن فالإسلام يحترم قانون الأخذ بالأسباب، غير أن المسلمين لم يكونوا على مستوى دينهم مع هذا القانون، يقول الشيخ في ذلك متحسرًا: “ومع حرص الإسلام على قانون السببية، وتنفيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- له بدقة؛ فأنا لا أعرف أمة استهانت بقانون السببية وخرجت عليه وعبثت بمقدماته ونتائجه كالأمة الإسلامية” (٢٠).
سابعًا: بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود:
ويقارن الشيخ في كثير من المواضع(21) بين هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة قديمًا وبين هجرة اليهود من بلاد كثيرة إلى الأراضي الفلسطينية الطاهرة حديثًا، وهي مقارنة لم يلتفت إليها أحد ـ فيما أعلم ـ قبل الشيخ الغزالي رحمه الله.
وتتركز مقارنة الشيخ هنا في أمر يلتقي فيه المسلمون واليهود، وأمور يفترقون عندها.
فأما الذي يلتقون فيه: فهو أن الدافع للهجرة كان عقديًّا دينيًّا، فالمسلمون هاجروا من أجل إقامة دين جديد في بلد آمن، وهاجر اليهود من أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا مقرِّرين أن يتركوا أرضهم ولغتهم ويحترموا اللغة العبرية من أجل إقامة مملكة الله أو دولة إسرائيل، فكلتا الهجرتين باسم الدين والعقيدة.
أما الأمور التي يختلفون عندها فهي:
1ـ أن هجرة المسلمين كانت من صنعهم وبرغبتهم وتطلعهم إلى ثواب الله، أما هجرة اليهود فقد دبرها لهم غيرهم، ومهد لها الانتداب البريطاني على فلسطين.
2ـ أن وصف المسلمين الذين تركوا مكة إلى المدينة يمكن أن نطلق عليهم بتعبيرنا العصري أنهم “مغامرون”؛ لأنه لم يكن لهم على ظهر الأرض من نصير، فقد كانت الدنيا كلها ضدهم: مشركون ونصارى ويهود، أما المشركون فلأن القرآن عاب الأصنام وحقر الأوثان وهدم تقاليد الجاهلية. وأما المسيحية فإن الإسلام كان في مكة ينكر بحرارة أن يكون لله ولد، وذلك في سورة الكهف ومريم وغيرهما من السور المكية. وأما اليهود ـ وهم عدو ثالث ـ فإن القرآن لم يترك من أمرهم شيئًا، فقد فضح عقائدهم وعرَّى صفاتهم الخبيثة المتعددة، فلم يكن بدٌّ لهؤلاء جميعًا ـ وقد عالنهم القرآن بصفاتهم وخباياهم ـ أن يغتاظوا ويغضبوا ويزداد كرههم للإسلام وحقدهم للمسلمين، ومن هنا لم يكن للمسلمين في الهجرة يد تحميهم إلا يد الله، ولا كنف يأوون إليه إلا كنف الله.
من ناحية أخرى كانت الجماعة المسلمة في ذلك الوقت ضعيفة من حيث العَدد والعُدد، وكان أعداؤهم يملكون عناصر القوة وأسباب الاضطهاد، ورغم ذلك فقد نجحوا في بناء مدينة تأتي دونها في الوصف المدينةُ الفاضلة التي تعشَّقها الفلاسفة وتخيلوا فيها الكمال، وأثبتوا أن الإيمان الناضج يُحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناءً ونضارة.
بينما كانت حال اليهود مباينة لذلك من كل جانب، فلقد تعهدت إنجلترا ـ الدولة الأولى في العالم يومئذ ـ ما بين عامي 1917 ـ 1948م أن تُكيف الظروف في فلسطين لاستقبالهم، وكان الحاكم الإنجليزي في فلسطين يذل العرب ويعطش أرضهم حتى لا يَنبت فيها زرع، فيبيعها الفلسطينيون بأبخس ثمن أو بأغلاه، ولم تتعهد إنجلترا وحدها بذلك إنما تولى إصر ذلك معها أمريكا وروسيا وفرنسا، كذلك ملوك العرب بخيانتهم وخذلانهم.
إضافة لذلك، كان اليهود وأعوانهم غاية في القوة والاقتدار بينما كان المسلمون أذنابًا ضعفاء، وكان كثير من حكامهم خونة عملاء، ومع ذلك فإننا نرى اليوم ما يحدث على أرض الرسالات من رعب وهلع لليهود، فلا يتمتعون بأمن ولا ينعمون باستقرار، ومصيرهم حتمًا إلى الزوال بمنطق القرآن والسنة والتاريخ والوقع.
3ـ أن المسلمين الذين هاجروا كانوا دعاة توحيد لله وإصلاح للأرض، كانوا يُعلّمون الدنيا أن الله رب العالمين لا شريك له، وأن الناس يجب أن يُسلموا وجوههم إليه، ويحيوا على الأرض وفق المنهج الذي ارتضاه الله لهم، فترفَّعت عن المآرب هِمَمُهم، وأخلصوا لله طواياهم، وذهلوا عن متاع الدنيا، واستهوتهم مُثُل عليا لا مثيل لها في الأولين والآخرين.
بينما كانت صلة اليهود بالله مغشوشة، والدوافع التي جاءت بهم، وإن كانت دينية إلا أن ما فيها من باطل أضعاف ما فيها من حق، وما يكتنفها من ظلم ليست معه شائبة عدل.
من أجل هذا كله كان البون شاسعًا والفرق واسعًا بين هجرة المسلمين وهجرة اليهود.
ثامنًا: قضايا تتعلق بالهجرة:
وفي فكر الشيخ الغزالي ـ رحمة الله عليه ـ يلتقي الحديث عن الهجرة بقضايا مختلفة(22) منها:
1ـ قضية عرض الإسلام:
وهي أن عرض الإسلام على الناس قبل الهجرة لم يختلف عما بعدها، لكن بعض الناس ـ ومنهم مستشرقون ومبشرون ـ يقول: كانت الدعوة الإسلامية قبل الهجرة تعتمد على الإقناع الحر والمنطق العقلي الواعي، ففي سورة الأنعام وهي مكية نقرأ قوله تعالى: “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها…” آية: 104. وفي سورة الكهف وهي مكية كذلك قوله: “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر…” آية: 29. وفي سورة يونس وهي مكية قوله: “وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون” آية: 141.
هذا هو منطق عرض الإسلام في مكة، فهل تغير في المدينة عما كان عليه في مكة؟! إن ذلك يتقاضانا أن ننظر في الوحي المدني بتأمل وأناة.
نقرأ في سورة البقرة وهي مدنية بيقين قوله تعالى: “قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم …” آية: 139. وفي نفس السورة قوله: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي…” آية: 256. وفي سورة آل عمران وهي مدنية كذلك نقرأ قوله تعالى: “فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد” آية: 20. وفي سورة النساء وهي مدنية نقرأ قوله: “من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا” آية: 80. وفي سورة المائدة وهي مدنية كذلك نقرأ قوله: “ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون” آية: 99. … إلى غيرها من آيات تبين بغير لبس أو شبهة أن عرض الإسلام لم يتنكر في المرحلة المدنية لصفات الحرية والعقل الواعي ومنطق الإقناع التي تبناها في المرحلة المكية.
2ـ قضية التشريع:
وهي أنه شاع بين الناس أن ما بعد الهجرة كان عصر تشريع، وما قبلها كان عهد تمهيد، وهذا كلام مدخول يحتاج إلى شيء من المراجعة والتوضيح.
إن شرائع الإسلام من عقائد متينة وأخلاق كريمة كلها تمت قبل الهجرة، فالصلاة والزكاة، والعقائد كلها شُرعت قبل الهجرة، أما الحج فشعيرة معروفة منذ شريعة إبراهيم، ولا يقدح تأخر تشريع الصوم بعد الهجرة في أن ما قبل الهجرة كان عصر تشريع لأهم ما تحتاج إليه الأمة في عقائدها وعباداتها وأخلاقها، حتى الربا وإن جاء تحريمه في المدينة، فقد أشعر بذلك القرآن المكي في سورة الروم: “وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله.” آية: 39.
فالعصر المكي كان عصر تشريع إلى جانب العصر المدني الذي أكمل التشريع، وفرَّع في كثير من المسائل بعد استقرار المجتمع الإسلامي.
3ـ قضية الإعجاز:
والتي أثارها في فكر الشيخ الغزالي المستشرقُ المجري المعروف “جولد زيهر” الذي قال إن القرآن المدني أقل بلاغة من القرآن المكي، وتبعه في هذا اللغو بعض الذين كانوا يدرِّسون في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبقوا في أماكنهم ينشرون هذا الإلحاد إلى إن ماتوا.
والقرآن قطعًا ليس كما زعموا، إنما هو بمكيِّه ومدنيِّه سواء في إعجازه وبلاغته والتحدي به، غير أن بعض القرآن ثوابه أفضل من بعض؛ فآيات التوحيد والعقيدة أكثر مثوبة عند الله من آيات تتحدث مثلاً عن زواج وطلاق ومواريث، من أجل هذا فسورة الإخلاص وآية الكرسي مثلاً أكثر في الثواب من سور وآيات كثيرة.
***
بعد هذا العرض الفكري السريع للهجرة النبوية عند الشيخ محمد الغزالي، وبيان مرتكزاتها في فكره ـ نستطيع القول: إن الفهم الغزاليّ للهجرة النبوية يأتي نموذجًا فريدًا في القضايا التي تمخَّض عنها فكره، والآراء التي توصَّل لها عقله، وهذا نابع من تمكن الشيخ من الثقافة الإسلامية، وإدراكه البعيد للواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية، وتجاربه الواسعة في الدعوة إلى الإسلام وقيم الإسلام. رحمه الله رحمة واسعة.
(*) أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.
الهوامش:
(1) خطب الشيخ الغزالي: 4/ 211، دار الاعتصام. بدون تاريخ.
(2) علل وأدوية: 5، 14. دار الكتب الإسلامية. طـ ثانية . ١٤٠٥هـ.
(3) راجع آية: 218.
(4) راجع آية: 195.
(5) راجع الآيات: 97-99.
(6) راجع الآيات: 26-30.
(7) راجع الآيات: 38-40.
(8) راجع الآيتين: 41-42.
(9) راجع الآيتين: 39-40.
(10) راجع آية: 10.
(11) راجع آية: 14.
(12) راجع الآيات:8-10.
(13) راجع: شرح الشيخ وإبرازه لمقصود كثير من الآيات في الخطب: 4/ 211-217، وعلل وأدوية: 145-150.
(14) راجع: فقه السيرة: 182، بتعليقات الشيخ الألباني. دار الدعوة. طـ ثانية. بدون تاريخ.
(15) راجع: ركائز الإيمان بين العقل والقلب: 95-100. دار الاعتصام. بدون تاريخ.
(16) تأملات في الدين والحياة: 107-108، دار الدعوة. طـ أولى. ١٤١٠هـ.
(17) فقه السيرة: 181.
(18) راجع مثلاً فقه السيرة: 187-188، والخطب: 2/ 32-33، 3/ 232.
(19) علل وأدوية: 144.
(20) راجع الخطب: 2/ 33.
(21) راجع مثلاً: فقه السيرة: 181-182، والخطب: 2/35-36، 1/154-156.
(22) راجع مثلاً الخطب: 3/234-238.