حادثة “بيت جن” .. دلالات في كلّ اتجاه

بقلم/ د. عطية عدلان(*)

لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فإسرائيل منذ نجاح عملية “ردع العدوان” في إسقاط نظام بشّار الأسد لا تكفّ عن شنّ الحملات العسكرية على أطراف سوريا، وأحيانًا كثيرة على العمق وعلى مقربة من القلب رميةً بحجر، كان آخر هذه الهجمات الهمجية تلك الحملة التي شنَتها على بلدة “بيت جن” بريف دمشق والواقعة على بعد 40 كيلومترًا من العاصمة، أمّا أنّ ما جرى عدوان وطغيان فهذا ما لا ينكره أحد سمع به في أيّ زاوية من أرض الله حتى في إسرائيل نفسها، وأمّا أنّه هو التصرّف الطبيعيّ التلقائيّ لدولة الاحتلال فهذا ما تنطق به أبجديّات الصهيونية وما يصدقه تاريخ الكيان الصهيونيّ، وأمّا أنّ إسرائيل لم تقبل ولا يمكن أن تقبل بدولة سنيّة أصولية متاخمة لحدودها فهذا من المسلمات بحسب المنطق الأمني الإسرائيلي، لكنْ: أن تكون أمريكا – على الأقل في الصورة المعلنة – داعمةً للدولة السورية وللنظام الحالي ثمّ تُرخي العنان لقادة الكيان، ولا تحاول أن تتدخل لتوقف هذا الاستنزاف المنظم والاستفزاز الممنهج فهذا ما لا يستساغ في أيّ منطق إلا في منطق السياسة الأمريكية التي تلاعب القرود؛ فماذا وراء الأكمة؟

غسيل الملائكة يعود من جديد

لم يكن الشاب حسن محمد السعدي زاهدًا في الحياة ولا راغبًا عنها عندما اندفع بكلّ قوته في أقصر الطرق المؤدية إلى الموت؛ كيف وهو – عندما خرج وألقى بنفسه في خضمّ القتال – كان مقبلًا على زفافه ومستقبلّا “ليلة العمر”، فقد كان مقرَّرًا أن يكون عرسه في عَشِيَّة اليوم الذي ارتقى في صبيحته شهيدًا! وها نحن نشهد في العصر الحديث أنموذج “غسيل الملائكة” يتكرّر؛ وإنّها – لعمري – أول دلالة بارزة في المشهد، فهذه الأمة تتجدّد دائمًا، ولا يمكن أن ينضب في جسدها ماء الحياة، ولا أن تخبوا في قلبها شعلةُ اليقين، ولا أن تذبل في وجدانها أزهار الكرامة والعزة والأنفة، إنّها أمّة ليس من طبيعتها أن تفنى ويذهب ريحها، وهذا في الحقيقة هو أكبر ما يزرع في قلوب المسلمين الثقة، وينزع من أنفس المجرمين الطمأنينة.

ترامب والشرع و”الخَلْطة” المستحيلة

هل يمكن لعقل أن يتقبل هذه المعادلة المحيّرة؟ إدارة ترامب التي أصدرت قراراتها بإعلان جماعة الإخوان المسلمين – التي لا تملك من السلاح إلّا بقدر ما تملكه فراشة بيضاء سابحة في رياض غنّاء من أنياب ومخالب – تنظيمًا إرهابيًّا، تتقبّل ببسهولة وسماحة أن تكون هيئة تحرير الشام – التي حفرت طريقها إلى القمة بنصل السيف ورفعت خلال رحلتها راية الجهاد بصراحة أشد من صراحة الشمس إذا توسطت السماء – نظامّا سياسيًّا لدولة متاخمة لمعشوقتها إسرائيل، ومتموضعة في قلب الشرق الأوسط، الذي يُعَدُّ بالنسبة لها المغنم والمغرم إذا تجاورا وتضامنا وارتبط كلّ منهما بالآخر؛ فلم يكن بدٌّ للطامع الحذر من قصدهما معًا لتحصيل الأول ودفع الثاني، إنّها لمعادلة مقلوبة؛ لا يقبل بها إلا من كان مقلوبًا على رأسه.

    ومن ثمّ نقول: إنّ لعبة الشطرنج السياسية التي تجري اليوم على طاولة يجلس الشرع عليها في مواجهة ترامب أخطرُ من صراعٍ بين اثنين من الجبابرة، أحدهما زائر أعزل لا سلاح معه، والآخر مدجج بالسلاح تجري المنازلة في ساحته وبين أشياعه، يريد الشرع أن يخرج ببلاده من الحصار المضروب عليها، ويريد ترامب أن يفكك هذه الكتلة الراديكالية المرعبة، فإذا أيس السوريون المتصدرون للمشهد اليوم من كلّ حلّ وظلّ العالم قابضًا على قفل السجن الكبير الذي وضع فيه الشعب السوريّ وحكومته؛ فما الذي يمنع المارد المحبوس من الانفلات الكبير؟! وما الذي يضمن ألّا يتحول إلى غول كاسر جسور يهدد أمن إسرائيل ويبدد شمل المصالح الغربية كلها في الشرق ويصَدِّر روح المقاومة للمنطقة بأسرها؟ وإذا سمحت أمريكا وسمح النظام الغربيّ والدوليّ بتجربة سياسية حرّة يأتي فيها هؤلاء إلى الحكم المستقرّ الدائم ويكون لهم دولة ومؤسسات حكم وجيش حديث مستقل ولو نسبيًّا؛ فماذا يكون مصير المنطقة والعالم؟

    وإذَنْ؛ فالحلّ لدى أمريكا هو عملية العصا والجزرة، وهي عملية سياسية غاية في الخبث والتعقيد، فبينما تُقَرَّب الجزرة من فم اللاهث لا تكفّ العصى عن دبره؛ ليدور في الفلك الذي وضع له بإحكام، والجزرة هي رفع العقوبات؛ فلا يعطاها دفعة واحدة، وإنّما بقدر ما يقضم في كلّ مرحلة قضمة تُقَوِّي أمَلَهُ وتُطْمِعُهُ في الاستمرار في الدوران، وأمّا العصا فهي هذه الهجمات الإسرائيلية التي تجري بصفاقة بالغة، ومعها التحريش والإغراء للمكونات المتساندة من الأقليات: قسد من الأكراد والهاجريين من الدروز والفلول من العلويين، هذا هو التفسير لما يجري مما يستغربه كثير من الناس؛ فما الذي في قدرة الحكومة السورية الآن فعله؟ لا سبيل إلا بمساندة الإقليم من جهة، وبحسن إدارة اللعبة من جهة أخرى، وهذا يستلزم طول النفس وحسن استثمار الأوراق، واللعب على التناقضات بين الكتل المتنازعة، مع التوكل على الله.

العدو الأحمق

قديما قالوا: عدو عاقل خير من صديق جاهل، أمّا أن يكون العدوّ اللدود العنيد شديد الحمق والطيش، فهذا هو الكابوس المروع والواقع المفزع، فلئن كانت كلّ – أو جلّ – أنظمة العالم صارت تجمع بين اللدد والنّزَق؛ ولئن كان الغرب بعد صعود اليمين وأمريكا بعد تفشي الترامبية الراديكالية صار يجمع بين الأنانية والجنون السياسي، فإنّ الكيان الصهيونيّ في عهد نتنياهو وسيطرة الصهيونية الدينية صار أشدّ لَدَدًا وأبعد طيشًا وحمقًا؛ لذلك إنْ لم يكن هناك انقلاب في السياسة الإسرائيلية بأي سبب من أسبابه فسوف نشهد انطلاقة محمومة ملؤها الجنون الديني والسعار المذهبي عبر ممر داود؛ لبلوغ ذروة المجد بتحقيق حلم إسرائيل، وهذه شهوة صهيونية مكبوتة إذا انحلّ رباطها فلن تستطيع أمريكا السيطرة عليها، وعندئذ لا يستطيع أحد أن يتوقع ما الذي يمكن أن يحدث، وهل سيكون في هذا هلاك إسرائيل أم علوها الكبير؟


(*) أستاذ الشريعة الإسلامية، ورئيس مركز محكمات للبحوث والدراسات.

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.