بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد(*)
هنالك لحظات يمرّ بها الإنسان، يشعر فيها وكأن الأرض قد انسحبت من تحت قدميه، ويتمنى لو أن الأرض ابتعلته، أو لم تلده أمُّه؛ فيقول :” يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا”؛ ترتجف الكلمات على لسانه، وتضطرب المعاني في ذهنه، ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه.
وقد عبّر القرآن عن هذه الحالة بكلمة واحدة جامعة مانعة: “الزلزلة”. ليست هي مجرّد اهتزاز للأرض، بل هي ارتجاج الوجدان بكامله تحت وطأة البلاء، قال الله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
هذه الآية الكريمة ترسم أفقين عظيمين:
أفق الحقيقة: أن الإيمان هبة من السماء، لكنه يُختبر في الأرض، يبدأ قولًا، ثم يصير حالًا، ولا يبلغ تمامه إلا بدفع الضريبة الكبيرة، وتقديم التضحيات النبيلة.
أفق المسيرة: أن هذا الابتلاء ليس شأنًا فرديًّا، بل هو قَدَرُ كلِّ من مضى على درب النبوّات؛ فـ “الزلزلة” هي قمة الامتحان، والباب الذي لا بد أن يُطرق قبل أن تنفتح أبواب النصر؛ فلا نصر ولا تمكين إلا بعد التجربة!
وليس في الآية قسوة، بل رحمة وتنبيه؛ فهي تُعلّم أن الزلزلة ليست قطيعة، بل يقظة تردّ المؤمن إلى عجزه وضعفه، ليعلم أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وأن السؤال: “متى نصر الله؟” لا يخرج عن ضيقٍ وضجر، بل عن قلبٍ يوشك أن ينفطر من ثقل البلاء، فيجعل من سؤاله دعاءً وابتهالًا لمن بيده مقاليد السموات والأرض، ومن يقول للشيء كن فيكون!
والزلزلة أيضًا تُهذّب وعي الجماعة، فتهزّ وجدان الأمة لتُبين: إلى أي مدى تصبر؟ مع من تصطف؟ وأي ثمن تتهيأ لدفعه؟ ولهذا فالمعنى القرآني لا يقف عند حدود الفرد، بل يتجاوز إلى وعي الأمة والتاريخ؛ فالزلزلة ليست مجرد كلمة على الألسنة، بل مدرسة تُخرّج أجيالًا من الصابرين الشاهدين الثابتين، فيها يُختبر الصبر، وتُبنى الشهادة، وتترسخ العزيمة؛ ولذا ختمت الآية بالوعد: “ألا إن نصر الله قريب”. قريب لا بالمسافة الزمنية، بل بصدق الموقف واستقامة الطريق؛ قريب لأن دعوة المظلوم لا تُرد، وقريب لأن للباطل عمرًا محدودًا، وللحق أمدًا ممتدًّا.
إن إدراك معنى الزلزلة ليس ترفًا في التفسير، بل هو وعي بالامتحان الذي يتكرّر عبر الأجيال؛ فمن فهمه لم يكتفِ برصد الارتجاج، بل نهض من وسط الركام، واستقام على الجادة، واصطفّ إلى جانب المظلوم، وأوقد شمعة في وجه الظلام.
1. غزّة وتجسّد حالة الزلزلة: الجوع والحصار والتهجير والفناء
غزّة ليست مجرّد اسم مدينة، بل هي مرآة دامية تعكس امتحانًا إلهيًّا يهزّ وجدان البشر .. إنّ ما يحدث فيها اليوم هو أصدق تجلٍّ لمعنى “الزلزلة” القرآنيّة، حيث تلتقي الكلمة بالنار، والمعنى بالدم، والتفسير بالواقع؛ فلقد بلغ أهل غزّة حدًّا من الجوع لم يسبق له مثيل في تاريخ فلسطين الحديث .. تقارير برنامج الغذاء العالمي تشير إلى أنّ أكثر من تسعين بالمائة من السكان يعانون انعدام الأمن الغذائي الحادّ، ونصف الأطفال دون الخامسة مهدّدون بسوء التغذية الحادّ، بحسب تقارير اليونيسف .. الجوع هنا ليس رقمًا في جداول الإحصاء، بل هو بكاءُ طفلٍ لم يجد في حضن أمّه جرعةَ لبن، وصرخةُ أبٍ يدفن صغيره لأنّه لم يجد له كسرة خبز.
أما الماء “روح الحياة”، فقد صار في غزّة أثمن من الذهب .. منظمة الصحة العالمية تذكر أن نصيب الفرد اليومي من الماء لا يتجاوز ثلاثة لترات، بينما الحد الأدنى للحياة الكريمة خمسون لترًا .. هذا ليس مجرّد عجزٍ إحصائي، بل هو مشهد أمّ تُمسك بكفّ طفلها المتشقّق من العطش، تبحث له عن جرعة ماء فلا تجد.
وإذا كان الجوع والعطش يُنهكان الجسد، فإن الحصار يُحاصر الروح. أكثر من 2.3 مليون إنسان محشورون في أضيق بقعة جغرافية في العالم، يُحاصرهم البحر من جهة، والجدار من جهة، والسماء من فوقهم حيث تُحلّق الطائرات المسيّرة. المستشفيات تُقصف، المساجد تُهدَم، الجامعات تُدمَّر، والمدارس تُحوَّل إلى مقابر للعلم والطفولة. الأمم المتحدة توثّق أنّ أكثر من 500 مدرسة ومؤسسة تعليمية إما دُمّرت كليًا أو أصبحت غير صالحة للاستخدام.
التهجير القسريّ فصْلٌ آخر من فصول المأساة، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يؤكد أنّ أكثر من 1.7 مليون إنسان اقتُلعوا من بيوتهم، طفل يَخرج مع أمّه صباحًا فلا يعود إلى بيته أبدًا، وشيخٌ يودّع مسجدًا صلّى فيه خمسين عامًا وهو يُقصف أمام عينيه .. التهجير ليس مجرد انتقال جسدي، بل اقتلاع للذاكرة والهوية والمستقبل.
ثم تأتي الفاجعة الكبرى: الفناء الجماعي .. وزارة الصحة في غزة تسجّل أكثر من 30 ألف شهيد، نصفهم من النساء والأطفال. والاتحاد الدولي للصحفيين يعلن أنّ أكثر من مائة صحفي قُتلوا، وهم الذين يفترض أن يكونوا محميّين وفق القانون الدولي. لم تَعُد غزة ساحة حرب، بل مسرح إبادة جماعية موثّقة بالأرقام والأسماء.
ومع ذلك، يقف الغزّيّ صامدًا. الطفل يرفع إصبعه الصغير ويهمس: “الله أكبر”. المرأةُ تلتقط حجرًا من بين الركام لتقول للعالم: “لن ننكسر”. الشيخُ يجلس على باب المسجد المهدّم يقرأ القرآن بصوتٍ مرتجفٍ لكنه ثابت. هؤلاء بلغوا أقصى درجات الزلزلة، لكنهم اختاروا أن يحوّلوا ارتجاج القلوب إلى ثباتٍ على الموقف.
غزة اليوم ليست جغرافيا فحسب، بل هي تفسير حيّ للآية الكريمة .. إنّ جوعهم يُحاسب شبعنا، وعطشهم يُدين صمتنا، وتهجيرهم يكشف رخاوتنا، واستشهادهم يضعنا أمام سؤال التاريخ والضمير: متى؟ متى ننهض؟ متى نقول للظلم كفى؟ متى نثبت أنّ الإنسانية لا تزال حيّة.
2.صمت العالم وخيانته: امتحان الأمة والإمبراطوريات الغربية
فيما تتساقط أجساد الأطفال في غزّة، ويسيل الدم في الأزقّة، يخيّم على العالم صمت أثقل من الدخان، وأشدّ وطأة من الحصار .. إنّ أعظم زلزلة في هذا العصر ليست دويّ القنابل وحدها، بل دويّ الصمت العالمي الذي يواطئ القتلة ويخذل المظلومين.
صمت الأمة الإسلامية: كان الأولى أن ترتجف قلوب المسلمين مع كل صرخة في غزّة، لكن كثيرًا من العواصم لم تُبدِ إلا برودًا يبعث على الأسى .. لقد اكتفى كثير من القادة ببيانات “القلق” و”الأسف”، بينما كانت النساء والأطفال يموتون عطشًا وجوعًا وقصفًا .. أُغلقت المعابر في وجوه الجرحى، وتكدّست الشاحنات المحمّلة بالدواء والغذاء عند الحدود أيّامًا طويلة .. إنّه خذلان بارد، تُسجّله صفحات التاريخ لا كحادثة عابرة، بل كجُرح غائر في جسد الأمّة، عنوانه: الأخ خذل أخاه.
ازدواجية الغرب: أما الغرب الذي ما فتئ يتغنّى بحقوق الإنسان والديمقراطية، فقد كشف عن أبشع وجوهه .. الولايات المتحدة لم تكتفِ بالدعم السياسي، بل أغدقت على إسرائيل المليارات من السلاح والذخيرة .. تقارير البنتاغون تشير إلى أنّ المساعدات العسكرية خلال عام واحد تجاوزت 14 مليار دولار؛ أي أنّ كل قذيفة سقطت على بيت في غزّة كانت ممهورة بختم واشنطن.
وأوروبا التي هبّت دفاعًا عن أوكرانيا، تواطأت بالصمت في غزّة، أو تذرّعت بحجج “الأمن” و”الدفاع عن النفس” .. في برلين وباريس ولندن، قُمعت المظاهرات المؤيّدة لفلسطين، فيما تُركت الماكينة العسكرية الإسرائيلية تعبث بأجساد الأبرياء .. هكذا تجلّت حقيقة “المعايير المزدوجة” التي لا ترى في الدم الفلسطيني ما يراه في غيره من دماء البشر!!
عجز المنظمات الدولية: الأمم المتحدة اجتمعت مرارًا وتكرارًا، لكن الفيتو الأمريكي كان يجهض كل قرار يطالب بوقف إطلاق النار .. محكمة العدل الدولية فتحت ملف الإبادة، لكن العدالة تسير هناك ببطء يقتل الضمير قبل أن ينقذ الضحايا، وبينما يتثاقل المجتمع الدولي، كان كل يوم يبتلع عشرات الشهداء، ويضيف سطرًا جديدًا في سجل الجريمة.
قال الأمين العام للأمم المتحدة: “غزّة صارت مقبرة”؛ وهي بالفعل مقبرة، لا للأبرياء وحدهم، بل للإنسانية والقانون الدولي، وللشعارات التي رُفعت طويلًا عن الحرية والكرامة.
وجه الخيانة: لم يكن العدوان جريمة إسرائيل وحدها، بل شارك فيه بالصمت والتواطؤ من مدّ لها يد العون، أو من غطّى جريمتها بمبررات واهية؛ فالتاريخ لا يفرّق بين قاتل صريح ومتآمر ساكت؛ كلاهما في ميزان الضمير سواء.
وهكذا غدت غزّة اليوم محاصَرة لا بصواريخ إسرائيل فحسب، بل أيضًا بخيانة القريب، وصمت البعيد، ورياء العالم المتحضّر .. إنّه الامتحان الأكبر: امتحان الأمة التي طالما دعاها الوحي الشريف للأخوّة، وامتحان الغرب الذي ادّعى العالمية في الحقوق، وكلاهما أخفق، أما التاريخ فلم يُخفق قطّ في تسجيل الحقيقة، وسيكتب أنّ غزّة زُلزلت فصبرت، بينما تهاوت القلوب من حولها في امتحان الخذلان.
3.المسؤولية الإنسانية ونداء المقاومة: قيادة تركيا وإندونيسيا وماليزيا وباكستان
صرخة غزّة لم تعد شأنًا محليًّا ولا قضية إقليمية، بل صارت صرخةً تمتحن إنسانية البشر جمعاء. إنّها تنادي من أعماق الركام: أين الضمير؟ أين الأخوّة؟ أين العدل؟ والجواب لا يكون بخطابات دبلوماسية باردة، بل بعمل جماعيّ يغيّر موازين الظلم، ويكسر شوكة الطغيان.
ضرورة تحالف جديد: لقد عجزت الأمم المتحدة، وتواطأت القوى الكبرى، وسقطت شعارات “حقوق الإنسان” في مستنقع الازدواجية النقيتة، ولم يعد أمام الأمة وأحرار العالم إلا أن يصوغوا بأيديهم تحالفًا جديدًا، تحالفًا إنسانيًّا ينهض على أنقاض الصمت والتخاذل، تحالفًا لا يُدار من عواصم الغرب، بل ينبع من وجدان الأمة الحيّ، ومن إرادة الشعوب الحرة.
تركيا: الريادة والموقف: تركيا بما لها من تاريخ ممتدّ في نصرة المظلومين، وبما لها من مكانة استراتيجية، مؤهلة لتكون في طليعة هذا التحالف، من على منابرها ارتفع الصوت: “العالم أكبر من خمسة”، واليوم آن لهذا الصوت أن يتجسّد فعلًا .. إنّ تجربتها في العمل الإغاثي والدبلوماسي، مع عمق شعبي يفيض تعاطفًا مع فلسطين، يجعلها قاعدة صلبة لإطلاق مبادرة دولية توقف نزيف الدم وتحاصر العدوان.
أندونيسيا وماليزيا: الضمير الآسيوي: أما إندونيسيا، فهي أكبر بلد مسلم سكانًا، وفي شوارعها تهتف الملايين باسم غزّة، وترفع الأعلام الفلسطينية في مظاهرات مليونية تهزّ الأرض .. هذا الزخم الشعبي والسياسي يجعلها ركيزة أساسية في أي جهد دولي صادق .. وماليزيا، التي لم تتخلَّ يومًا عن فلسطين، قدّمت دعمًا سياسيًّا وإغاثيًّا متواصلًا، وأثبتت أنّ البعد الجغرافي لا يقلّل من عمق الانتماء، ولا حرارة الموقف.
باكستان: القوة الإستراتيجية: وتأتي باكستان، بتاريخها الجهادي ومكانتها العسكرية، لتضيف للتحالف بعدًا استراتيجيًّا رادعًا .. إنّ أصوات الملايين من لاهور إلى كراتشي تنادي بالنصرة، وقيادتها تمتلك أوراق ضغط يمكن أن تجعل صوت غزّة مسموعًا في المحافل الدولية.
نحو تعبئة إنسانية شاملة: إنّ هذا التحالف لا ينبغي أن يكتفي ببيانات الشجب، بل أن يتحرك بجدّية:
فتح ممرات إنسانية آمنة.
توثيق الجرائم ورفعها إلى المحاكم الدولية.
إطلاق صناديق دعم مالي وإغاثي مشترك.
حشد الإعلام الحر لتعرية الكيان المجرم، وكشف حقيقة ما يجري.
هذه الخطوات ليست ترفًا سياسيًّا، بل ستظل واجبًا شرعيًّا وإنسانيًّا؛ فمن سكت عن الظلم كان شريكًا فيه، ومن قاومه ولو بكلمة كان قد أدّى أمانة الشهادة.
أثر التاريخ: إنّ التاريخ يكتب الآن بمدادٍ لا يُمحى، وسيذكر من تآمر أو صمت، وسيذكر من تحرّك ونصر .. سيُخلّد أسماء القادة الذين اصطفّوا مع المظلومين، وسيضع في خانة الخزي أولئك الذين تركوا غزّة تنهشها أنياب الحصار والإبادة.
إنّ ما يُطلب اليوم ليس ترفًا سياسيًّا، بل وقفة للضمير الإنساني بأسره، وغدًا حين يُفتح سجلّ التاريخ، سيُسجَّل بحروف من نور: هؤلاء الذين انتصروا للحقّ، وأولئك الذين وقفوا مع غزّة حين تخلّى عنها العالم.
4.زوال إسرائيل الحتمي وشهادة التاريخ
التاريخ كتاب عظيم لا يرحم الطغاة، ولا يجامل الجبابرة، يدوّن مآلاتهم بصدق، ويخلّد نهاياتهم عبرةً للأمم؛ فكم من حضارة بادت، وكم من إمبراطوريات اندثرت، وكم من عرش سقط تحت ميزان العدالة الإلهية، ها هو فرعون غرق في لجّة البحر، وها هو نمرود تهاوى بجبروته ببعوضة، وها هي روما العظمى صارت أطلالًا، وفي مصير الطغاة والجبابرة المعاصرين فكرة ومنهاج وعبرة وموعظة للمتقين! .. واليوم، تمشي إسرائيل على الدرب ذاته، سكرى بقوتها الزائفة، عمياء عن سنن الله الماضية في الظالمين.
بريق زائل: إنّ ما تملكه إسرائيل من عتاد وجيش وطائرات ودعم غربي ليس إلا لمعانًا خادعًا براقًا لا يلبث أن يخبو، إنّ القوة المجرّدة لا تصنع شرعية، ولا تضمن بقاءً، والذي يكتب البقاء هو الحق، والذي يصنع المجد هو الصبر والثبات، وفي مقابل كل صاروخ يسقط على غزة، يولد في قلوب الأحرار إصرارًا أشد، وإيمانًا أعمق بأنّ للباطل جولة زائلة وللحق دولة باقية.
قانون الزوال: سُنّة الله في الأرض أن الظلم لا يدوم، كلما طال أمده اشتدّ قرب نهايته، إسرائيل اليوم تُمعن في القتل والدمار، لكنها بذلك تُسرّع نهايتها وتزرع بذور فنائها؛ جرائمها لا تُمحى، وذاكرة الشعوب لا تَنسى، كل شهيد، كل دمعة طفل، كل بيت مهدوم، هو شاهد حيّ على أنّ هذا الكيان إلى زوال، وهي سنة الله الماضية في المحتلين والطغاة المتجبرين!
شهادة التاريخ: التاريخ يدوّن الآن بحبر الدماء، سيُسجّل أنّ إسرائيل ارتكبت أبشع الجرائم باسم “الأمن”، وأنها قصفت المستشفيات والمدارس والمساجد، وقتلت النساء والأطفال، وسحقت القانون الدولي بأقدامها دون أن يتحرك القائمون عليه والحارسون له، وسيُسجَّل أنّها وجدت مَن يساندها، ومن صَمَت عنها، ومن خان قضيتها، وسيُسجَّل أيضًا أنّ هناك من نصرها بالكلمة، وبالمال، وبالروح!
النهاية المحتومة: سيأتي يوم، وإن طال الانتظار، تتهاوى فيه هذه الدولة المصطنعة، ولن يبقى من جبروتها إلا أطلال وأسوار، ولن يُذكر اسمها إلا مقرونًا بالعار، وكما انهارت كل قوة محتلة تقوم على الظلم والدم – وكذلك يفعلون! – ستنهار هي، لتبقى غزة شامخة بصمودها، ولتبقى فلسطين حرة رغم أنف الطغاة والمتآمرين!
شهادة الإنسانية: ليس التاريخ وحده من يشهد، بل الإنسانية جمعاء، كل فرد في هذا العالم يُسجَّل موقفه: إمّا أن يكون في صفّ العدل والحقّ، أو أن يُحسب على معسكر الخيانة والتواطؤ والصمت .. من تواطأ أو سكت لن يجد عذرًا عند الله، ولا في صحائف التاريخ، ومن نصر، ولو بجهد يسير، فقد كُتب اسمه في سجل الخلود، وفي كتاب من “يُمسّكون بالكتاب”، و “لا يأخذون عرض هذا الأدنى”.
وهكذا يتبيّن أنّ إسرائيل، مهما عظُم جبروتها، سائرة إلى زوال حتمي، وأنّ صمود غزّة ليس مجرد مقاومة عابرة، بل هو بشير بطلوع فجر جديد، تشرق فيه شمس العدالة، وتُمحى فيه سطور الظلم.
5. نداء إلى الضمير والإنسانية: موقع كل فرد وكل قائد في سجلّ التاريخ
إنّ ما يجري في غزّة اليوم ليس امتحانًا للفلسطينيين وحدهم، بل هو امتحان للإنسانية بأسرها، إنّه مرآة كبرى ينكشف فيها وجه كل فرد، وضمير كل قائد، ومعدن كل أمة .. هناك، تحت الركام، يُكتب السؤال، وهنا، في ضمائرنا، يُرسم الجواب: أمع المظلوم تقف وتنصر، أم مع الظالم تصمت وتؤيد؟
امتحان الأفراد: لا أحد بمنأى عن المسؤولية، غزّة ليست خبرًا عابرًا على شاشة، ولا صورة حزينة في صحيفة، بل هي أمانة في عنق كل إنسان، والحق تعالى يقول: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). [سورة الأحزاب: 72] إنّ دموعَ الطفلِ اليتيم تسائلنا: أين نصرتكم؟ وأنينَ المرأةِ الثكلى يلاحقنا: أمَا في قلوبكم رحمة؟ ودمَ الشهيد يكتب في صحائفنا: بأي موقفٍ وقفتم؟
إنّ كل إنسان، مسلمًا كان أو غير مسلم، مؤمنًا أو غير مؤمن، يُختبر اليوم في إنسانيته، فإمّا أن ينصر، ولو بكلمة، ولو بدعاء، ولو بموقف، وإمّا أن يسقط في امتحان الضمير، فيُسجَّل في صفوف الغافلين أو المتواطئين، ويكتب عند الله يوم القيامة في عداد الخاسرين، الذين خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
امتحان القادة: أما القادة، فإنّ التاريخ يُعدّ لهم مقاعده، سيجلس بعضهم في مقعد الشرف؛ لأنّهم قالوا كلمة الحق، وحركوا ساكنًا، وناصروا المظلوم، وسيُلقى بآخرين في مزبلة التاريخ؛ لأنّهم باعوا الموقف، وسكتوا عن الحق، وتآمروا على الدماء الطاهرة.
إنّ توقيعًا على ورقة، أو كلمة في محفل، أو موقفًا في مجلس أمّة، قد يصنع الفارق بين أن يكون القائد شاهدًا للعدل، أو شاهدَ زورٍ على مأساة شعب أعزل.
نداء إلى الإنسانية جمعاء: غزّة اليوم تنادي العالم بأسره: لا عذر لأحد؛ فالمعلومات مكشوفة، والصور شاهدة، والجرائم أوضح من الشمس، ولم يعد أحد يستطيع أن يقول: “لم أعلم، لم أسمع”. بل السؤال الوحيد: “ماذا فعلت وقد علمت؟”
إنّ الإنسانية لا تُقاس بالشعارات، بل بمقدار ما ننصر المظلوم ونقف في وجه الظالم، وكل من يقول: “أنا إنسان” عليه اليوم أن يثبت صدقه في امتحان غزّة.
الشهادة الأخروية: وليس التاريخ وحده من يسجّل، بل الآخرة تنتظر الشهادة العظمى .. هناك، حيث يُنشر الكتاب، ويُقام الميزان: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [سورة الأنبياء: 47]. سيسأل الله عباده – وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا -: ماذا فعلتم يوم زُلزلت غزّة؟ أأعنتم، أم خذلتم؟ أوقفتم الدم، أم صمتم؟ لا تنفع هناك الأعذار، ولات ساعة مندم.
وأخيرًا: اختر مكانك
أيها الإنسان، أيها القائد، أيها المسلم، أيها الحرّ في هذا العالم: اختر لنفسك مكانك في سجلّ التاريخ، واختر لنفسك مقامك عند الله: فإمّا أن تُكتب بحروف من نور في صفوف الشرفاء الذين نصروا المظلوم، وإمّا أن تُسجّل بحروف من عار في خانة الخائنين والصامتين.
غزّة ليست جغرافيا صغيرة محاصَرة، بل هي ساحة كبرى يتحدّد فيها موقعنا جميعًا: هل نحن أحياء بالضمير، أم أموات بالصمت، هل سننجو من سؤال الله يوم القيامة، أم سنبوء بالعار والفضيحة الكبرى يوم الدين ونكون من الخاسرين؟
(*) أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس المركز.