بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد(*)
يطلّ علينا هذا العام إشراقٌ فريد؛ إذ تطوي الدنيا خمسة عشر قرنًا كاملة على ميلاد من أشرقت بقدومه الأكوان، واهتزّت لمولده القلوب، وارتجّت له الدنيا فرحًا وإن لم تدرِ، إنه ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ميلادُ الرحمة المهداة والنعمة المسداة، ميلادُ الهادي الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق، ومن التيه والضياع إلى الهداية والاستقرار.
لقد كان ميلاده ﷺ تحقيقًا لوعدٍ إلهيّ قديم، فقد دعا الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يرفع القواعد من البيت الحرام قائلًا: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129]. فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ثمرة تلك الدعوة المباركة، ومفتاح الإجابة التي انتظرها الأنبياء جيلاً بعد جيل. وقد أعلنها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم بقوله: « «إنِّي عبدُ اللهِ، وخاتَمُ النَّبيِّينَ، وأبي مُنجَدِلٌ في طينتِهِ وسأُخبرُكم عنْ ذلك: دعوةُ أبي إبراهيمَ، وبِشارةُ عيسى، ورُؤيا أُمِّي الَّتي رَأَتْ، وكذلك أُمَّهاتُ النَّبيِّينَ يَرَيْنَ». وأنَّ أُمَّ رسولِ اللهِ ﷺ رَأَتْ حين وضَعَتْهُ نورًا أَضاءتْ لها قصورُ الشّامِ، ثُمَّ تلا: ﴿يا أَيُّها النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَداعِيًا إِلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥، ٤٦]»([1])، فارتبط مولده بمسيرة النبوات كلّها، ليكون هو الخاتم الذي يضمّ شتاتها، والجامع الذي يكمّل بنيانها.
ولذلك كانت بشاراته مذكورةً في الكتب السابقة، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ﴾ [الأعراف: 157]. فهو ميلاد لم تُبشِّر به السماء وحدها، بل ترددت به أصداء الوحي على ألسنة الأنبياء، حتى حان موعد الختام.
لقد ولِد ﷺ في زمنٍ مثخنٍ بالظلم والجهل والتمزّق، في عالمٍ تتقاذفه الشهوات وتُسيّره الأهواء، فكان مولده فتحًا ربانيًّا، وبعثًا جديدًا للإنسان، وإيذانًا بانطلاق عهد الحرية والكرامة، عهدٍ تقوم فيه إنسانية الإنسان على عبوديته لله، لا على خضوعه لجبروت البشر أو عبادة الحجر.
إن ميلاده صلى الله عليه وسلم ليس ميلاد جسدٍ يذهب كما يذهب الناس، وإنما هو ميلاد الرسالة الخاتمة التي شاء الله أن تكون للناس كافة، تحمل في طياتها بشائر التحرير والهداية، وتغرس في ضمير الإنسانية قيم الرحمة والعدل والحق، هو ميلاد مشروع حضاري غيّر مسار التاريخ، وأعاد للإنسان تعريف ذاته وغاياته، وربطه بالسماء برباط الوحي، وجعل حياته على الأرض سعيًا في عمارتها بالحق والعدل.
فإذا كان الناس يحتفلون بميلاد عظماء غيّروا صفحات من تاريخ البشر ثم ذهب أثرهم أو تضاءل، فإن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم هو الميلاد الوحيد الذي ظلّت آثاره ممتدّة على مدى القرون، وسيبقى صداها ما بقيت الحياة؛ لأنه ميلاد النبوة الخاتمة، وميلاد الرحمة العامة، وميلاد رسالةٍ لا تنطفئ أنوارها، ولا تنقضي آثارها، ولا يَخبو ذكرها؛ لأنها كلمة الله الباقية في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
أوّلًا: الحرّيّة… روحُ الرسالة النبويّة
لم تجئ الرسالة الخاتمة لتزيد في قيود الإنسان قيدًا، ولا لتصنع من الدين سوطًا في يد المتجبّرين، بل جاءت لتخلِّص الكائن المكرَّم من كل عبوديّة سوى عبوديّة الله؛ تلك العبوديّة التي هي عينُ الحرّيّة، إذ تُسقِط عن القلب سلطان ما دون الحقّ، وتُسقط عن العقل وصاية الخرافة والهوى. ولهذا جاءت الآية الجامعة تصف مهمّة النبي ﷺ بأنها وضعُ الأثقال وكسرُ القيود: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]؛ فهي حرّيّةٌ من الداخل قبل أن تكونَ نظامًا في الخارج، تُطهِّر الضمير من الأوثان الخفيّة، وتحرِّر الفكر من الأوهام الموروثة، وتُقيم الحياة على قسطٍ وعدل.
حرَّر ﷺ العقيدةَ حين ردَّ الناس إلى أصل التوحيد، بلا كهنوتٍ ولا وسطاء: ربٌّ واحدٌ يُعبد، وكتابٌ يُهتدى به، ونبيٌّ يُقتدى به؛ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر بعد قيام الحجّة: ﴿قُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، ونفى الإكراه نفياً قاطعاً: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ [البقرة: 256]، وأنكر على من أراد تحويل الهداية إلى قسرٍ وقهر: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 99]. فالدعوة عنده بيانٌ يُنير لا سيفٌ يُكره، وحجّةٌ تُبصِّر لا سلطةٌ تُذعِن.
وحرَّر العقلَ حين أقامه على البرهان، يوقظه بأسئلة الوحي المتواترة: أفلا تعقلون؟ أفلا تتفكّرون؟ قل هاتوا برهانكم؛ فلا يتّبع خرافةً ولا يستسلم لعادةٍ تُميت الفطرة. وجعل طلبَ العلم فريضةً، وفتح للمعرفة أبوابها، وربطها بالحكمة والتزكية ليصير العلمُ حرّيّةً من الجهل لا طغيانًا باسم المعرفة.
وحرَّر الضميرَ والسلوك حين سنَّ حدودَ المعروف ومناراتِه، وحذّر من المنكر وطرقِه، ليبقى الإنسان سيّدَ رغباته لا أسيرَ شهواته؛ يُحلّ له الطيّبات، ويحرِّم عليه الخبائث، ويقيم له ميزاناً أخلاقيًّا يحمي كرامته من الابتذال، ويصون إنسانيته من الاسترقاق للشهوة والعادة والموضة. تلك هي الحرّيّة المسؤولة: لا انفلاتًا يُدمِّر، ولا قهراً يُحقِّر، بل انعتاقًا إلى الأفق الأعلى حيث يلتقي الحقُّ بالجمال والعدلُ بالرحمة.
وحرَّر المجال العام حين أقام دولةَ المدينة على العهد والميثاق، تصون الدماءَ والحقوق، وتؤسّس المشاركةَ والشورى، وتسوّي الناس أمام القانون، وتمنح المخالفَ عهدًا وذمّةً وكرامة. فلمّا دانت مكّةُ للحقّ أعلن ﷺ عفواً عامًا، يُسقط ثارات الجاهليّة ويؤسِّس لصفحةٍ جديدةٍ من تاريخ الحرّيّة والصفح؛ إذ الحرّيّة لا تكتمل إلا بعدلٍ يرفع المظالم، ورحمةٍ تداوي الجراح.
وهكذا تتبيّن حقيقةُ الرسالة: تحريرٌ متكاملُ الدوائر؛ توحيدٌ يعتق القلب، وبرهانٌ يعتق العقل، وأخلاقٌ تعتق السلوك، ونظامٌ عامّ يعتق المجتمع من الاستبداد والتمييز. فمن عبدَ اللهَ وحده تحرّر من كلّ ما سواه، ومن خضع للحقّ لم يخضع لسطوة بشر، ومن استظلّ بميزان الوحي عاش حرًّا كريمًا، وأصبح أهلاً لعمارة الأرض على هدىً من الله.
ثانيًا: المقاصد القرآنية في دعاء إبراهيم عليه السلام
لم يكن مولد النبي ﷺ حدثًا عفويًّا في مسيرة التاريخ، بل كان استجابةً لدعاءٍ قديم رفعه الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يشيّد البيت العتيق، حين قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ [البقرة: 129]. إن هذا الدعاء في ألفاظه الوجيزة قد رسم خريطة المقاصد الكبرى للرسالة الخاتمة، فجاءت بعثة محمد ﷺ تحقيقًا لأمانة الأنبياء السابقين، واستكمالًا لما بشّروا به، لتكون رسالته رسالةَ التحرير والإنقاذ.
- تلاوة الآيات: تحرير العقل بالوحي
إن أول ما ذكره الدعاء هو التلاوة، لأن العقل البشري كان بحاجةٍ إلى مرجعيةٍ معصومة تُخرجه من أسر الخرافة وتيه الهوى. فجاءت التلاوة القرآنية تحيي القلوب الميتة، وتفتح أبواب البصيرة، وتربط العقل بميزانٍ إلهيٍّ ثابت لا يتقلّب مع الأهواء. وهكذا كان مقصد التلاوة مقصدًا للتحرير المعرفي، ينقل الإنسان من فوضى الرأي البشري إلى نور الوحي الرباني.
- تعليم الكتاب: تحرير المعرفة من التحريف والجهل
ثم يأتي التعليم، وهو ترسيخٌ للمعرفة الصحيحة القائمة على الوحي. فالعلم في الرسالة ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة لبناء الوعي وصياغة الحضارة. جاء النبي ﷺ ليُعلّم الناس الكتاب، أي نصوص الوحي، فتصير معرفتهم بالله ومعرفتهم بالحياة معرفةً يقينية راسخة، لا ظنونًا ولا أوهامًا. وهنا يتجلّى مقصد التحرير العلمي الذي يخلّص الإنسان من جهلٍ مركّب أو علمٍ مزوّر.
- تعليم الحكمة: تحرير الفهم من السطحية والانحراف
وإذا كان العلم يمدّ الإنسان بالمعرفة، فإن الحكمة تمنحه القدرة على حسن التوظيف. فكم من علمٍ صار نقمةً حين غابت عنه الحكمة، وكم من معرفةٍ أفسدت حين استُخدمت بغير بصيرة. فجاء مقصد تعليم الحكمة ليحرّر العقل من الغلوّ والجفاء، ويهديه إلى الاعتدال والتوازن، حتى يصبح العلم نورًا يهدي، لا سلاحًا يدمّر.
- التزكية: تحرير الروح من الرذائل والأهواء
ثم ختم الدعاء بمقصد التزكية، وهو لبّ الرسالة وروحها، فبغير تزكية لا ينفع العلم ولا الحكمة. والتزكية هنا ليست شعائر ظاهرية فحسب، بل هي عملية شاملة لتطهير الضمير من الشرك والرياء، وتنقية النفس من الشهوات المهلكة، وصياغة الروح في محراب الإيمان والعبودية. إنها الحرية الباطنية التي تجعل الإنسان سيّد نفسه، لا عبدًا لهواه.
إن هذه المقاصد الأربعة: تلاوة الآيات، تعليم الكتاب، تعليم الحكمة، التزكية، إنما هي دوائر متكاملة لصناعة الإنسان الحرّ الكامل، فلا حرية بلا علم، ولا علم بلا حكمة، ولا حكمة بلا تزكية. ومن هنا ندرك أن ميلاد النبي ﷺ كان بعثًا جديدًا للإنسانية، استجابةً لدعاء الخليل، وتدشينًا لعهدٍ جديد يقوم على حرية الضمير ونور الوحي وصفاء الفطرة.
ثالثًا: المقاصد الجامعة في آية الأعراف
إذا كان دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام قد رسم معالم المنهج الذي ستقوم عليه الرسالة الخاتمة، فإنَّ القرآن قد جاء ببيانٍ أوفى وأشمل في آية جامعة تُعَدُّ بمثابة “دستور المقاصد النبوية”، وهي قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
هذه الآية العظيمة لا تقتصر على وصف النبي ﷺ، بل تسرد مقاصد بعثته في ستة معالم كبرى، كل واحدٍ منها يمثل وجهًا من وجوه التحرير الإنساني، ويصبّ في صناعة الإنسان الحرّ الكريم.
- الأمر بالمعروف: تحرير المجتمع بالفضيلة
المعروف هو ما استقرَّ في الفطر السليمة من الخير والعدل والرحمة. فجعل النبي ﷺ وظيفته أن يوقظ ضمير المجتمع بهذه القيم، يذكّرهم بالحق، ويدعوهم للعدل، ويغرس فيهم الرحمة. فهذا مقصدٌ من مقاصد التحرير: أن لا يبقى الخير حبيس النفوس، بل يصير نظامًا جماعيًا يُصلح المجتمع ويُوجّه حركته.
- النهي عن المنكر: حماية الإنسان من الانحراف
المنكر هو كل ما أنكرته الفطر ورفضته العقول السليمة. فجاءت الرسالة لتحمي الإنسان من الانزلاق إلى مهاوي الظلم والفساد، وتنقذه من العادات المدمّرة والأهواء الجارفة. بهذا صار النهي عن المنكر آليةً لتحرير الإنسان من عبودية الشهوة والأنظمة الجائرة، وصونًا له من الانحطاط الخُلقي والاجتماعي.
- إحلال الطيّبات: توسيع أفق الحرية
جاءت الرسالة لتُحلّ للناس الطيّبات التي ضيّقتها الأديان المحرّفة أو كبّلتها الأعراف الظالمة. فهي تحرير لحياة الناس من القيود المصطنعة التي حرمتهم من نعم الله، فجاء النبي ﷺ ليعلن: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: 32]. فالتحليل هنا ليس مجرد إباحة، بل هو تحرير لمجال الحياة ليكون فسيحًا طيبًا، يعيش فيه الإنسان بلا حرجٍ ولا تضييق.
- تحريم الخبائث: صيانة الحرية من الانفلات
كما أطلق الإسلام الحرية بالطيبات، فقد قيدها بحظر الخبائث. فالتحريم هنا ليس تقييدًا للإنسان، بل حمايةٌ له من السقوط في ما يُفسد جسده وروحه وعقله ومجتمعه. فهي حريةٌ مؤطرة بالقيم، تضمن للإنسان أن يعيش نقيًّا مصونًا، فلا تتحول الحرية إلى فوضى تدمّر إنسانيته.
- رفع الإصر: التحرير من الأثقال المحرَّفة
الإصر هو التكاليف المشدّدة التي فُرضت على الأمم السابقة عقوبةً لهم أو انحرافًا في شريعتهم. فجاء النبي ﷺ ليخفّف عن أمته، ويجعل شريعتها وسطًا بين الغلوّ والتفريط. وهذا مقصد من مقاصد التحرير: أن لا تكون التكاليف حجر عثرة في سبيل الإنسان، بل سلّمًا يرفعه إلى الكمال.
- إزالة الأغلال: التحرير من القيود الاجتماعية والسياسية
الأغلال هي القيود التي كبّلت الأمم بالاستبداد والظلم، أو بالتحريف الديني، أو بالعادات الجائرة التي أحلها الناس محل الوحي الشريف، واتخذوها دينًا من دون التشريع؛ فجاء النبي ﷺ ليكسر هذه السلاسل، ويمنح الناس كرامتهم وحرّيتهم، فلا يَدينون إلا لله، ولا يخضعون إلا لسلطان الحق، وهنا يتجلّى لبّ الرسالة: الحرية الشاملة، التي تعيد للإنسان إنسانيته.
إن هذه المقاصد الستة تجتمع على محورٍ واحد هو إطلاق الحرية المسؤولة: حريةً تُبنى على المعروف، تُصان من المنكر، تُثريها الطيبات، تُطهّرها من الخبائث، تُخفّف عنها الأثقال، وتُحطّم عنها القيود. فآية الأعراف قدّمت الدستور الجامع لمشروع محمد ﷺ، مشروعٍ هدفه الأسمى أن يعيش الإنسان حرًّا كريمًا، عبدًا لله وحده، سيدًا في دنياه، معمِّرًا لها بالعدل والرحمة.
رابعًا: الأثر الحضاري المتجدِّد
إن رسالة النبي ﷺ لم تكن مجرّد دعوة أخلاقية أو منظومة وعظية، بل تحوّلت منذ لحظتها الأولى إلى مشروع حضاري شامل، جمع بين بناء الإنسان وتشييد العمران، فأنتج نموذجًا فريدًا لا يزال أثره ممتدًّا إلى يوم الناس هذا.
لقد أسّس ﷺ في المدينة المنوّرة نواة مجتمع جديد يقوم على العدل والشورى والتكافل، وكان المسجد قلبه النابض: مكانًا للعبادة، ومنبرًا للعلم، ومركزًا للقرار السياسي، ومظلةً للتماسك الاجتماعي، ومن خلال “صحيفة المدينة”([2]) التي عدّها الباحثون أوّل دستور مدني شامل، وضع أسس التعايش بين المسلمين وأهل الملل الأخرى، على قاعدة المساواة في الحقوق، وصون الدماء، وحماية الحرية الدينية. وهكذا لم تكن الحرية شعارًا مجرّدًا، بل ممارسةً واقعيةً تُصاغ في وثائق ملزمة وتُترجم في واقع معيش.
ثم انطلقت من هذا الأساس حضارة الإسلام التي امتدت شرقًا وغربًا، فشيّدت المدارس والجامعات والمكتبات، وأطلقت قوى البحث والاكتشاف، وقدّمت للعالم نموذجًا متقدّمًا في الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع، كان مقصدها الدائم تحرير الإنسان من قيود الجهل والظلم، وتمكينه من استثمار عقله وروحه في عمارة الأرض. فالعلم فيها عبادة، والعدل فيها قيمة عليا، والرحمة فيها أساس المعاملة.
واللافت للنظر أنّ هذه الحضارة لم تُنتج عبيدًا للسلطة ولا أتباعًا للمصالح، بل ربّت أجيالًا من العلماء والفقهاء والمصلحين الذين حملوا مشعل الهداية، وأسّسوا تقاليد راسخة في النقد والاجتهاد والتجديد، وكل ذلك انعكاس لمقصدٍ أصيلٍ من مقاصد الرسالة النبوية: أن تظلّ الحرية وقودًا للحضارة، والكرامةُ أساسًا للعمران، والتزكيةُ روحًا للحياة.
إن العالم اليوم، في خضمّ أزماته الروحية واستلابه للماديات، لا يزال بحاجة إلى أن يتلمّس هذا الأثر النبوي المتجدد، وأن يتعلّم من مدرسة محمد ﷺ أنّ الحرية الحقيقية ليست انفلاتًا، بل التزامًا بالحق، وليست عبثًا، بل مسؤولية، وأنّ الحضارة لا تقوم على سلطان الحديد والنار، بل على سلطان القيم والعدل والرحمة.
إن ميلاد النبي ﷺ لم يكن بداية رجلٍ عاش ثم مضى، بل كان انطلاق مشروعٍ حضاريٍّ خالد تجلى في بناء مجتمع المدينة، ثم امتدّ في صفحات الحضارة الإسلامية التي لا تزال تنبض إلى اليوم، إنه الأثر المتجدّد للرسالة الخاتمة: تحريرٌ للإنسان، وتزكيةٌ للروح، وبناءٌ للعمران، وهدايةٌ للبشرية في مسيرتها الحائرة.
***
هكذا يتبيَّن لنا أنّ ميلاد النبي محمد ﷺ لم يكن حادثًا عابرًا في سجلّ التاريخ، بل كان انعطافة كبرى غيَّرت مسار البشرية بأسرها، لقد جاء ﷺ ليضع الإنسان في موضعه اللائق: مكرَّمًا بالعقل، حرًّا بالإيمان، مسؤولًا بالرسالة، كانت بعثته استجابةً لدعاء الخليل إبراهيم، وتصديقًا لبشارة المسيح عيسى، وخاتمةً لسلسلة النبوات كلّها، وجوهرها جميعًا تحرير الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية الله وحده، ومن أغلال الجهل إلى أنوار العلم، ومن سطوة الهوى إلى سكينة التزكية.
لقد رأينا في مقاصد دعوته كيف جعل التلاوة والعلم والحكمة والتزكية ركائز لصناعة إنسانٍ جديد، وكيف لخّصت آية الأعراف رسالته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحليل والتحريم، ورفع الأصر والأغلال؛ وكلّها تصبّ في نهرٍ واحد هو نهر الحرية المسؤولة، الحرية التي تصون الكرامة ولا تهدرها، وتبني الحضارة ولا تهدمها.
ثم تجسّد ذلك في الأثر الحضاري الممتد، منذ مجتمع المدينة الذي بُني على العدل والتعايش والشورى، إلى حضارةٍ عريضةٍ أضاءت العالم بالعلم والفكر والفنون، ولا تزال الإنسانية تتفيأ بظلالها، وتنهل من معينها.
واليوم، بعد خمسة عشر قرنًا على ميلاده المبارك، يظلّ صوته ﷺ يصدح في ضمير العالم: ألا أيها إنسان تحرّر لتكون إنسانًا، تحرّر من عبودية الشهوات إلى سموّ الروح، ومن قهر الاستبداد إلى عدل الشريعة، ومن غياهب الجهل إلى نور العلم والحكمة، ومن أوهاق الظلم إلى آفاق العدل، تلك هي البشارة التي حملها، وذلك هو المشروع الذي تركه، وذلك هو الأثر الذي سيظل ممتدًّا ما دامت السماوات والأرض.
(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس مرز الشهود الحضاري للدراسات الشرعية والمستقبلية.
الهوامش:
([1]) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (٣٦١٢) بسنده عن عرباض بن سارية، وقال: “صحيح الإسناد”.
([2]) السيرة النبوية لابن هشام: 6(/8ـ11) دار الجيل. بيروت. طـ أولى. 1411هـ. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بغير إسناد، وقد جاء إسنادها في أحاديث متفرقة، فقد جاءت في الصحيحين عن أبي بكرة، ولمسلم عن جابر رواية جامعة، وفي سنن الترمذي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص، وغيرها من كتب السنة. وحسبنا ما قاله ابن حجر العسقلاني في مقدمة “لسان الميزان” وهو يتحدث عن فضل الاشتغال بعلم الحديث موردًا بعض ما جاء في خطبة الوداع: “فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع..”، قال عن الخطبة: “وقد بلغت حد التواتر” راجع لسان الميزان: (1/3) بيروت. طـ ثالثة. 1406هـ.