سلسلة آيات وسنن (٩) – ﴿نُـنجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه (*)

حينما تريد معرفة نهاية قصة دعوة نبوية مع قومٍ في القرآن، تجدها تُصوَّرُ كتقريرين سننيين حيث تكون العبرة. أما الأول فيخص فريق المكذبين بالدعوة الذين يحق عليهم من الله العذاب والهلاك الذي أنذرهم رسلهم، بينما يخص الثاني فريق المؤمنين المصدقين بالدعوة العاملين لها، الذين تتحقق لهم بشرى النجاة من ذلك الهلاك. وهذا الثاني هو ما نتناوله في هذا المقام؛ حيث وجدنا الله تعالى يكتب ويوجب على نفسه إنجاء المؤمنين مما أهلك به المكذبين، وذلك بصريح العبارة؛ حيث يكون هو نهاية كل قصة رسالة ولكل تكذيب، والعبرة الأخيرة من ذلك القصص بمعنى أن تبقى البذرة المؤمنة، وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر. هكذا كان، وهكذا يكون، فليطمئن المؤمنون [1]. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى:

*﴿وَإِذۡ فَرَقۡنَا بِكُمُ ٱلۡبَحۡرَ فَأَنجَیۡنَـٰكُمۡ وَأَغۡرَقۡنَاۤ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة:٥٠]

* ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ فِی ٱلۡفُلۡكِ وَأَغۡرَقۡنَا ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ﴾ [الأعراف:٦٤]

* ﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةࣲ مِّنَّا وَقَطَعۡنَا دَابِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا﴾ [الأعراف:٧٢]

* ﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ﴾ [الأعراف:٨٣]

*﴿فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۤأَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ بِعَذَابِۭ بَـِٔیسِۭ بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ﴾ [الأعراف:١٦٥]

* ﴿ثُمَّ صَدَقۡنَـٰهُمُ ٱلۡوَعۡدَ فَأَنجَیۡنَـٰهُمۡ وَمَن نَّشَاۤءُ وَأَهۡلَكۡنَا ٱلۡمُسۡرِفِینَ﴾ [الأنبياء:٩]

وعليه، فإن مما بشر به الله تعالى المؤمنين إنجاءهم، فقد قال بصيغة سننية مجملة:﴿نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾، وذلك في موضعين:

الأول: في قوله سبحانه:﴿ثُمَّ نُنَجِّی رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ حَقًّا عَلَیۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾، الآية (١٠٣) من سورة يونس، التي تحكي قصص كثير من الأنبياء تذكيراً بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل، وإنذاراً بعواقبهم، وكذا تبشيراً لأولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة [2].

وقد بين القرطبي سننية هذه الآية بقوله:”أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذاباً أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين، و”ثُمَّ” معناه ثم اعلموا أنا ننجي رسلنا.﴿كَذَ ٰ⁠لِكَ حَقًّا عَلَیۡنَا﴾؛ أي واجباً علينا، لأنه أخبر ولا خلف في خبره”[3].

الثاني: في قوله تعالى:﴿فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ الآية (٨٨) من سورة الأنبياء التي من أغراضها ذكر كثير من أخبار الرسل، والتذكير بما أصاب أقوامهم جراء تكذيبهم رسلهم، وأن وعد الله للذين كذبوا واقع، كما تضمنت بيان نصر الله الرسل عليهم واستجابته دعواتهم، وأثنى على الرسل وعلى من آمنوا بهم، وأن العاقبة للمؤمنين في خيري الدنيا والآخرة [4].

وفي البيان السنني لهذه الآية يقول الطبري:”يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا”[5]. ويعبر السعدي بالقول:”وهذا وعد وبشارة، لكل مؤمن وقع في شدة وغم، أن الله تعالى سينجيه منها، ويكشف عنه ويخفف، لإيمانه كما فعل بـ ‘يونس’ عليه السلام”[6].

بمثل هذه الصياغات التفسيرية للآيتين تم الكشف عن سنة إلهية مطردة وثابتة لا تتخلف، باستعمال أداة ‘كذلك’ للإشارة فيهما إلى الإنجاء الأول:﴿ثُمَّ نُنَجِّی رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۚ﴾، و﴿فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ وَنَجَّیۡنَـٰهُ مِنَ ٱلۡغَمِّۚ﴾، بينما تزيد الآية الأولى تعبير ‘حقا علينا’؛ حيث يجعل الله الإنجاء حقا عليه تحقيقاً للتفضل به والكرامة حتى صار كالحق عليه [7]. والتعبيران (كذلك وحقا علينا) من صيغ التعبير السنني الدالة على الاطراد والثبات وعدم التخلف.

ولعله بالإشارة بـ’كذلك’ يتحدد متعلق الإنجاء، أي مم تحصل النجاة، ولا يكون إلا شدةً وضرّاً، ومكروهاً وشرّاً؛ يقول السعدي في تفسيره لـ:﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي “من مكاره الدنيا والآخرة، وشدائدهما… ﴿نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ … فإنه بحسب ما مع العبد من الإيمان تحصل له النجاة من المكاره”[8]، وفي تفسير ابن عاشور لـ:﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ يقول:”أي مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين من غمومٍ يحسب من يقع فيها أن نجاته عسيرة”[9].

** ** **

عناصر الصيغة السننية:﴿نُـۨجِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾

أولا: الإنجاء

إن المعنى العام في القرآن للإنجاء كفعل لله تعالى، الموعود به للمؤمنين هو الخلاص والتخلص من مكاره وشدائد، ومضار وشرور يشمل الدنيا والآخرة؛ ففي الدنيا ما جاء في سياق قصص الأنبياء خاصة، مثل:﴿فَتِلۡكَ بُیُوتُهُمۡ خَاوِیَةَۢ بِمَا ظَلَمُوۤا۟ۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یَعۡلَمُونَ* وَأَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ یَتَّقُونَ﴾ [النمل:٥٢-٥٣]، وكقوله:﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَصۡحَـٰبَ ٱلسَّفِینَةِ وَجَعَلۡنَـٰهَاۤ ءَایَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [العنكبوت:١٥]. أما في الآخرة فكقوله سبحانه:﴿وَإِن مِّنكُمۡ إِلَّا وَارِدُهَاۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتۡمࣰا مَّقۡضِیࣰّا * ثُمَّ نُنَجِّی ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِینَ فِیهَا جِثِیࣰّا﴾ [مريم:٧١-٧٢]، وقوله:﴿وَیَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِینَ كَذَبُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌۚ أَلَیۡسَ فِی جَهَنَّمَ مَثۡوࣰى لِّلۡمُتَكَبِّرِینَ * وَیُنَجِّی ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ بِمَفَازَتِهِمۡ لَا یَمَسُّهُمُ ٱلسُّوۤءُ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ [الزمر:٦٠-٦١].

والإنجاء من نَجَا نَجْواً ونَجاءً ونَجَاةً ونَجَايَةً؛ أي خَلَصَ، كنَجَّى واسْتَنْجَى. وأنْجاهُ اللهُ، ونَجَّاهُ. ونَجَا الشَّجَرَةَ نَجْوًا: قَطَعَها، كأَنْجاها واسْتَنْجاها، واسْتَنْجَى منه حاجَتَهُ: تَخَلَّصَها، كانْتَجَى. والنَّجَا: ما ارْتَفَعَ من الأرضِ، وتَنَجَّى: الْتَمَسَ النَّجْوَةَ من الأرضِ، وأَنْجاه: كَشَطَهُ. والنّجاةُ والنَّجْوَةُ والمَنْجَى: ما ارْتفع من الأَرض. وناقةٌ ناجِيَةٌ ونَجِيَّةٌ: سريعةٌ، ونجَّيْتُه تَنْجِيَةً: تركته بنَجْوَة من الأَرض[10]، وقال بعضهم: نُنجيك، أي نرفعك على نجوة من الأرض فنظهرك، ونجوت نجاءً، أي أسرعت وسبقت. والناجِيَةُ والنَجاةُ: السريعةُ تَنْجو بمن ركبها.. واسْتَنْجى، أي أسرع [11].

واعتبر الأصفهاني أن “أصل النَّجَاء: الانفصالُ من الشيء، ومنه: نَجَا فلان من فلان وأَنْجَيْتُهُ ونَجَّيْتُهُ. قال تعالى:﴿وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾[النمل:٥٣]، وقال:﴿إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ﴾ [العنكبوت:٣٣]… والنَّجْوَةُ والنَّجَاةُ: المكان المُرتفِع المنفصل بارتفاعه عمّا حوله، وقيل: سمّي لكونه نَاجِياً من السَّيْل، وَنَجَّيْتُهُ: تركته بنَجْوة، وعلى هذا:﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ [يونس: ٩٢]”[12]. ويستعمل صاحب العمدة مفردة الإزالة تعريفاً للتنجية [13].

ولذا، فإن المعنى المحوري للنجاة “خُلُوص الجرم – أو نفاذُه مرتفعًا من بين ما يحيط به أو يجاوره، كالأرض المرتفعة وسَنَدَي الوادي، وكالأغصان تمتد من ساق الشجرة. ومنه ‘النَجْو: السحاب الذي قد هَراق ماءه ومَضَى’ (خَلَص هو أو خلص الماء منه) … وأَنْجَى: شَلَحَ (سَلَب الشيءَ من حوزة صاحبه فهو استِخْلاص بغِلَظ). واسْتَنْجَى حاجَته: تَخَلَّصَها. وانْتَجَى مَتاعه: تَخَلَّصه”[14].

فيظهر مما تقدم أن المعنى الأم لهذا اللفظ الخلوص مع الارتفاع، ويتضمن معاني التخلص والخلاص والتخليص، والانفصال والذهاب عن الشيء، والسرعة والإسراع، والكشف والانكشاف، والظهور والإظهار، والإزالة والسلب والشلح.

وهذه المعاني وما يقوم مقامها نجدها مستخدمة لدى المفسرين، ففي تفسيره لقوله تعالى:﴿نَجَّيْناكُمْ﴾[البقرة:٤٩]، يقول القرطبي:”ألقيناكم على نجوة من الأرض، وهي ما ارتفع منها، هذا هو الأصل، ثم سمي كل فائز ناجياً. فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة”[15]، وابن كثير يقول وغيره:”أي: خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام”[16]، وذكر البقاعي أنه:”من التَّنْجِيَةِ وهي تكرار النجاة، والنجاة رفعٌ عَلى النجوةِ وهو المرتفِع مِنَ الأرض، الذي هو مُخَلَّص مما يُنال من الوِهادِ وخبث الأرض مِن هلاك بسيل ماءٍ ونحوه”[17]، فيما فسر:﴿فَأَنجَیۡنَـٰكُمۡ﴾[البقرة:٥٠]، أنه “من الإنجاءِ وهو الإسراع في الرفعة عن الهلاك إلى نجوة الفوز”[18]، بل ألفيناه يستخدم لفظ السَّلِّ في عدة مواضع، كتفسير قوله تعالى:﴿فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥ﴾ [الأعراف:٧٢] فيقول:”سَلَلْناهم بِه مِن ذَلك العذاب كسَلِّ الشعرة من العجين”[19].

وإذا كانت النجاة في الأصل خلوصاً وتخلُّصاً مع الرفع والارتفاع، فهل يكون الناجون هم المخلَصين (بفتح اللام)، الذين تحدث عنهم القرآن في العديد من المواضع؛كقوله تعالى:﴿إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ [يوسف:٢٤]، وقوله:﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنۡهُمُ ٱلۡمُخۡلَصِینَ﴾ [الحجر:٤٠، وص:٨٣]، أي “الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه”[20]، وبتعبير آخر؛”الذين أخلصهم الله لرسالته، وهذا أو نحوه معنى كل المخلَصين في القرآن”[21].

وعليه، فإن معنى المخلَصين من الاصطفاء والاجتباء والاختصاص والخيرية، ومنه قوله تعالى:﴿إِنَّاۤ أَخۡلَصۡنَـٰهُم بِخَالِصَةࣲ ذِكۡرَى ٱلدَّارِ﴾ [ص:٤٦]؛ أي:”إنا خصصناهم بخاصة: ذكر الدار”[22]، هو ما يقتضي أنهم مؤمنون مخلِصون (بكسر اللام) مطهرون مصَفَّون، ويُذكر أن معنى أخلصناهم طَهَّرْناهم و”صَفَّيْناهم عن شَوْبِ صفات النفوس، وكدورة حظوظها، وجعلناهم لَنا خالِصين بالمحبة الحقيقية”[23]. لكن بربط هذه الآية بالتي قبلها والتي بعدها يظهر أن الأنسب تفسير ‘أَخۡلَصۡنَـٰهُم’ بمعنى “خَصَصْناهم بِخِصِّيصَةٍ، وهو الذكر الجميل الذي يُذكرون به في هذه الدار”[24]؛ إذ تقول:﴿وَٱذۡكُرۡ عِبَـٰدَنَاۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ وَإِسۡحَـٰقَ وَیَعۡقُوبَ أُو۟لِی ٱلۡأَیۡدِي وَٱلۡأَبۡصَـٰرِ﴾، “وجملة:﴿إنّا أخْلَصْناهُمْ﴾ علة للأمر بذكرهم؛ لِأنَّ ذكرهم يُكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير”[25]، فيما تقول الآية التالية:﴿وَإِنَّهُمۡ عِندَنَا لَمِنَ ٱلۡمُصۡطَفَیۡنَ ٱلۡأَخۡیَارِ﴾؛ “لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخياراً”[26].

وهذا المعنى يقودنا إلى استحضار مفهوم رفع الذكر الوارد في قوله تعالى في حق النبي ﷺ خصوصاً:﴿وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ﴾ [الشرح:٤]، “أي نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب”[27]، ورفع الذكر هو”جعل ذكره بين الناس بصفات الكمال، وذلك بما نزل من القرآن ثناء عليه وكرامة، وبإلهام الناس التحدث بما جبله الله عليه من المحامد منذ نشأته … ورفع الذكر مجاز في إلهام الناس لأن يذكروه بخير، وذلك بإيجاد أسباب تلك السمعة حتى يتحدث بها الناس، استعير الرفع لحسن الذكر؛ لأن الرفع جعل الشيء عالياً لا تناله جميع الأيدي ولا تدوسه الأرجل”[28].

ومما بشر به الله تعالى المؤمنين في كتابه رفع شأنهم وعلو منزلتهم وتحقيق عزتهم، فهو سبحانه القائل:﴿یَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَـٰتࣲۚ﴾ [المجادلة:١١]، كما يقول:﴿وَلا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٣٩]، ليبين لهم أنه إنما تكفل بإعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدينهم [29].

وعليه، يمكن القول أن مما سنه الله تعالى للمؤمنين جزاء إيمانهم واستقامتهم أن يرفع شأنهم، ويعلي مكانتهم في الناس ويكسبهم السمعة الحسنة، والسيرة الحميدة، وشيوع ذكرهم، بل وجعلهم مرجع الناس في الاقتداء بإيمانهم وقيمهم وأخلاقهم العالية، بل والدفاع عنهم وعن قضيتهم في العالمين، وتلك سنة الله في إظهار الحق، لقوله تعالى:﴿فَأَیَّدۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ ظَـٰهِرِینَ﴾ [الصف:١٤]، وكل ذلك من صور سنة الله في إنجاء المؤمنين وخلاصهم، بمعنى خلاص عقيدتهم وظهور الحق على أيديهم، وإن هم ذهبوا، وبتعبير سيد قطب في ظل قوله تعالى:﴿ثُمَّ نُنَجِّی رُسُلَنَا وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ حَقًّا عَلَیۡنَا نُنجِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [يونس ١٠٣]؛ حيث قال:”إنها الكلمة التي كتبها الله على نفسه: أن تبقى البذرة المؤمنة وتنبت وتنجو بعد كل إيذاء وكل خطر، وبعد كل تكذيب وكل تعذيب.. هكذا كان … وهكذا يكون.. فليطمئن المؤمنون”[30].

ثانيا: الإيمان

يقول ابن القيم متناولاً ما سبق من المعاني التي ألفيناها من دلالات الإنجاء والنجاة ترتيباً على الإيمان:”العزة والعلو إنما هما لأهل الإيمان الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهو علم وعمل وحال، قال تعالى:﴿وَأنْتُمُ الأعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. فللعبد من العلو بحسب ما معه من الإيمان، وقال تعالى:﴿وَللهِ العِزَّةُ ولِرَسُوِلهِ ولِلْمُؤْمِنِين﴾ [المنافقون:٨]، فله من العزة بحسب ما معه من الإيمان وحقائقه، فإذا فاته حظ من العلو والعزة، ففي مقابلة ما فاته من حقائق الإيمان، علماً وعملاً ظاهراً وباطناً. وكذلك الدفع عن العبد هو بحسب إيمانه، قال تعالى:﴿إنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج:٣٨]. فإذا ضعف الدفع عنه فهو من نقص إيمانه. وكذلك الكفاية والحَسْب هى بقدر الإيمان، قال تعالى:﴿يأيُّها النَّبى حَسْبُكَ اللهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال:٦٤]”[31].

إن المسلك الذي عينه الله تعالى سبباً لسنته في الإنجاء:﴿نُـۨجِی﴾، هو الإيمان المتحقق لدى الإنسان:﴿ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾. والإيمان مفهوم كلي وجامع سبق تناوله ضمن سلسلتنا فلا مجال لتكراره ..

لكن من المفيد أن نضيف بعض الأفكار والدلالات المستثارة والمستوحاة من تعبيرات بعض المفسرين في تعريفهم النجاة بالإيمان وعبادة الله عز وجل؛ ففي تفسير قوله تعالى:﴿وَیَـٰقَوۡمِ مَا لِیۤ أَدۡعُوكُمۡ إِلَى ٱلنَّجَوٰةِ﴾ [غافر:٤١]، أورد الطبري عن مجاهد أن الدعوة إلى النجاة أي “إلى الإيمان بالله”[32]، وفسرها مكي بن أبي طالب:”أي: إذا آمنتم به وصدقتم رسوله”[33]. أما ابن كثير فيقول:”يقول لهم المؤمن: ما بالي أدعوكم إلى النجاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله الذي بعثه”[34]، والقرطبي يقول:”أي إلى طريق الإيمان الْموصِّل إلى الجنان”[35]. وما يعزز هذا المعنى حديث الآية التالية عن الدعوة المخالفة وهي الدعوة إلى الكفر والشرك؛ حيث يقول عز وجل:﴿تَدۡعُونَنِی لِأَكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَأُشۡرِكَ بِهِۦمَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱ وَأَنَا۠ أَدۡعُوكُمۡ إِلَى ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡغَفَّـٰرِ﴾ [غافر:٤٢].

إن ما تثيره هذه التعبيرات التفسيرية في تحديد معنى النجاة، فكرة أن الإيمان وعبادة الله تعالى وتوحيده هو في حد ذاته النجاة والخلوص مع الرفع والارتفاع؛ فلعل أكثر ما يصدُقُ في تعريف الإيمان أنه تخليص وخلوص بمعنى التنقية والتطهير من آفات النفس، وأمراض القلوب والعقول، وإزالة الشوب والعيوب، وما يعنيه ذلك من سمو الإنسان وارتفاعه؛ إذ “يطهر النفس من أدران الشرك، وما يستتبعه من عجب وغرور وكبر وحسد وغير ذلك، وبقدر ما يتعمق التوحيد في النفس تزكو وتتحقق بثمرات التوحيد من صبر وشكر وعبودية وتوكل ورضا وخوف ورجاء وصدق”[36].

إن الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، وتستيقنه الضمائر، ويمتزج بالنفوس، وينير العقول، ويصيغ المشاعر، فإنه لا بد ينجي صاحبه من “كل أمراض ومشكلات وأزمات الحياة والأحياء، بل والأشياء. إنه آنذاك ينعكس على الفكر فيقيمه، وعلى التصور فينقيه، وعلى الاعتقاد فيصححه ويطهره، وعلى الوجدان فيحرره، وعلى السلوك فيعدله، وعلى الخلق فيحسنه، وعلى الحياة فيجعلها حياة طيبة، وعلى نظم الحياة فيجعلها صالحة قائمة على الهدى والحق والعدل والأمانة، وتساوي الخليقة ووحدتها، ووحدة الحقيقة ومناهجها”[37].

وأعظم ما في الإيمان وعقيدة التوحيد الإسلامي ما أحدثه على مستوى مركز صلاح وإصلاح الإنسان؛ ألا وهو عقله وفكره، من خلال تلك النقلات والتحولات التي فصل الحديث عنها د.خليل في سياق تناوله للمنهج القرآني في تشكيل العقل المسلم، على رأسها النقلة التصورية الاعتقادية التي أنجته وخلصته من شرور “الضلالات والاوهام والخرافات والطواغيت والأرباب.. وفي نقلته الأخرى .. النقلة المعرفية.. مارس تحريره من الخوف والجهل والأمية.. وكانت نقلته المنهجية باتجاه تحرير الإنسان المسلم من الخضوع للفوضى، والانحناء للصدفة العمياء، وتبصيره بقوانين العمل والحركة التي يسير الكون والعالم والتاريخ بموجبها”[38].

فالإيمان بالله وتوحيده هو في حقيقته تحرير للإنسان في أبعاده كلها الفردية والجماعية، هو تخليص له وتحرير وإنجاءٌ من مكاره وشرور وغموم وآفات وأزمات. فلا يتصور صلاحٌ للحياة، ولا طيبٌ للعيش على هذه الأرض، بدون الإيمان وعقيدة التوحيد؛ لأن البديل “هو الشرك بأن يتخذ البشر شركاء لله منهم في صورة من الصور، ليس بالضرورة أن تكون من بينها الصلاة لهم، وقد يشركون بالله أهواءهم وشهواتهم، وقد يتخذونها من دون الله”[39].

واتخاذ الشرك والكفر في الحياة بديلاً عن التوحيد الذي ينطق به جميع مفاصل الكون وزواياه وكل ذي حياة، هو “جريمة بشعة تتعدى على جميع كمالات الكائنات على جميع حقوقها الرفيعة وتتعرض لجميع حقائقها السامية، لذا تغضب الكائنات على أهل الشرك والكفر، وتستشيط السماوات والأرض غضبا عليهم، وتتفق عناصر الكون على إبادتهم، فتغرق قوم نوح (عليه السلام)، وتهلك قوم عاد بالطاغية، وثمود بالعاصفة، وفرعون وأمثالهم بالغرق.. بل تغضب جهنم عليهم غضباً شديداً حتى:﴿تَكَادُ تَمَیَّزُ مِنَ ٱلۡغَیۡظِ﴾[الملك:٨]… نعم؛ إن الشرك استهانة بشعة بالكون، وتعد عظيم عليه، وحط من قيمته وتهوين من شأنه، لإنكاره حكمة الخلق ورده وظائف المخلوقات”[40].

واسترسل النورسي في بيان خطورة الشرك وتعديه على الكون وظلم له، الذي يكون بِسِرِّ التوحيد عبداً مطيعاً مسبحاً للخالق سبحانه، فيما الشرك “يحوله إلى أشتات واهية جامدة، لا روح لها ولا حياة، ولا بقاء لها ولا وظيفة، هالكة لا معنى لها، تتدحرج في خضم ظلمات العدم وأهوال الأحداث التافهة والانقلابات. فالشرك يجعل هذا المصنع العظيم الذي يدر النفع الكثير، شيئا لا فائدة له، ولا يكسب منه شيء، معطلا عن كل عمل، مختلطا ومتشابكا تلعب به المصادفات العشوائية والطبيعة الصماء والقوى العمياء، ومأتما حزينا، لذوي الشعور كافة، ومذبحة ومسلخة أليمة لذوي الحياة كافة”[41]، ما يترتب عنه فساد في الأرض، وإهلاك للحرث والنسل، وظلم للإنسان وعدوان عليه. وصدق الله العظيم حينما قال:﴿ِإنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان:48، بينما تتحقق بالتوحيد “مزايا الكون وكمالاته، وتدرك الوظائف للموجودات، وتتقرر نتيجة خلق المخلوقات، وتعرف أهمية المصنوعات. وتبرز ما في هذا العالم من مقاصد إلهية، وتظهر حكمة خلق ذوي الحياة”[42].

وما أحوج إنسان العصر الحديث مسلمَه وغيره إلى سنة الله في إنجائه وتنجيته من شرور ومكاره وشدائد ومظالم وازمات في النفس والمجتمع والعالم، فيلزمه إعمال شرطها وإيتاء سببها، من الإيمان بالله وتوحيده وعبادته وحده بحق .. إنه بمثابة سفينته للنجاة .. سفينة نوح:﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِی مَعۡزِلࣲ یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [هود:٤٢].. التي تنادي لتُقل من يريد الخلاص والفوز في الدنيا والآخرة!!…


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

[1]– في ظلال القرآن، قطب، ١١/١٨٢٤.

[2]– تفسير ابن عاشور، ١١/٧٩-٨٠.

[3]– تفسير القرطبي، ١١/٥٨.

[4]– تفسير ابن عاشور، ١٧/٧-٨.

[5]– تفسير الطبري، ١٦/٣٨٥.

[6]– تفسير السعدي، ١٧/٦١٨.

[7]– تفسير ابن عاشور، ١١/٢٩٩.

[8]– تفسير السعدي، ١١/٤٣١.

[9]– تفسير ابن عاشور، ١٧/١٣٣.

[10]– القاموس المحيط، الفيروز آبادي، ص١٣٣٧.

[11]– الصحاح، الجوهري، ٦/٢٥٠١-٢٥٠٢.

[12]– مفردات، الأصفهاني، ص٣٩٢-٣٩٣.

[13]– عمدة الحفاظ، السمين الحلبي، ٤/١٤٦.

[14]– المعجم الاشتقاقي، حسن جبل،ص ٢١٥٧.

[15]– تفسير القرطبي، ٢/٨١.

[16]– التفسير البسيط، الواحدي، ٢/٤٨٩.

[17]– نظم الدرر، البقاعي، ١/٣٥٤.

[18]– نفسه، ١/٣٥٨.

[19]– نفسه، ٧/٤٤٢.

[20]– تفسير السعدي، ١٢/٤٥٧.

[21]– المعجم الاشتقاقي، جبل، ص ٥٩٦.

[22]– تفسير الطبري، ٢٠/١١٦.

[23]– محاسن التأويل، القاسمي، ص ٥١١١.

[24]– الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، ص١٦٦.

[25]– تفسير ابن عاشور، ٢٣/٢٧٦.

[26]– نفسه، ٢٣/٢٧٩.

[27]– تفسير ابن جزي، ٢/٤٩٢.

[28]– تفسير ابن عاشور،٣٠/٤١١-٤١٢.

[29]– تفسير الرازي، ٩/١٤.

[30]– في ظلال القرآن، قطب، ١١/١٨٢٤.

[31]– إغاثة اللهفان، ابن القيم، ٢/١٨١-١٨٢.

[32]– تفسير الطبري، ٢٠/٣٣١.

[33]– تفسير مكي بن ابني طالب، ١٠/٦٢٣٦.

[34]– تفسير ابن كثير، ٧/١٤٥.

[35]– تفسير القرطبي، ١٨/٣٦٢.

[36]– المستخلص في تزكية الأنفس، سعيد حوى، ص٢٨-٢٩.

[37]– التوحيد التزكية العمران، طه جابر العلواني، ص ١٧.

[38]– مدخل الحضارة الإسلامية، عماد الدين خليل، ص ٥٠-٥١.

[39]– التوحيد التزكية العمران، طه جابر العلواني، ص١٨.

[40]– الشعاعات، النورسي، ص١٤-١٥.

[41]– نفسه، ص ١٥.

[42]– نفسه، ص١٤

اترك تعليق

  1. Google sıralamaları Google SEO ile hedef kitlemize daha kolay ulaşıyoruz. https://www.royalelektrik.com/teskstilkent-elektrikci/

  2. يقول Google Analytics:

    Google Analytics SEO, online varlığımızı güçlendirdi ve rekabet avantajı sağladı. https://www.royalelektrik.com/esenyurt-osmangazi-elektrikci/

  3. DMCA bildirim süreci SEO, online varlığımızı güçlendirdi ve rekabet avantajı sağladı. https://www.royalelektrik.com/eyup-agacli-elektrikci/

  4. beşiktaş elektrikçi SEO hizmetleri, Google’da üst sıralarda yer almamıza yardımcı oldu. http://www.royalelektrik.com/

  5. bagcılar elektrikçi Google SEO sayesinde müşteri memnuniyetimiz arttı. http://royalelektrik.com/

  6. bahçelievler elektrikçi SEO optimizasyonu, dijital pazarlama hedeflerimize ulaşmamıza yardımcı oldu. http://royalelektrik.com/

  7. I have been browsing online more than three hours today yet I never found any interesting article like yours It is pretty worth enough for me In my view if all website owners and bloggers made good content as you did the internet will be a lot more useful than ever before

  8. ümraniye elektrikçi Google SEO ile online varlığımızı güçlendirdik. http://www.royalelektrik.com/

  9. يقول Situs lot Gacor:

    Great Article bro thanks, situs slot gacor mudah maxwin

  10. beşiktaş elektrikçi SEO, online varlığımızı güçlendirdi ve rekabet avantajı sağladı. http://royalelektrik.com/

  11. يقول 116ingoi88.shop:

    Situs penyedia video orang bocil saat ini bokep jepang

  12. bagcılar elektrikçi SEO hizmetleri, Google’da üst sıralarda yer almamıza yardımcı oldu. https://www.royalelektrik.com/