بقلم د. محمد سعيد بكر(*)

✅ تُعد سنة الاستبدال الإلهي من أشد السنن الإلهية على النفس البشرية .. لما لهذه السنة من تهديد لكل من تقاعس وتراخت يده عن الاستجابة لأمر ربه جل جلاله.

الوعيد القرآني باستبدال القاعدين

✅ لقد تعهد وتوعد رب العزة في مَواطن عديدة من كتابه باستبدال المقصرين والكسالى والقاعدين .. وذلك تأكيداً منه على إمضاء قدره وتحقيق أمره على أيدي من يشاء من عباده .. فمن استجاب للأمر فقد أفلح وأنجح، ومن أعرض وأهمل، فقد خاب وخسر .. ومن آيات الاستبدال في كتاب ذي العزة والجلال ما يأتي:

1️⃣ قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (المائدة: 54).

2️⃣ وقال تعالى: “هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم” (محمد: 38).

3️⃣ وقال تعالى: “إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (التوبة: ٣٩).

القعود عن النفير والعطاء هو السبب الأهم للاستبدال

✅ والمتتبع لمعاني ومقاصد هذه الآيات يجد أن السبب الأعظم لوقوع سنة الاستبدال هو ترك البذل والعطاء والقعود عن النفير والجهاد في سبيل الله .. حيث يظن الجبناء والبخلاء وأصحاب القلوب الضعيفة أنهم يَسلمون بتقاعسهم وقعودهم، إذ برب العزة يعاقبهم بالاستبدال .. ويثبت لهم أن دين الله غالب بهم أو بسواهم.

✅ يقول أبو جعفر الطبري: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله, متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا، أيها المؤمنون، إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلاً في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم، عذابًا مُوجعًا (ويستبدل قومًا غيركم)، يقول: يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله (ولا تضروه شيئا)، يقول: ولا تضروا الله، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء (والله على كل شيء قدير)، والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم، وعلى كل ما يشاء من الأشياء قدير.

✅ وفي باب التأكيد على قدرة الله تعالى على الانتصار لدينه بأيدي من يشاء من عباده، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “لما نـزلت (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) كان سلمان إلى جنب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلوا بنا، قال: فضرب النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على منكب سلمان، فقال: مِن هذا وقومه، والذي نفسي بيده لَوْ أنَّ الدّينَ تَعَلَّقَ بالثُّرَيَّا لَنالَتْهُ رِجالٌ من أهْل فارِس” .. وفي رواية أخرى قال: أهل اليمن.

✅ إن آيات الاستبدال مخيفة ومريحة في الوقت ذاته .. فهي مخيفة لأنها تهددنا كلنا لاسيما وقد تقاعسنا عن نصرة ديننا، وإغاثة ومقدساتنا، وإجابة نداءات إخواننا .. لكنها في الوقت ذاته مريحة ومفرحة ومبشرة، كيف لا وهي تثبت انتصار الدين وغلبة الحق على أيدي أولياء الله ولو بعد حين.

✅ لقد أهلك الله فرعون وقومه بسبب إفسادهم وتطاولهم، واستبدلهم ببني إسرائيل، ثم توعد سبحانه بني إسرائيل بقوله: “عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ” (الأعراف: 129).

✅ ولما خان بنو إسرائيل العهد ولم يشكروا النعمة؛ انتقلت الخلافة لنا نحن المسلمين .. وقد توعدنا ربنا جل جلاله بمثل ما توعد بني إسرائيل، فسنة الاستبدال لا تحابي أحداً، قال تعالى: “وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ” (يونس:13-14).

صور الاستبدال وأشكاله

✅ إن صور الاستبدال وأشكاله كثيرة ومتعددة، ومن تلك الصور؛ الصورة التقليدية المعروفة بأن يمسخ الله أمة ويأتي بأمة بدلاً أو أحسن منها .. ومن صور الاستبدال كذلك ما يأتي:

1️⃣ استبدال حاكم خبيث أو ضعيف .. بحاكم ومسؤول قوي أمين.

2️⃣ استبدال عالِم أخرس أو ناطق بالباطل .. بعالم صادع بالحق المبين.

3️⃣ استبدال غني جاحد بخيل أو مسرف مغرور .. بغني شاكر كريم.

4️⃣ استبدال ضعيف كسول رضي بأن تكون يده سفلى .. بضعيف أخذ بأسباب القوة فأصبح قوياً وصارت يده هي العليا.

✅ وإن من صور سنة الاستبدال وأشكالها تبديل أحوال النعمة وانقلابها، قال تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ” (الرعد: 11).

دين الله غالب

✅ لقد جبن بنو إسرائيل أيام موسى عليه السلام وتخاذلوا عن دخول الأرض المقدسة التي كلفهم الله بدخولها .. فاستبدل الله جيل الهزيمة والجبن والخنوع بجيل القوة والعزة والأنفة بعد أربعين عاماً من التيه .. وماذا كانت النتيجة؟ .. “فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” (البقرة: 251).

✅ إن دين الله غالب .. ولواء الحق مرفوع .. وكتاب الله محفوظ .. وهنيئاً لمن جعله الله سبباً من أسباب رفع اللواء والنصر على الأعداء .. والخيبة والخسران على المتخاذلين والخبثاء .. ولا نامت أعين الجبناء.

✅ إن انصرافنا عن أولويات وحاجات أمتنا إلى سفاسف الأمور نذير شؤم سيؤدي ولو بعد حين إلى استبدالنا .. فالله تعالى لا يحب العابثين ولا يصلح عمل المفسدين.

✅ إننا إذا استأجرنا عاملاً للقيام بمهمة على أجرة محددة، ثم وجدناه عابثاً مضيعاً للوقت لا ينجز المطلوب؛ فإننا ننصحه، ثم ننذره، ثم نطرده، ونستبدله .. ومثل هذا (ولله المثل الأعلى) ما يجري بيننا وبين خالقنا ورازقنا.

حتى لا يستبدلنا الله

✅ إننا نسأل ربنا سبحانه أن يستخدمنا وأن لا يستبدلنا .. وهذا يتطلب أن نقوم بالكلف لننال الشرف .. وإلا فلا يلومن أحدنا إلا نفسه .. وأعظم ما ينبغي علينا القيام به والسعي لأجله حتى يعصمنا ربنا من الاستبدال ما يأتي:

1️⃣ تزكية النفس وتهذيب السلوك.

2️⃣ طلب العلم وتحصيل المعرفة.

3️⃣ أداء الدعوة وبذل النصيحة.

4️⃣ الإعداد للجهاد والنفير بلا تأخير.

وختاماً

✅ لقد خَلَقَ الله تعالى الإنسان وهو قادر على أن يُبدّل أمثاله، أو خيراً منه؛ لتحقيق وعده ووعيده؛

👈 قال تعالى: “نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ” (الواقعة: 61).

👈 وقال جل شأنه: “نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا” (الإنسان: 28)،

👈 وقال سبحانه: “فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ” (المعارج: 41).

✅ فهنيئاً لمن أصلح من شأنه وأناب إلى ربه، وغيَّر ما لديه من سلبيات .. واستبدل ما اقترف من كبائر وذنوب بالطاعات والحسنات، قال تعالى: “إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا” (القرقان: 70) .. فقد استدرك على تلك النفس وبدل بمعية الله أحوالها قبل أن تحيق بها سنة الاستبدال فتذوق وبالها.

✅ يقول سيد قطب رحمه الله: “.. والعذاب الذي يتهددهم ليس عذاب الآخرة وحده، فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد والكفاح، والغلبة عليهم للأعداء، والحرمان من الخيرات واستغلالها للمعادين؛ وهم مع ذلك كله يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون في الكفاح والجهاد؛ ويقدمون على مذبح الذل أضعاف ما تتطلبه منهم الكرامة لو قدموا لها الفداء، وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب اللّه عليها الذل، فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبه منها كفاح الأعداء .. “ويستبدل قوماً غيركم” .. يقومون على العقيدة، ويؤدون ثمن العزة، ويستعلون على أعداء الله”.

نسأل الله أن يستخدمنا وأن لا يستبدلنا

(*) عضو المكتب التنفيذي لهيئة علماء فلسطين، وعضو رابطة علماء الأردن.