بقلم الأستاذ إبراهيم بوغضن(*)
لابد من ضريبة تؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة، والكرامة، والحرية، و إما أن تؤدى للذلة، والمهانة، والعبودية.
أولا- طوفان الأقصى والأسئلة المحرجة:
عبر كثير من المثقفين، والكتاب، عربا وغربيين، عن اندهاشهم الكبير من حجم القوة المفرطة جدا التي تطلقها إسرائيل على غزة: بشرا، وحجرا، وشجرا، في الجو، والبر، والبحر، ومعظمها على الفئات المستضعفة في المجتمع: الأطفال، والنساء، والشيوخ، وعلى المرافق ذات الطبيعة الاجتماعية من مدارس، وجامعات، ومستشفيات، ومساجد، وكنائس.
وازداد اندهاشهم أكثر من الموقف الغربي (أمريكا والدول الأوروبية الكبرى) الداعم بدون شروط، وبدون حدود، وبدون خطوط حمراء، للعدوان الإسرائيلي البربري، وهو دعم شامل لكل المجالات العسكرية، والسياسية، والإعلامية، والدبلوماسية، والاقتصادية.
هذا الدعم الغربي بهذا الشكل المريع دفع مفكرا مغربيا مرموقا – حسن أوريد – ليتساءل في مقالة له بعنوان (الإغراء الأخير للغرب): “ما الذي نراه اليوم؟ انعدام التمييز لدى الغرب، ضحايا يُصوَّرون بوجوه إنسانية، تَستدِرُّ العطف، وتَحظى بالتعاطف، وآخرون يُسْتكثَر عليهم وضْعهُم الإنسانيُّ، ولا يُؤخذ بوضعهم المدني، لا يَشْفع لهم أنهم نساء أو أطفال أو شيوخ، ويُشكَّك في عدد ضحاياهم، ويُعتبرون ضمنيا – حسب مصطلح سبق أن استعمله الجيش الأمريكي في حرب الخليج – ضحايا جانبِيِّين، تُغتال الحقيقة بشأنهم أي أنهم يُغتالون مرتين … وصمت مريع لدى النخبة الفكرية الغربية” (الجزيرة نت 30-10-2023م).
ربما من تداعيات هذا العدوان الذي لا توجد في القواميس اللغوية مفردة تعبر عن مستوى همجيته، أن أدرك كثيرون أخيرا خطأ ثقتهم الكبيرة/ العمياء بالغرب، وقيمه، وحضارته. ربما أدركوا كذلك جهلهم بحقيقة إسرائييل منذ أن وُجدت. ذلك أن العدو الصهيوني لم يتغير منذ أزيد من قرن من الزمان: فكر عنصري مقيت، واستعمار استيطاني إحلالي، لم يشهد التاريخ القديم ولا الحديث له مثيلا، حتى أشد الطواغيت دموية في العصور القديمة مثل هولاكو التتاري، أو في العصور الحديثة مثل هتلر النازي، لم يرتكبوا عشر معشار ما ارتكبه هذا الكيان السرطاني ضد الشعب الفلسطييني الأعزل والمسالم، وكل تصريحات قادته، وكل ما كتبوه في مذكراتهم، وكل ما صدر عنهم من أعمال عدوانية وحروب، يُفصح عن انغراس هذه الخصائص في بنية العقل الصهيوني، وليس، كما يزعم الزاعمون، أمرا طارئا عليه نتيجة عملية طوفان الأقصى البطولية.
لقد صمدت المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية الغزاوية أمام القصف المتواصل، والتدمير الممنهج، لمدة تزيد الآن عن شهر، وحققت من الانتصارات الشيء الكثير، وكبدت الكيان المغتصب خسائر جمة في الأرواح، والعتاد، والأمن، مالم يتحقق مثله في أية حرب سابقة بينه وبين الدول العربية مجتمعة. وكان مفروضا – بتعبير خالد الشريف – أن تنعكس آثار هذا الصمود على القلوب الخائفة، والأيادي المرتعشة من القادة العرب لتستعيد رباطة جأشها، وتستلهم الدروس من روعة الإنجاز، وملحمة الصمود، التي كشفت أن “إسرائيل” ليست الوحش الذي يعتقدونه، وأن القليل من السلاح، والكثير من الإيمان كافٍ لدحر إسرائيل وهزيمتها ولكن هيهات أن يتحقق ذلك! فالأنظمة العربية شاخت من زمن على كراسي السلطة وقد أصابها العمى، فما عادت ترى ولا تسمع سوى مصالحها الشخصية، وما يُرضي الجالسين في البيت الأبيض!.
لكن السؤال المحير هو: لماذا تتعلق جل الأنظمة العربية والإسلامية بالخنوع الشديد أمام إسرائيل؟ لماذا بلغ بها الذل مبلغا فاق كل تصور؟ الجواب الذي يقبله العقل السليم في مثل هذه المواقف هو أن ما ستدفعه هذه الأنظمة الذليلة من ضريبة نتيجة تعاونها مع إسرائيل، وخذلانها لحركة شعوبها، وتاريخ أمتها المجيد، هي ضريبة أهون لديها مما ستدفعه لو أنها قاومت الضغوط الأمريكية عليها، وقاطعت الكيان الصهيوني، واحتمت بشعوبها وأمتها؟ منطق واضح: أين هو الربح وأين هي الخسارة؟. ما هو ثمن الصمود؟ وما هو ثمن الاستسلام؟ الحكام يرون في العبودية لأمريكا ولإسرائيل قمة الربح، ويرون في التمسك بالثوابت، والاحتماء بالجماهير، ورفض الإذعان للعدو، قمة الخسارة!
ثانيا- ضريبة الذل في القصص القرآني:
دعونا نناقش هذه الدعوى بمنطق الدين أولا، وباستلهام تجارب معاصرة ثانيا، وعلى ضوء علاقتنا بالعدو الصهيوني نفسه ثالثا.
على المستوى الديني أورد القرآن الكريم قصة بني إسرائيل الذين رفضوا الاستجابة لأمر نبيهم موسى عليه السلام بالدخول إلى أرض مصر بسبب الخوف الشديد الذي أصابهم ممن أسموهم “قوما جبارين”، وعن هذه القصة يعلق صاحب الظلال رحمه الله بقلمه البليغ قائلا: “شاهدتُ شعوبا بأسرها تُشفِق من تكاليف الحرية مَرَّة فتظلُّ تؤدي ضرائب العُبودية مرات. ضرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية ولا تبلغ عُشُر مِعْشارها. وقديما قالت اليهود لنبيها: “يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون “. (سورة المائدة، 22)، فأدَّت ثمن هذا النُّكول عن تكاليف العِزَّة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمالُ، وتُذِلها الغُربة، وتُشَردها المخاوف، وما كانت لتُؤدِّي مِعشار هذا كله ثمنا للعزة والنصر في عالم الرجال”. وقد استفاد المسلمون من هذا الدرس القرآني البليغ فقالوا للرسول الأكرم في معركة بدر الكبرى: والله إنا لا نقول لك كما قالت اليهود لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون”. هذا منطق الدين.
ثالثا- خذوا العبرة من مصير شاه ايران مع أسياده الأمريكان:
أما عبرة التجربة المعاصرة فمن المعروف أن شاه إيران محمد رضا بهلوي لم يكن صديقا كبيرا وحليفا استراتيجيا للولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل كان يلعب دور “الشرطي” الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط بكاملها، واستطاعت اسرائيàل في عهده أن تتغلغل في كل جنبات ايران الرسمية برعاية من سفارتها الضخمة بطهران. وبالرغم من هذه العبودية المطلقة لأمريكا وإسرائيل، وبالرغم هذا الخنوع اللامشروط، فإنه يوم سقط على يد جماهير الثورة الإسلامية بقيادة الخميني لم تُرسل أمريكا جنديا واحدا لحمايته بل أكثر من ذلك رفضت حتى استقباله على أراضيها، أو تَلَقِّيه العلاج من داء السرطان بأحد مستشفياتها، وهذه هي ضريبة الذل والعبودية. وما أفدحها من ضريبة!. كأن سيدا رحمه الله يعنيه بقوله: “كم من رجل باع رُجولتَه، ومرَّغَ خدَّيْه في الثَّرى تحت أقدام السَّادة، وخنَع، وخضَع، وضحى بكل مُقومات الحياة الإنسانية، وبكل المقدسات التي عرفتها البشرية، وبكل الأمانات التي ناطها الله به أو ناطها الناس به … ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هيِّنٌ هينٌ، حتى على السادة الذين استعملوه كالكلب الذليل، السادة الذين لهَث في إثرهم، وَوَصْوَصَ بذنَبِه لهم، ومرَّغ نفسه في الوحْل ليحوز منهم الرضاء” (في كتابه دراسات إسلامية).
رابعا- كيف كافأت اسرائيل عرفات والعرب على تنازلاتهم؟:
إذا كان رموز النظام العربي الرسمي لم يتعظوا بدروس القصص القرآني في قصة بني إسرائيل الذين كانت عاقبة خوفهم هو التيه في الأرض أربعين سنة، وإذا لم يتعظوا بدرس الشاه الإيراني مع السيد الأمريكي الذي نبذه بالعراء وهو سقيم. فليعيدوا قراءة شريط تعاملهم مع القضية الفلسطينية منذ النكبة التي وقعت سنة 1948م.
ألم يتنازل العرب لفائدة إسرائيل عن حقوق كثيرة منذ انهزامهم المدوي أمامها سنة 1967 حتى اليوم؟ ألم يتنازلوا عن المطالبة بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948؟ ألم يقبلوا بوجود إسرائيل على أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين المحتلة بعد أن رفعوا لاءاتهم المشهورة: لا تفاوض، لا صلح، لا اعتراف؟. ألم توافق منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1988 على مبدأ حل الدولتين انطلاقا من حدود سنة 1967 وهو اعتراف صريح بحق إسرائيل في التواجد على أرض أجداهم؟ ألم يشارك ياسر عرفات في سلسلة لا تنتهي من المبادرات، والمؤتمرات، و الاتفاقيات، التي أهدرت حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية العادلة؟. فماذا كان جزاء قائد هذه التنازلات التاريخية لفائدة إسرائيل – السيد ياسر عرفات -؟ ألم يكن جزاؤه هو حصاره داخل مقاطعة شديدة الضيق بالضفة الغربية لسنوات ثم بعد ذلك تم دَسُّ السُّم له وقَتله في نهاية المطاف؟ ألم يتفاقم الاستيطان في الضفة الغربية مئات المرات عما كان عليه قبل توقيع ما سمي اتفاقية السلام بين منظمة التحرير واسرائيل؟ ألا تعمل الحكومة الاسرائيلàية الحالية بكل السبل من أجل السيطرة على المسجد الأقصى وتقسيمه زمانيا ومكانيا بين المسلمين و اليهود كخطوة أولى على درب الاستيلاء التام عليه، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه؟
مرة أخرى إنها ضريبة الذل يدفعها العبيد للأسياد. وما أفدحها من ضريبة! فليتهم يتعظون.
خامسا- الصمود والمقاومة الشعبية هما طريق الحل:
صاح صاحبي في وجهي قائلا: ماذا يملك النظام الرسمي العربي أن يصنع في هذه الظرفية التاريخية التي اختلت فيها موازين القوى لصالح العدو الصهيوني سوى الخنوع والذلة؟
جوابي أخذته من المفكر الكبير المستشار طارق البشري الذي شرح ما سماه (الطريق الثالث) بين الحرب النظامية وبين الذلة والخنوع، يقول رحمه الله: “محسوم لدي فيما أظُن أن الحرب النظامية لا مجال لها في هذا الصراع القائم بين العرب واسرائيàل، ومحسوم فيما يُظن أنه متى استبعدنا الحروب النظامية بحسبانها وسيلة في هذا الصراع، فيتعين أيضا أن نستبعد، وأن نتفادى ما يفضي إلى حروب نظامية من سياسات وأوضاع. ولكن من المحسوم أيضا أن بفلسطين أرضا محتلة من اسرائييل، وأن الاحتلال الإسرائيلي غير مشروع في كل منطق ونظام دولي قائم، ومحسوم أيضا أن اسرائيل تهدد الأمن الجماعي العربي، وأن وجودها يُجهض أبدا إمكانيات النهوض والتنمية في بلادنا. ومع تعارض “المحسومين الأولين” مع “المحسومين الأخيرين” فلا بد أن يوجد طريق ثالث، وهذا الطريق الثالث هو طريق المقاومة الشعبية بكل صورها وأشكالها، شريطة أن يشارك فيها الشعب العربي (والمسلم) في جميع الأقطار، فالصراع دامٍ ونحن جميعا طرفٌ فيه. والطريق الثالث أيا كانت مسالكه، له مخاطره بالنسبة للشعوب في المقام الأول وبالنسبة للدول في نطاق ما، ولكن لكل سياسة، ولكل قرار يتخذه فرد أو جماعة أو هيئة أو دولة، له دائما وجوه مخاطر، كما أن للسكوت، والجمود، وللمواقف السلبية مخاطرها أيضا، وقد تكون مخاطرها أفدح” من كتابه (العرب في مواجهة العدوان). وهو ما عبرت عنه في العنوان أعلاه بأن ضريبة المقاومة أهون من ضريبة الخنوع.
كتلخيص للطريق الثالث:
المحسومين الأولين: أ- لا مجال للحرب النظامية حالياب- استبعاد ما يفضي الى حرب نظامية.
المحسوم الثانيين: أ- فلسطين أرض عربية إسلامية مغتصبة. ب- اسرائيل تهدد الأمن الجماعي العربي.
نتيجة التعارض بين “المحسومين” هو أن الحل يكمن في المقاومة الشعبية بكل صورها وأشكالها.
وهذه الطريق الثالثة تقتضي في نظري أنه إذا لم يستطع النظام الرسمي العربي الدخول في حرب نظامية مع اسرائيل بغرض استرداد فلسطين فلا يجوز له تقديم فروض الولاء والطاعة لنتنياهو، وبايدن، وماكرون، وغيرهم من قادة الغرب المشاركين في العدوان البربري الصهيوني على غزة.
وعلى هذا النظام الرسمي العربي أن يُبْقي على الحد الأدنى من الكرامة وهو مقاطعة إسرائيل، ودعم المقاومة، ورفض تهجير سكان غزة خارجها، والاحتفاظ بالحقد المقدس ضدها، وتوريث القضية للأجيال المقبلة.
(*) باحث مغربي في الفكر الإسلامي.
في الحقيقة أسئلة وأجوبة مهمة للغاية
ليتك ذكرت المصدر الخاص بالطريق الثالث لطارق البشري ،من أين أخذته. أحتاج إليه. وشكرا لك.