طوفان الأقصى ودرس الفعالية الحضاري

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه(*)

أهم لافت للانتباه في معركة طوفان الأقصى، حالة اللاتناظر بين طرفيها؛ أي قلة وضعف إمكانات وقوى المقاوم المقاتل في غزة، مقارنةً مع قوة العدو الصهيوني. ورغم ذلك، فإن هذا المقاتل هو المنجز الحقيقي للانتصارات في ميدان القتال، والمثخن في هذا العدو المدجج والمتحصن بأعتى الأسلحة، وأقوى العتاد، وأكثر العدد.

[صفات فعل طوفان الأقصى]

وهذا إن دل على شيء فعلى أنه لم يستسلم لضعفه وقلة عدته، وهوانه على الناس، ولم يخش قوة عدوه، كما لم ينتظر حتى تتوفر له الإمكانات والقدرات الهائلة، أو يتساوى أو يقترب في القوة مع عدوه، بل انبعث منطلقاً مما توفر لديه من إمكانات، وفعَّله وابتكر به وأبدع واستخرج أفضلَ ما يمكنه بما حباه الله من معارف وخبرات ومهارات، فلما حانت المواجهة، وأوانُ الاستعمال جاء الفعلُ رشيداً غير متخبِّط، حكيماً غير مندفع، متوازناً غير متهور، مسدداً غير عشوائي. وكل ذلك مبنيٌّ على فقهٍ للواقعِ عميقٍ من مختلف زواياه، متعدد الأبعاد، متبصِّرٍ بالعواقب والمآلات. والنتيجة .. ها هو ذا المقاوم المقاتل الحقيقي الضعيف والمحاصر، يحقق النتائج المبهرة، من إيقاع الخسائر المؤلمة للعدو القاتل، وإلحاق الهزائم به تلو الهزائم.

لو أنه اعتمد على الانتظارية والاتكالية، واستسلم لليأس والخوف، سيطول وضعه ويزمن أكثر مما طال، ولتعذر تحقيق الهدف. حينها يزداد القوي قوة على قوة، وينغمس الضعيف في ضعفه، وليركبنه طبقاً عن طبق.. وسيبقى هناك ينتظر، ربما إلى ما لا نهاية. فكيف سيُحقق الإمكان، ويُهيئ الأسباب، ويَبني شروط القوة لمواجهة التحديات وتحقيق الأهداف؟ ألا يفترض بطبيعة الأمور أن يُراكم الإنجازات، وتأخذ الأمور صيرورتها وتطورها، وذلك بالانطلاق من الموجود من القدرات والموارد التي لن يعدمها الإنسان، مع دراسة جيدة للواقع، والتفكير الإبداعي، والتخطيط الجيد، ثم إيقاع الفعل المناسب، في طريق تحقيق المنشود .. فلم الانتظار؟؟ وانتظار ماذا؟؟.. وإلا يكون المرء معتمداً على الأماني والأحلام والأوهام.. وهو المحال عقلاً، وفي القرآن:﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ﴾ [النساء: ١٢٣]، بل: ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُوا۟﴾ [التوبة:١٠٥]، بما تيسر وأمكن.

[الإنسان المقاتل الفاعل]

وإذاً، المقاتل الفاعل لطوفان الأقصى الساعي إلى حريته، ودفع شر المحتل القاتل عن أرضه، وتخليص العالم من علوه وفساده، لم يكن منتظراً ولا سلبياً، بل معِدّاً مستعِدّاً دائماً، مستثمراً لما عنده مفعِّلاً له غير متوانٍ، فطبَّق بذلك الدرس المقصود استنباطه من قوله تعالى:﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ أَحَدُهُمَاۤ أَبۡكَمُ لَا یَقۡدِرُ عَلَىٰ شَیۡءࣲ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَیۡنَمَا یُوَجِّههُّ لَا یَأۡتِ بِخَیۡرٍ هَلۡ یَسۡتَوِی هُوَ وَمَن یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ [النحل: ٧٦]؛ حيث يذم سبحانه العجز والسلبية، ويمدح الفعالية والإيجابية.

الآية تنبه على تلك الصفة المحورية التي تمكن الإنسان من أداء واجبه ليصل إلى هدفه، وهي”الفعالية”، التي يمكن تعريفها بقدرته على استعمال وسائله الأولية، واستخراج أقصى ما يمكن من النتائج. فهذا هو الإنسان الفعال الآمر بالعدل كما تعبر الآية، الذي يقدر على التصرف في الأشياء وهو سليم الحواس نفَّاعٌ ذو كفاية ورشد ودين واستقامة:﴿وَهُوَ عَلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾؛ لا يميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط، بل يلتزم طريق العدل والحق، لا يَعْوَجّ عنه ولا يزول، إنه الفعال الذي إذا وجَّهتَه إلى أمر يؤديه على وجهه، ويحصل على أحسن النتائج، ويأت بخير. يقابله اللا فعال، العاجز، الموصوف بكلمة ‘الكَلّ’، التي لا تدل على اللافعالية فحسب، بل على أنه عبء على من يتولاه سواء كان فرداً أو مجتمعاً، ثم وُصف أنه:﴿أَیۡنَمَا یُوَجِّههُّ لَا یَأۡتِ بِخَیۡرٍ﴾؛ أي إذا وجهته لفعل أمر لا يؤديه كما ينبغي، ولا يأت بخير قط. وكلها أوصاف للإشارة إلى العجز التام، والنقصان الكامل، والسلبية والتأخر. ولذا، فإن الآية لكأنها تعقد مقارنة تتضمن وصفاً دقيقاً للفعاليَّة وضدها اللا فعالية في مَثَل الرجلين، مدحاً لحالة الفعل والإيجابية والتقدم في طريق الحق والعدل والاستقامة ترغيباً فيها، وذمّاً للكلالة بما هي حالة العجز والسلبية والانتظارية والتأخر تحذيراً منها. والرجلان بطبيعة الحال لا يستويان، وهو ما تريد الآية أن تقرره من تلك المقابلة بين أوصافهما. (يراجع الانسان كلا وعدلا، جودت سعيد، وتفسير الطبري، وتفسير الشوكاني، وفتح البيان للقنوجي).

وهكذا، فإننا أمام درس حضاري قرآني للأمة، تحتاج بشدة إلى تمثله والاعتبار به فكراً وعملاً؛ وهي التي لا يخفى على الناظر عجزها التام، وتخلفها المزمن وحالة انتظاريتها التي لا تزيدها إلا ضعفاً وتأخراً، ومزيد تفويتٍ للفرص.

[فاعل طوفان الأقصى هو المُعلّم]

معلِّمُ هذا الدرس وملقنه فاعلُ  طوفان الأقصى، الممتلئُ في خلفياته العقدية باليقين بأن واجبه تطلُّبُ كل أسباب النصر، وبذل كل الجهد بما معه من قدرات وموارد مهما قلت وهزُلت، ممتثلاً لأمر الإعداد حسب الاستطاعة الذي يؤكد معنى الفعالية:﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ﴾ [الأنفال:٦٠]. وتأمَّل دلالة تعبير ‘ما استطعتم’ المفتوح على كل ما يتوفر من الاستطاعة غير مقيد، ولذا عدد منها السعدي بقوله:”أي‏:‏ كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي‏، والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير”.

 وفي أثناء استعداده وتطلب الأسباب والشروط قد فوض أمره إلى الله متوكلا عليه، وتوفيقه ونصره من عنده سبحانه القائل:﴿وَٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ فِینَا لَنَهۡدِیَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ﴾ [العنكبوت:٦٩]، والقائل عز وجل:﴿وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَكِیمِ﴾ [آل عمران: ١٢٦].

[الفئة القليلة ذات الموازين الربانية هي الغالبة]

ثم إن في تمثلاته اليقينية وشحناته الايمانية قول أولئك المؤمنين:﴿ٱلَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة:٢٤٩]؛ حيث المعنى كما يقول الرازي: “أنه لا عبرة بكثرة العدد إنما العبرة بالتأييد الإلهي، والنصر السماوي، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة”، وبتعبير السعدي: “لا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره”، وهو المعنى الملموس في قوله تعالى:﴿إِن یَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن یَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِی یَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦوَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾ [آل عمران:١٦٠]. فليس الانتصار عن كثرة عدد، أو قوة عتاد، بل اعتماد على الله وتوكل عليه، مع الصبر والمثابرة .. العبرة بالتوكل على الله المتضمن في معنى الفعالية؛ المستند كما يقول ابن عاشور “إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى: من أسباب عادية وهي الاستعداد، وأسباب نفسانية وهي تزكية النفس واتباع رضى الله تعالى”.

إن فئة المؤمنين الذين يوقنون أنهم ملاقو الله، هي الفئة القليلة ذات الموازين الربانية، القاعدةُ في حسهم: أن تكون الفئة المؤمنة قليلةً، لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار، ولكنها تكون الغالبة لأنها تتصل بمصدر القوى؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة، قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده، مهلك الظالمين وقاهر المتكبرين. هؤلاء المؤمنون يكلون النصر لله:﴿بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾، ويعللونه بعلته الحقيقية:﴿وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾، فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل. (في ظلال القرآن، قطب).


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

اترك تعليق