أ.د.فؤاد البنا
اقتضت مشيئة الله في أن يوزع نعمه ومننَه وفق عدله الذي لا يحابي كائنا ولا يهضم مخلوقا، ذلك العدل الذي تبرز أماراته وثماره في سائر أصقاع الوجود، غير مستثنية أي شيء من الأمور المتصلة بالخَلْق والأمر الذين يتحكم الله عز وجل عبرهما بالوجود والحياة .
وفي هذا المقال القصير سنمر على مثال قد لا ينتبه له أغلب الناس ولا يلفت أنظارهم، وهو ذو صلة بالوسائل التي توصل الناس في سيرهم نحو أهدافهم.
إن من يتمعن في الوسائل التي يتخذها المرء في حركته؛ يجد أنها تجسد العدل الإلهي المطلق من دون أن يشعر أغلب الناس. فالفقير الذي لا يملك سيارة يركبها في كثير من مشاويره، ويعتمد على قدميه دوما، من المؤكد أنه يشعر بألم الفقر والمشي ويتأذى من حرارة الشمس وغبار الهواء، ولكنه في الحقيقة يربح صحته النفسية والبدنية، للمشي فوائد لا تقدر بثمن، وتؤكد الدراسات العلمية التي تتزايد عاما بعد عام، كثرة هذه الفوائد التي تنعكس إيجابا على كل عضو في الجسم، إذ يُنشط المشي وظائف الأعضاء ويذيب المواد الضارة للإنسان كالدهون طاردا إياها من الجسم، ويزيل الضغوط النفسية والتوترات العصبية إن تم المشي بصورة منتظمة. ومن كثرة الفوائد الصحية للجسم والنفس يمكن وصف المشي بالمَنجم الصحي.
أما الذي يستعين على مشاويره بالسيارة فإنه يربح الوقت والشعور بالراحة، لكنه يخسر مقابل ذلك صحته على المدى المتوسط أو البعيد في أحسن الأحوال، إن لم يمارس الرياضة المنتظمة بدلا عن المشي، ولا سيما إن كان غذاؤه غير صحي ويعاني من ضغوط العمل أو مشاكل اجتماعية؛ إذ تتراكم الدهون ويرتفع الكوليسترول وتصاب كثير من الأعضاء بالركود والخمول، وتبدأ وظائفها بالضعف والضمور تدريجيا، وفي الغالب سيتعرض هذا الشخص للبدانة ويتسلل إليه الضغط أو السكر أو كليهما، وكل مرض من هذين سيجلب معه تداعيات سلبية عديدة، ومن هنا نستطيع القول بأن الذين يسيرون على أقدامهم أطول عمرا من الذين يركبون السيارات، مع عدم نسيان أن هناك عوامل أخرى لإطالة العمر أو قصره!
وفي مجال الفوائد غير الصحية، فإن الذي يتعب أكثر يستفيد أكثر، فمن يسافر بالطائرة مثلا يوفر الزمن والجهد اللذين يستغرقها راكب السيارة، لكنه يخسر الكثير من ثمار السير في الأرض ويفوت المتعة الناتجة عن مشاهدة آيات الله في الأنفس والآفاق وهي تنساب في الطبيعة مُشكلةً مناظر خلابة تسلب الألباب وتشجي الأفئدة، تلك المناظر التي تخفف من الضغوط النفسية والعصبية وتمنح الإنسان قدرا كبيرا من الصحة النفسية والمتعة الروحية ولا سيما إن اقترنت بالإيمان بالله وبالقدر واليوم الآخر، وتكسبه الكثير من المفردات المعرفية وتساعده على امتلاك طرائق التفكير الإيجابي واكتساب بعض المهارات التي يحتاجها المسافر بكثرة، وبسبب هذا وذاك فإن المسافر يكتسب من سفره الشاق بهجة المعرفة ودهشة الاكتشاف، ويمتلك سعادة التجوال ولذة التنقل الذي يقضي على فساد الخمول وكآبة الاعتياد.
وهكذا هو عدل الله الذي يمتحن عباده بالمنح والمنع لكنه لا يظلم أحدا منهم أبدا.