مقال بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد(*)
هذا هو عيد الأضحى الثاني الذي يمر على أهلنا في غزة وهم بالحال التي يعلمها الجميع، ويتابعها العالم، وعيد الأضحى هو عيد التضحية والفداء؛ حيث فدى الله تعالى فيه وليَّه إسماعيل بذِبْحٍ عظيم: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات ١٠٤-١٠٧]. في هذه الآيات العظيمة معانٍ جَمَّةٌ نستثمرها لطوفان الأقصى:
أولها: أن الصدق والإخلاص وتمام الطاعة لله تعالى، يستدعي العناية الإلهية ويستنزل الرعاية الربانية، فيتدخل الله مباشرة تدخلًا سافرًا لإنقاذ أوليائه، وجبر عباده، كيف لا وهو القائل: ﴿إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [يوسف ١٠٠]. وهذا يوجب علينا أن نجدد نياتنا، ونطهر أقوالنا وأفعالنا في نصرة المسلمين؛ لتكون خالصة لوجهه تعالى، ولكي تنفع وتثمر نصرةً حقيقية، وتكون جديرة بانتصار العناية الإلهية لها، وتَدَخُّل الرعاية الربانية من أجلها.
ثانيها: أن الإحسان في العمل لا يُضيعه الله تعالى، بل يجازي عليه إحسانا: ﴿هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ﴾ [الرحمن ٦٠]؛ ولهذا قال سبحانه: “إنا كذلك نجزي المحسنين”، ولقد أحسن إبراهيم عليه السلام كل الإحسان؛ حيث أتى بفلذة كبده الذي أخذ شعبة من قلبه، وقص عليه الرؤيا، وجعله من أهل الرأي والنظر: “فانظر ماذا ترى”.
وفي تدابير الذبح التي أخذها إبراهيم يتجلى الإحسانُ كل الإحسان، يقول ابن كثير: “وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كِبَر، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك؛ ثقةً بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان، ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي هو بِكْرُهُ ووحيدُه الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا ويذبحه قهرًا: (قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)، فبادر الغلام الحليم: (قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد، قال الله تعالى: (فلما أسلما وتلّه للجبين)، قيل أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك. ومعنى (تله للجبين) أي ألقاه على وجهه، قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهد (وجهه) في حال ذبحه. قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك .. وأسلما أي سمّى إبراهيم وكبر، وتشهّد الولد للموت، قال السدي وغيره: أمَرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا، ويقال جُعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم، فعند ذلك نودي من الله – عز وجلّ -: (أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا)، أي قد حصل المقصودُ من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذْلِك ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالُك مبذول للضيفان؛ ولهذا قال تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)، أي الاختبار الظاهر البيّن”([1]).
إننا بحاجة اليوم مع طوفان الأقصى إلى إحسان أعمالنا، وتقوى الله في إخواننا، وطلب رضاه بكل أقوالنا وأفعالنا، ساعتها فقط سنرى من فضل الله وعطائه ورعايته ما لا تدركه الإشارة، ولا تلحقه العبارة.
ثالثها: البلاء العظيم، ذلك الذي تجلى في أن يُقْدم إبراهيم على ذبح ولدٍ رزقه الله به على كبر، وهو “بِكْرُه ووحيدُه”؛ فهل هناك بلاء أعظم من هذا؟ وصفه الله بأنه “لهو البلاء العظيم”، هكذا بالألف واللام بعد “لهو”، وهو أسلوب يفيد الحصر والقصر، أي أن البلاء العظيم إذا ذكر ينصرف الذهن إلى هذا المشهد الإبراهيمي الإسماعيلي الرباني، ويُبتلى المرء على قدر دينه، وقد قال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم: “أشَدُّ النّاسِ بَلاءً الأنْبياءُ، ثمَّ العُلَماءُ، ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ”([2]).
ولا نجد اليوم بلاء “أعظم” من بلاء أهل غزة، فيما يتعرضون له من قتل وتشريد، وأشلاء وتهجير، وهدم وتحطيم، وفَقْد للأهل والولد، مع قلة النصير وندرة المعين؛ فضلا عما يعانونه من الجوع والعطش والجراح وندرة العلاج، بالإضافة إلى الغلاء الفاحش في الأسعار الذي أحال حياتهم ضربًا من ضروب المشقة والتعسير.
والذي نراه – تخريجًا على حادث إبراهيم مع ولده إسماعيل – أن الله تعالى سيكتب الفرج المذهل، والنصر المؤزر لأهل غزة؛ ذلك أنهم صبروا وصابروا ورابطوا، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما نراه على الشاشات وعبر التواصل الشخصي من ثبات وصبر ورضى بهذا البلاء العظيم لحقيقٌ بأن يفتح الله لهم فتحًا مبينًا، ويهديَهم صراطًا مستقيمًا، وينصرَهم نصرًا عزيزًا، ويَجزيَهم بفضله وكرمه جزاء المحسنين جنةً وحريرًا، كما جزى إبراهيم عليه السلام: ﴿وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين﴾.
رابعها: التضحية والفداء؛ حيث إن أبرز معاني عيد الأضحى: التضحية والفداء؛ ولهذا شرعت الأضحية؛ اتباعًا لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام؛ فقد فدى الله تعالى عبده إسماعيل بذِبْحٍ عظيم حين علم أن الأب والابن أسلما نفسَيْهما لله تعالى، فأسلم لهما كبشًا يفدى به إسماعيل، والجزاء من جنس العمل.
واليوم يُضحي أهل غزة في معركة طوفان أقصاهم وأقصانا بأغلى ما يملكون، يضحون بأمنهم وأمانهم، يضحون بفلذات أكبادهم، يقدمون دماءهم وأرواحهم، في معركة سميت “طوفان الأقصى”؛ أي أنها للدفاع عن مقدس عظيم من مقدسات المسلمين الواجب عليهم حمايته والدفاع عنه، ولكن أهل غزة يقومون بفرض الكفاية عن أمة لم تقم بواجبها معهم كما يجب أن يقوموا.
فهل ضحينا معهم – ونحن في عيد الأضحى – كما ينبغي أن تكون التضحية؟ هل قدمنا أنفس ما نملك، كما قدموا هم أنفس ما يملكون من الأهل والولد والدماء والجراح والأرواح؟ أم أننا قد اكتفينا بالجلوس خلف الشاشات، وتسربلنا خلف الهواتف الذكية، نتفرج على آلامهم وجراحهم، ونتأمل تضحياتهم وفداءهم، ونقول: “لا حول ولا قوة إلا بالله”، “إنا لله وإنا إليه راجعون” .. أهذا كل ما نملكه؟ هل لا نملك لهم إلا الدعاء كما يقول البعض؟ إننا نملك الكثير غير الدعاء، نملك التضحية بالمال والممتلكات؛ تضامنًا معهم، وإسنادًا لهم في معركتهم، وتخليفًا للمجاهدين بخير في أهليهم وأولادهم، والله تعالى قد قرن الجهاد بالمال بالجهاد بالنفس، بل قدمه على الجهاد بالنفس في حوالي عشرة مواضع من القرآن الكريم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِینَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوۤا۟ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یُهَاجِرُوا۟ مَا لَكُم مِّن وَلَـٰیَتِهِم مِّن شَیۡءٍ حَتَّىٰ یُهَاجِرُوا۟ۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ﴾ [الأنفال ٧٢]؛ فالمجاهدون يحتاجون المال قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال؛ ولهذا حين أمر الله تعالى بالإعداد ذكر المال وفضْل إنفاقه، يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [الأنفال ٦٠]؛ وذلك أن المال من أعظم ما يعين على قتالهم، وأجره مضاعف إلى سبعمائة ضعف.
***
إننا لا نريد من عباداتنا ولا من مناسباتنا أن تكون جوفاء، ولا أن نلتمس منها الخلاص الفردي دون الخلاص الجماعي، بل يجب أن يكون لهذه العبادات وتلك المناسبات دور في حياتنا: فرديًّا واجتماعيًّا، داخليًّا وخارجيًّا؛ فهذه الشعائر إنما شرعت لنغير بها أنفسنا ومن حولنا؛ ولينتقل بها المسلمون من الفرقة إلى الوحدة، ومن الاختلاف إلى الائتلاف، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الاستضعاف إلى التمكين ﴿ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم ٣٠].
(*) أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية، ورئيس المركز.
الهوامش:
([1]) البداية والنهاية: 1/ 365. دار عالم الكتب. 1424هـ / 2003م.
([2]) أخرجه في المستدرك على الصحيحين (٦/١٠٥)، بسنده عن سعد بن أبي وقاص، وعنه أيضا: «إنَّ أشَدَّ النّاسِ بَلاءً الأنْبِياءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ، ثُمَّ سائِرُ النّاسِ على قَدْرِ دينِهم، فمَن ثَخُنَ دينُه اشْتَدَّ بَلاؤُه، ومَن ضَعُفَ دينُه ضَعُفَ بَلاؤُه». الضياء المقدسي، الأحاديث المختارة (١٠٥٣)، أورده في المختارة، وقال: “هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومُسلِم”.