في ميزان القيم الإنسانية .. مقال عن أمريكا والأمريكيين

بقلم الأستاذ سيد قطب(*)

يبدو الأمريكي – على الرغم من العلم المتقدم والعمل المتقن – بدائيا في نظريته إلى الحياة، ومقوماتها الإنسانية الأخرى بشكل يدعو إلى الدهشة. ولعل لهذا التناقض الواضح أثره في ظهور الأمريكان بمظهر الشعب الغريب الأطوار في نظر الأجانب، الذين يراقبون حياة الشعب من بعيد؛ ويعجزهم التوفيق بين هذه الحضارة الصناعية الفائقة، وذلك النظام الدقيق في إدارة الأعمال، وادارة الحياة. . وبين هذه البدائية في الشعور والسلوك، تلك البدائية التي تذكر بعهود الغابات والكهوف!

يبدو الأمريكي بدائيا في الإعجاب بالقوى العضلية، والقوى المادية بوجه عام، بقدر ما يستهين بالمثل والمبادئ والأخلاق، في حياته الفردية، وفي حياته العائلية، وفي حياته الاجتماعية – فيما عدا دائرة العمل بأنواعه، وعلاقات الاقتصاد والمال – ومنظر الجماهير وهي تتبع مباريات كرة القدم، على الطريقة الأمريكية الخشنة التي ليس لها من اسمها (كرة القدم) أي نصيب، إذ أن (القدم) لا تشترك في اللعب، إنما يحاول لاعب أن يخطف الكرة بين يديه، ويجري بها ليقذف بها إلى الهدف، بينما يحاول لاعبو الفريق الآخر أن يعوقوه بكل وسيلة، بما في ذلك: الضرب في البطن، وتهشيم الأذرع والسيقان، بكل عنف وكل شراسة. . منظر الجماهير وهي تتبع هذه اللعبة، أو تشاهد حفلات الملاكمة والمصارعة الوهمية الدامية. . منظرها في هياجها الحيواني، المنبعث من إعجابها بالعنف القاسي، وعدم التفاتها إلى قواعد اللعب وأصوله، بقدر ما هي مأخوذة بالدم السائل والأوصال المهشمة، وصراخها هاتفة: كل يشجع فريقه: حطم رأسه. دق عنقه. هشم أضلاعه. اعجنه عجنا. . هذا النظر لا يدع مجالاً للشك في بدائية الشعور التي تفتن بالقوة العضلية وتهواها.

وبمثل هذه الروح يتابع الجمهور الأمريكي صراع الجماعات والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست ادري كيف راجت في العالم والطوائف، وصراع الأمم والشعوب. ولست ادري كيف راجت في العالم – وبخاصة في الشرق – تلك الخرافة العجيبة. خرافة أن الشعب الأمريكي شعب محب للسلام!

إن الأمريكي بفطرته محارب محب للصراع. وفكرة الحرب والصراع قوية في دمه، بارزة في سلوكه؛ وهذا هو الذي يتفق مع تاريخه كذلك. فقد خرجت الأفواج الأولى من أوطانها قاصدة إلى أمريكا بفكرة الاستعمار والمنافسة والصراع. قال بعضهم بعضا وهم جماعات وأفواج. ثم قاتلوا جميعاً سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر) وما يزالون يحاربون حرب إفناء حتى اللحظة الحاضرة. ثم قاتل العنصر الأنجلو سكسوني العنصر اللاتيني هناك، وطرده إلى الجنوب في أمريكا الوسطى والجنوبية، ثم حارب المتآمر كون أمهم الأولى إنجلترا في حرب التحرير بقيادة (جورج وشنطن) حتى نالوا استقلالهم عن التاريخ البريطاني. ثم حارب الشمال الجنوب بقيادة (ابراهام لنكولن) تلك الحرب التي اتسمت بسمة (تحرير العبيد) وإن كانت دوافعها الحقيقية هي المنافسة الاقتصادية. ذلك أن العبيد المستجلبين من أواسط أفريقية ليعملوا في الأرض رقيقاً، لم يستطيعوا مقاومة الطقس البارد في الشمال، فنزحوا إلى الجنوب. وكان معنى هذا أن يجد المستعمرون في الولايات الجنوبية الأيدي العاملة الرخيصة، على حين لا يجدها الشماليون، فيتم لهم التفوق الاقتصادي؛ لذلك أعلن الشماليين الحرب لتحرير العبيد!

وانقضت فترة العزلة، وانتهت سياستها، عندما دخلت أمريكا الحرب العالمية الأولى، ثم اضطلعت بالحرب العالمية الثانية. ثم ها هي تنهض بالحرب في كوريا، والحرب العالمية الثانية ليست بالبعيدة! ولست ادري كيف راجت تلك الخرافة العجيبة عن شعب هذا تاريخه في الحروب؟

إن الحيوية المادية عند الأمريكي مقدسة، والضعف – أيا كانت أسبابه – جريمة. جريمة لا يغتفرها شيء. أو كن ضعيفاً فل يسعفك مبدأ، ولا يكون لك مكان في مجال الحياة الفسيح. أما الذي يموت فيرتكب بالطبع جريمة الموت ويفقد كل حق له في الاهتمام أو الاحترام، ليس أنه قد مات؟

كنت في مستشفى (جوج واشنطن) في واشنطن العاصمة وكان الوقت مساء حينما غمرت جوه موجة من الاضطراب غير معهودة، وبدت فيه حركة غير عادية تستلفت النظر. وأخذ المرضى القادرون على الحركة يغادرون أسرتهم وحجراتهم إلى المماشي والأبهاء يستطلعون؛ ثم جعلوا يتحلقون متسائلين عن سر تلك الظاهرة في حياة المستشفى الهادئة. وعرفنا بعد فترة أن أحد موظفي المستشفى قد أصيب في حادث مصعد، وأنه في حالة خطيرة بل أنه في دور الاحتضار. وذهب أحد المرضى الأمريكان ليرى بنفسه، ثم عاد يقص على المتحلقين في الممشى ما رأى. . وحين يخيم شبح الموت على مكان، لا تكون له رهبة، ولا يكون للموت خشوعه كما يكون ذلك في مستشفى. . ولكن هذا الأمريكان أخذ يضحك ويقهقه، وهو يمثل هيئة المصاب المحتضر، وقد دق المصعد عنقه، وهشم رأسه، وتدلى لسانه من فمه على جانب وجهه! وانتظرت أن أسمع أو أرى علائم الامتعاض والاستنكار من المستمعين. ولكن كثرتهم الغالبة جعلت تضحك متفكهة، بهذا التمثيل البغيض!

لذلك لم أعجب وبعض أصدقائي يقص علي ما رأى وما سمع، حول الموت ووقعه في نفوس الأمريكان.

قال لي زميل: إنه كان حاضر مأتم، حيثما عرضت جثة رب البيت محنطة في صندوق زجاجي – على العادة الأمريكية – كيما يرى أصدقاء الفقيد بجثمانه، ليودعوه الوداع الأخير، ويلقوا عليه النظرة النهائية، واحد بعد الآخر في صف طويل. حتى إذا انتهى المطاف وتجمعوا في حجرة الاستقبال؛ ما راعه إلا أن يأخذ القوم في دعابات وفكاهات، حول الفقيد العزيز وحول سواه، تشترك فيها زوجة اهله، وتعقبها الضحكات المجللة، في سكون الموت البارد، وحول الجسد المسجى في الأكفان!

وكان الأستاذ مدير البعثات المصرية بواشنطن مدعو هو والسيدة حرمه إلى إحدى الحفلات – وقبيل الموعد مرضت السيدة حرمه، فأمسك بالتلفون ليعتذر عن الحفلة بسبب هذا الطارئ. ولكن الداعين أجابوه بأنه لا ضرورة للاعتذار، فإنه يملك أن يحضر منفردا، وستكون هذه فرصة طيبة، ذلك أن إحدى المدعوات قد توفي زوجها فجأة قبيل الحفلة، وستكون وحيدة فيها، فمن حسن الحظ أن يكون لها رفيق!

ودخلت مرة بيت سيدة أمريكية كانت تساعدني في اللغة الإنجليزية في الفترة الأولى من وجودي في أمريكا؛ فوجدت عندها إحدى صديقاتها، وكانتا تتحدثان في موضوع لحقت أواخره، وهذه الصديقة تقول: (لقد كنت حستة الحظ، فقد كنت مؤمنة على حياته. حتى علاجه لم يكلفني إلا القليل لأننيكنت مؤمنة عليه في هيئة الصليب الأزرق) وابتسمت ضاحكة!

ثم استأذنت وخرجت، وبقيت مع ربة البيت. وأنا احسب أن صديقتها كانت تحدثها عن كلبها – وإن كنت قد دهشت لأنها لا تبدي أي تأثر لموته! – ولكن ما راعني إلا أن تقول لي – ولم أسأل! – (كانت تحدثني عن زوجها. لقد مات منذ ثلاثة أيام!)

ولما أبديت لها دهشتي أن تتحدث منذ ثلاثة أيام بمثل هذه البساطة، كان عذرها الذي لا يخالجها الشك في أنه مقنع ووجيه: (إنه كان مريضا! لقد مرض اكثر من ثلاثة اشهر قبل الوفاة!)

عادت بي الذاكرة إلى مشهد عميق الأثر في شعوري، وقد أثار في خاطري في حينه منذ سنوات. . . خاطرة لم تكتب بعنوان: (مأتم الطيور) ذلك مشهد جماعة من الفراخ كنا نربيها في دارنا، وقد وقفت متحلقة صامتة مبهورة مأخوذة، حول فرخ منها ذبيح، لقد كانت مفاجأة شعورية لكل من في البيت، مفاجأة غير منتظرة من طير غير كتقدم في سلم الرقي كالدجاج، بل كانت صدمة لم نجرؤ بعدها منذ ذلك الحين على ذبح فرخ واحد على مرأى من جماعة الطيور!

ومنظر الغربان حين يموت لها مائت، منظر مألوف شاهده الكثيرون. وهو منظر يصعب تفسيره بغير شعور (الحزن) أو (عاطفة) القرابة! فهذه الجموع من الغربان، المحلقة الصافة، الناعقة بشتى الأصوات والأنغام، الطائرة هنا وهناك، حتى تحتمل جثمان الميت وتطير. . . هذا كله يشي برجفة الموت في عالم الطيور. .!

وقداسة الموت تكاد تكون شعور فطريا. فليسست البدائية الشعورية هي التي تطمسها في النفس الأمريكية؛ ولكنه جفاف الحياة من التعاطف الوجداني، وقيامها على معادلات حسابية مادية، وعلى علاقات الجسد ودوافعه، واستخفافها عمدا بكل ما يشتهر أنه من مقدسات الناس في العالم القديم، والرغبة الملحة في مخالفة ما تواضع عليه الناس هناك، وإلا فما مزية الدنيا الجديدة على ذلك العالم القديم؟

وما يقال عن الشعور بالموت يقال عن الشعور بالدين.

ليس أكثر من الأمريكان تشييداً للكنائس، حتى لقد أحصيت في بلدة واحدة لا يزيد سكانها على عشرة آلاف اكثر من عشرين كنيسة! وليس أكثر منهم ذهابا إلى الكنيسة في ليلات الأحد وأيامه، وفي الأعياد العامة وأعياد القديسين المحليين وهم اكثر من (الأولياء) عند عوام المسلمين!. . . وبعد ذلك كله ليس هناك من هو ابعد من الأمريكي عن الشعور بروحية الدين واحترامه وقداسته، وليس ابعد من الدين عن تفكير الأمريكي وشعوره وسلوكه!

وإذا كانت الكنيسة مكانا للعبادة في العالم المسيحي كله، فإنها في أمريكا مكان لكل شيء إلا العبادة. وإنه ليصعب عليه أن تفرق بينها وبين أي مكان آخر معد للهو والتسلية أو ما يسمونه بلغتهم ومعظم قصادها إنما يعدونها تقليداً اجتماعياً ضرورياً، ومكانا للقاء والأنس، ولتمضية وقت طيب، وليس هذا شعور الجمهور وحده، ولكنه كذلك شعور سدنة الكنيسة ورعاتها. .

ولمعظم الكنائس ناد يتألف من الجنسين، ويجتهد راعي كل كنيسة أن يلتحق بالكنيسة أكبر عدد ممكن، وبخاصة هناك تنافسا كبيرا بين الكنائس المختلفة المذاهب. ولهذا تتسابق جميعا في الإعلان عن نفسها بالنشرات المكتوبة وبالأنوار الملونة على الأبواب والجدران للفت الأنظار، وبتقديم البرامج اللذيذة المشوقة لجلب الجماهير، بنفس الطريقة التي تتبعها المتاجر ودور العرض والتمثيل، وليس هناك من بأس في استخدام أجمل فتيات المدينة وأرشقهن، وأبرعهن في الغناء والرقص والترويج

وهذه مثلاً محتويات إعلان عن حفلة كنيسة كانت ملصقة في قاعة اجتماع الطلبة في إحدى الكليات:

(يوم الأحد أول أكتوبر – في الساعة السادسة مساء – عشاء خفيف. العاب سحرية. الغاز. تسلية. . .)

وليس في هذا أية غرابة، لأن راعي الكنيسة لا يحس أن عمله يختلف في شيء عن عمل مدير المسرح، أو مدير المتجر. النجاح أولا وقبل كل شيء – والوسيلة ليست بالمهمة – وهذا النجاح يعود عليه بنتائجه الطيبة: المال والجاه. فكلما كثر عدد الملتحقين بكنيسته وعظم دخله، وزاد كذلك احترامه ونفوذه في بلده، لأن الأمريكي بطبيعته يؤخذ بالفخامة في الحجم أو العدد، وهي مقياسه الأول في الشعور والتقدير.

كنت ليلة في إحدى الكنائس ببلدة جبلى بولاية كولورادو – فقد كنت عضواً في عدة نواد كنيسة في كل جهة عشت فيها، إذ كانت هذه ناحية هامة من نواحي المجتمع تستحق الدراسة عن كثب ومن الداخل – وبعد أن انتهت الخدمة الدينية في الكنيسة، واشترك في الترايتل فتية وفتيات من الأعضاء، وأدى الآخرون الصلاة، دلفنا من باب جانبي إلى ساحة الرقص، الملاصقة إلى قاعة الصلاة، يصل بينهما الباب؛ وصعد (الأب) إلى مكتبته، وأخذ كل فتى بيد فتاة، وبينهم وبينهن أولئك الذين واللواتي، كانوا وكن، يقومون بالترتيل ويقمن!

وكانت ساحة القص مضاءة بالأنوار الحمراء والصفراء والزرقاء، وبقليل من المصابيح البيض. وحمى الرقص على أنغام (الجراموفون) وسالت الساحة بالأقدام والسيقان الفاتنة، والتفت الأذرع بالخصور، والتقت الشفاه والصدور. . وكان الجو كله غراماًً حينما هبط (الأب) من مكتبه، وألقى نظرة فاحصة على المكان ومن المكان، وشجع الجالسين والجالس ممن لم يشتركوا في الحلبة على أن ينهضوا فيشاركوا، وكأنما لحظ أن المصابيح البيض تفسد ذلك الجو (الرومانتيكي) الحالم، فراح في رشاقة الأمريكان وخفته يطفئها واحداً واحداً، وهو يتحاشى أن يعطل حركة الرقص، أو يصدم زوجاً من الراقصين في الساحة، وبدا المكان بالفعل أكثر (رومانتيكية) وغراماً. ثم تقدم إلى (الجراموفون) ليختار أغنية تناسب ذلك الجو، وتشجع القاعدين والقاعدات على المشاركة فيه.

وأختار. . أختار أغنية أمريكية مشهورة اسمها: (ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج) وهي تتضمن حوارا بين فتى وفتاة عائدين من سهرتهما، وقد لحتجزها الفتى في داره، وهي تدعوه أن يطلق سراحها لتعود إلى دارها فقد أمسى الوقت، وأمها تنتظر. . وكلما تذرعت إليه بحجة أجابها بتلك اللازمة: (ولكنها يا صغيرتي باردة في الخارج!)

وانتظر الأب حتى رأى خطوات بناته وبنيه، على موسيقى تلك الأغنية المثيرة؛ وبدا راضياً مغتبطاً، وغادر ساحة الرقص إلى داره، تاركاً لهم ولهن إتمام هذه السهرة اللذيذة. . . البريئة!

وأب آخر يتحدث إلى صاحب لي عراقي، قد توثقت بينه وبينه عرى الصداقة، فيسأله عن (ماري) زميلته في الجامعة (لم لا تحضر ألن إلى الكنيسة؟ ويبدو أنه لا يعنيه أن تغيب الفتيات جميعاً وتحضر (ماري)! وحين يسأله الشاب عن سر هذه اللهفة يجيب: (إنها جذابة، وإن معظم الشبان إنما يحضرون وراءها!)

ويحدثني شاب من شياطين الشبان العرب الذين يدرسون في أمريكا، وكنا نطلق عليه اسم (أبو العتاهية) – وما أدري أن كان ذلك يغضب الشاعر القديم أو يرضيه! – فيقول لي عن فتاته – ولكل فتى فتاة في أمريكا – إنها كانت تنتزع نفسها من بين أحضانه أحياناً لأنها ذاهبة للترتيل في الكنيسة؛ وكانت إذا تأخرت لم تنج من إشارات (الأب) وتلميحاته إلى جريرة (أبي العتاهية) في تأخيرها عن حضور الصلاة! هذا إذا حضرت وحدها من دونه، فأما إذا استطاعت أن تجره وراءها، فلا لوم عليها ولا تثريب!

ويقول لك هؤلاء الآباء: إننا لا نستطيع أن نجتذب هذا الشباب إلا بهذه الوسائل!

ولكن أحد منهم لا يسأل نفسه: وما قيمة اجتذابهم إلى الكنيسة وهم يخوضون إليها مثل هذا الطريق، ويقضون ساعاتهم فيه؟ أهو الذهاب إلى الكنيسة هدف في ذاته، أم آثاره التهذيبية في الشعور والسلوك؟ من وجهة نظر (الآباء) التي أوضحتها فيما سلف، مجرد الذهاب هو الهدف. وهو وضع لمن يعيش في أمريكا مفهوم!

ولكني أعود إلى مصر، فأجد من يتحدث أو يكتب، عن الكنيسة في أمريكا – وهو لم ير أمريكا لحظة – وعند دورها في الإصلاح الاجتماعي، ونشاطها في تطهير القلب، وتهذيب الروح. . .

ولله في خلقه شؤون!

والأمريكي بدائي في حياته الجنسية، وفي علاقات الزواج في الأسرة. ولقد مررت في أثناء دراساتي للكتاب المقدس بتلك الآية الواردة في (العهد القديم) حكاية عن خلق الله للبشر أول مرة وهي تقول: (ذكراً أو أنثى خلقهم). . . مررت بهذه الآية كثيراً، فلم يتمثل لي معناها عارياً واضحا جاهراً، كما تمثل في أثناء حياتي بأمريكا

أن كل ما تعبت الحياة البشرية الطويلة في خلقه وصيانته من آداب الجنس، وكل ما صاغته حول هذه العلاقات من عواطف مشاعر، وكل ما جاهدت من غلاظة الحس، وحهامة الغريزة، لتطلقه إشاعات مرفوفة، وهالات مجنحة، وأشواق طليقة، وكل الروابط الوثيقة حول تلك العلاقات في شعور الفرد، وفي حياة الأسرة، وفي محيط الجماعة. . .

إن هذا كله قد تجردت منه الحياة في أمريكا مرة واحدة، وتجلت ريه عاطلة من كل تجمل.

(ذكر أو أنثى) كما خلقهم أول مرة. جسداً لجسد، وأنثى لذكر. على أساس مطالب الجسد ودوافعه، تقوم العلاقات وتتحدد الصلات، ومنها تستمد قواعد السلوك، وآداب المجتمع، وروابط الأسر والأفراد

بفتنة الجسد وحدها، عارية من كل ستار، مجردة من كل حياء، تلقى الفتاة الفتى، ومن قوة الجسد وضلاعته يستمد الفتى إعجاب الفتاة. ويستمد الزوج حقوقه – هذه الحقوق التي تسقط جميعها في عرف الجميع، يوم يعجز الرجل عن الوفاء بها لسبب من الأسباب

والفتاة الأمريكية تعرف جيداً مواضع فتنتها الجسدية، تعرفها في الوجه: في العين الهاتفة والشفة الظامئة، وتعرفها في الجسم: في الصدر الناهد والردف الملئ وفي الفخذ الفاء والساق الملساء، – وهي تبدي هذا كله ولا تخفيه – وتعرفها في اللباس: في اللون الزاهي توقظ به الحس البدائي، وفي التفصيل الكاشف عن مفاتن الجسد – وهو بذاته في الأمريكية فتنة حية صاعقة في بعض الأحيان! – ثم تضيف إلى هذا كله الضحكة المثيرة، والنظرة الجاهرة، والحركة الجريئة، ولا تغفل عن ذلك كله ولا تنساه!

والفتى الأمريكي يعرف جيداً أن الصدر العريض، والعضل المفتول، هما الشفاعة التي لا ترد عند كل فتاة، وأن أحلامها لا ترف على أحد كما ترف على (رعاة البقر) وبصريح العبارة تقول لي فتاة ممرضة في مستشفى (لست أطلب في أحلامي إلا ذراعين قويتين يعصرني بهما عصراً. . . وقامت مجلة (لوك) باستفتاء عدد من الفتيات من مختلف الأعمار والثقافات والأوساط حول ما أسمته (عضل الثيران) فأبدت غالبية ساحقة إعجابها المطلق بالفتيان أصحاب عضل الثيران!

وما من شك أن لهذه الظاهرة دلالتها على حيوية هذا الشعب وقوة حسه. ولو هذبت هذه الطاقة وتسامت لاستحالت فناً يجمل جهامة الحياة، وأشواقاً تجعل لها في الحس الإنساني نكهة، وتربط بين الجنسين بروابط أعلى وأجمل من روابط الجسد الظامئ والحس الهائج، والجنس الصارخ في العيون، الهاتف في الجوارح، المتنزى في الحركات واللفتات، ولكن طبيعة الحياة في أمريكا، والملابسات التي سلفت في نشأة هذا الشعب، لا تساعد على شيء من هذا، بل تقاومه وتقصيه

وهكذا أصبحت كلمة حيى أو خجول من كلمات العيب والتحقير؛ وانطلقت العلاقات الجنسية من كل قيد على طريقة الغابة، وأصبح بعضهم يفلسفها فيقول كما قالت لي إحدى فتيات الجامعة مرة: (إن المسألة الجنسية ٍليست مسألة أخلاقية بحال. أنها مجرد مسألة بيولوجية: وحين ننظر إليها من هذه الزاوية نتبين أن استخدام كلمات الفضيلة والرذيلة. والخير والشر، إقحام لها في غير مواضعها، وهو يبدو لنا نحن الأمريكان غريباً، بل مضحكاً. . .) وبعضهم يبررها ويعتذر عنها كما قال لي طالب يشتغل للكدتوراه: (إننا هنا مشغولون بالعمل، ولا نريد أن يعوقنا عنه معوق، وليس لدينا وقت ننفقه في العواطف! ثم إن الكبت يتعب أعصابنا، فنحن نريد أن ننتهي من هذه (الشغلة!) لنفرغ إلى العمل بأعصاب مستريحة)

ولم أرد أن أعلق على هذا الحديث في وقته. فقد كان همي أن أعرف كيف يفكرون في هذه المسألة. وإلا فكل شيء في أمريكا لا يدل على أعصاب مستريحة، بالرغم من كل وسائل الحياة المريحة، وكل ضماناتها المطمئنة، وكل يسر وسهولة في إنفاق الطاقات الفائضة.

وبعضهم يسمي هذا تحرراً من الرياء ومواجهة للحقائق. ولكن هناك فارقاً أساسياً بين التحرر من المقومات الإنسانية التي تفرق بين الإنسان والحيوان. والإنسانية في تأريخها الطويل لم تكن تجهل أن الميول الجنسية ميول طبيعية وحقيقية، ولكنها – عن وعي أو غير وعي – كانت تجاهد لتتحكم فيها، فرارا من العبودية لها، وبعداً عن مدارجها الأولى. إنها ضرورة نعم؛ ولكن لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها؟ لأنها تحس بالفطرة أن التحكم في هذه الضرورات هو شهادة الخلاص من الرق، وأولى مدارج الإنسانية في الطريق، وأن العودة إلى حرية الغابة عبودية مقنعة، ونكسة إلى مدارج البدائية الأولى.


(*) المقال نشر في مجلة الرسالة عدد 959، بتاريخ: 19 – 11 – 1951م.

Leave Comment