مقاصد الجهاد وغاياته

بقلم د. حسن سلمان(*)


الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن والاه.
مدخل تمهيدي:
خلق الله الإنسان كائنا مكلفا ليكون مستخلفا في الأرض قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/30 وسخر له ما في السماوات والأرض ليؤدي مهمة الاستخلاف والإعمار وجعل الاستخلاف في الأرض على نوعين:
١/الاستخلاف العام وهو لكافة البشر مؤمنهم وكافرهم قال تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا ۖ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا)الأنعام/165
٢/الاستخلاف الخاص وهو لخاصة المؤمنين ومرتبط بالتمكين للدين وأهله والذي به يكون صلاح البلاد والعباد تحكيما للشرع وهدايات الكتاب ويكون التجمع الإنساني فيه على أساس مفهوم الأمة المتضمن لوحدة القصد وصحة الإرادة والإخلاص لله ووضوح الغاية والرسالة ووحدة المصير وهي أمة الإسلام عبر التاريخ قال تعالى: ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)البقرة/143
وقال تعالى:( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور/55.
والأمة الرسالية من أعظم غاياتها في الوجود ما يلي:
١/ إحقاق الحق ومواجهة الباطل وهو أعظم غايات الرسالة لأن الله هو الحق وكتابه الحق ورسله دعاة حق وما سواه هو الباطل المحض قال تعالى:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)الصف/9
وقال تعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ) البقرة/199.
والحق ميزته الصدق والثبات وعدم الزوال ومقصوده تحرير الإنسان من ظواهر الجهل والوهم والباطل بنور العلم وبراهين اليقين.
٢/ تحقيق الخيرية والبر والإحسان:
ومن مقاصد الرسالة تحقيق الخير والبر والإحسان للناس كافة قال تعالى:( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)البقرة/148.
وقال تعالى:(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)آل عمران/104
فالدعوة إلى الخير وصلاح دنيا الناس والعمران الذي يتم من خلال الخير من مقاصد الرسالة.
والحق والخير فيهما صلاح البلاد والعباد وتحقيق مصالح الدارين عبادة وعمرانا.
ولتحقيق ذلك بعثت الرسل وأنزلت الكتب وجردت سيوف الحق هداية للناس كافة وبناء عليه قامت الدعوة والدولة.
ويسعى المؤمنون بالرسالة لامتلاك القوة التي تحمي الدعوة وتقيم الدولة وتحميها تحقيقا للهداية الإيمانية والولاية السياسية والسلطانية وعليه فالدين يؤسس للسياسة ويحكمها والسياسة تجسد أوامر الدين وتخدمه فلا فصل بينهما بل اطراد وتطابق وتوافق على هدي التوحيد والإيمان تحقيقا للاستخلاف الذي هو ولاية الإنسان على كافة المخلوقات في الوجود الأرضي بحكم التكريم الإلهي قال تعالى:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الإسراء/70.
ويقول العلامة ابن خلدون في مقدمته مؤكدا ذات المعنى:( إن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له).
والاستخلاف وكالة توجب اتباع الشرع وإلا كانت خارجة عن مقصود الشارع في الاستخلاف وحينها تكون مشكلة الإنسان في التصور الإسلامي ليست سياسية ولا اقتصادية بل هي تجليات وأعراض للمشكلة التي تكمن في معنى الوجود الإنساني وفي قدرته من التقرب إلى الله والالتزام بشرعه وهو خلاصة تعريف الخلافة والتي تعني (ممارسة السياسة وفق منهج الله) وتأسيس الاجتماع الإنساني على قاعدة حاكمية الكتاب وسلطان الأمة.
مشكلة الأمة السياسية في سقوط خلافتها:
إن المشكلة السياسية الكبرى التي واجهت الأمة خلال القرن الماضي هي سقوط خلافتها الجامعة وانفراط عقدها الناظم وترتب على ذلك العديد من المشكلات نجملها فيما يلي:
أ/ تنحية الشريعة وحاكمية الكتاب عن حياة الأمة الإسلامية وخاصة في مجالات الحياة العامة وقضايا المعاش.
ب/ انهيار النظام السياسي للأمة الإسلامية وفقدان الدولة المركزية الجامعة التي تحرس المصالح العليا للأمة وتحقق معنى الاستخلاف والتمكين(السيادة).
ج/ النفوذ الأجنبي والتبعية الخارجية وسيطرته على موارد الأمة عبر أدواته الوظيفية وقواعده العسكرية المهيمنة في المنطقة.
د/ زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة المسلمة باعتباره كيانا وظيفيا للمحتل الغربي وحملاته الصليبية يقوم بالأدوار المهمة في زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة ومنع وحدتها والتعبير عن هويتها والسيطرة على بعض مقدساتها (المسجد الأقصى).
وبالتالي فالأمة ومنذ قرن كامل تعيش مشكلة واحدة وهي غياب ولايتها وسلطانها الجامع (الخلافة) وغياب حاكية الكتاب المنزل عن ساحات واسعة من حياة المسلمين كما تعاني الأمة سيطرة الأدوات الوظيفية للاحتلال من خلال أنظمة استمدت شرعيتها من المحتل وترهن بقائها بالولاء والتبعية له والعمل على إخضاع شعوب الأمة ومنع كافة عمليات التحرر والنهضة والوحدة ويظهر ذلك بشكل سافر في وجود الكيان الصهيوني وحمايته دوليا وإقليميا ومحليا وفرض الحصار الشامل على الشعب الفلسطيني وقواه المقاومة وتبني أطروحات تعمل على تجاهل وتناسي وقفل ملف القضية دون أي حقوق تاريخية للشعب الفلسطيني صاحب الحق الأصيل في الأرض ومن ورائه كافة شعوب الأمة المسلمة وقد رأينا كيف تم الترويج للتطبيع مع الكيان الغاصب وتوفير الغطاء الديني لذلك من خلال ما سمي بالديانة الإبراهيمية وبالتالي فالتطبيع يكون تبديلا للدين وتمكينا للمجرمين وتضييعا للحقوق والمقدسات وكل ذلك يمنح ممن لا يملك لمن لا يستحق ، وبطبيعة الحال ما كان للشعب الفلسطيني التنازل عن حقوقه وتضييع مقدساته ومجاراة المطبعين في ضلالهم وظلمهم ولذا فقد ظلت المقاومة تراكم في قوتها وخبرتها وخاضت عدة حروب أثبتت من خلالها بأن الجهاد ماض وأن الطائفة المنصورة حاضرة وشاهدة كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
(لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي قائِمَةً بأَمْرِ الله – يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة- لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، أوْ خالَفَهُمْ، حتّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ ظاهِرُونَ على النّاسِ) أخرجه مسلم وجاء في بعض الروايات أنهم بالشام أو ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
وقد خاضت المقاومة الفلسطينية عدة حروب خلال الفترة الماضية وهي تدفع عن شعبها محاولات الاستئصال وكسر الإرادة وتصفية القضية برمتها وكان آخر معاركها معركة (طوفان الأقصى) بتاريخ 22/ ربيع الأول 1445/ يوافقه 7/10/2023م والتي لا زالت تداعياتها مستمرة وقد سجل فيها المجاهدون انتصارا عظيما على الكيان الصهيوني لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع مع الكيان الغاصب حيث كسر الأسطورة الوهمية لجيش الاحتلال مما أفقده التركيز والتفكير الموضوعي في المآلات، وتبعه في ذلك الحلفاء من الغربيين بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وكانت ردة الفعل تجاه المدنيين العزل قتلا وتشريدا وتهجيرا دون رادع من أخلاق او التزام بأعراف وقوانين وبطبيعة الحال برزت هنا العديد من التساؤلات والمواقف بعضها ينطلق من الشرع وآخر من السياسة وتقديرات المصالح والمفاسد ومن خلال الاطلاع على بعض تلك المواقف رأيت من الأهمية بمكان الحديث الجهاد وأهميته ومقاصده وغاياته وطبيعته لأن كثيراً من الناس تتشكل تصوراتهم عن الأحداث والمواقف بعيدا عن هدايات الكتاب المنزل ومسيرة الرسول الأعظم ومنهجيته في تمكين الدين ولا يفرقون في ذلك بين سلوك منهج السلامة ابتعادا عن دفع الثمن المطلوب وبين التزام سلامة المنهج ولو تطلب ذلك المهج والأرواح وفي كل الأحوال فالقتال مما تكرهه النفوس وليس مما تحبه وتتسابق إليه كما أشار القرآن الكريم لذلك ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) .
أهمية الجهاد ومكانته وفضله:
والجهاد في سبيل الله تعالى مقامه عظيم ومنزلته سامية حيث يحتل سنام هذا الدين وهو وظيفة أساسية لأمة الدعوة الخاتمة ويظهر ذلك فيما يلي:
١ / أن الجهاد في سبيل الله من وظائف الكثير من الأنبياء والمرسلين وهو فرع السياسة التي كانت وظيفة أنبياء بني إسرائيل كما جاء في الحديث (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء) .
وقال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) آل عمران/146 .
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله ومجاهدة الكفار والمنافقين قال تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا) النساء/84
وقال تعالى( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )التوبة/73.
٢/ أن الجهاد في سبيل الله من وظائف الأمة المسلمة الوارثة للنبوة والكتاب وورد ذلك في الكثير من نصوص الكتاب والسنة وخاصة نصوص الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والتي يتفرع الجهاد عنها ومنها قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) النساء/76
وجاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:( لا تَزالُ طائِفةٌ من أُمَّتي يُقاتِلونَ على الحقِّ ظاهِرينَ إلى يومِ القيامَةِ).
٣/ أن الجهاد من التكاليف المكتوبة على المؤمنين وهو من أفضل الأعمال وذروة سنام الإسلام قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة/216.
والجهاد هو التجارة الرابحة مع الله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) الصف/10
وهو من أعظم القربات التي لا يعدلها شيء في الأجر كما جاء في الحديث (جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: دُلَّنِي على عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهادَ، قالَ: لا أجِدُهُ، قالَ: هلْ تَسْتَطِيعُ إذا خَرَجَ المُجاهِدُ أنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ ولا تَفْتُرَ، وتَصُومَ ولا تُفْطِرَ؟ قالَ: ومَن يَسْتَطِيعُ ذلكَ؟! قالَ أبو هُرَيْرَةَ: إنَّ فَرَسَ المُجاهِدِ لَيَسْتَنُّ في طِوَلِهِ، فيُكْتَبُ له حَسَناتٍ) أخرجه البخاري.
وبما أن الجهاد في سبيل الله بهذه المنزلة من الفضل والخيرية فإنه يجب فيه مراعاة مقصود الشارع منه كيلا يكون مناقضا لقصد الشارع فيبطل أو يؤدي لنقيض المقصود الشرعي فينجم عنه فساد عريض.
مقاصد الجهاد وغاياته:
شرع الله تعالى الجهاد والقتال لغايات عظيمة وحكم بالغة ومقاصد نبيلة نلتمسها من خلال الوقوف على الآيات والأحاديث الواردة في ذلك وعلى سبيل الإجمال لا التفصيل على النحو التالي:
1/ درء الفتنة وإقامة الدين:
الفتنة مفهوم قرآني شامل لكل كفر أو شرك أوصد عن سبيل الله تعالى أو خوف وهم واضطراب وفساد حال ونقصان الأنفس والأموال وممارسة الإكراه المادي والمعنوي على الناس ويفهم المراد من المفردة في السياق والسباق والإضافة والمطلوب بإقامة الدين ودرء الفتنة استقامة أحوال الناس في دينهم ودنياهم وذلك بحاكمية الكتاب وتحقيق العدل والقسط بين العباد دون تظالم بينهم قال تعالى:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة/193.
2/ رفع الظلم وتحقيق العدل وإقامة القسط:
من أعظم مقاصد وغايات الجهاد في سبيل الله تعالى رفع الظلم وتحقيق العدل وإقامة القسط لأنه غاية الرسالات كلها قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد/25
وقال تعالى:( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). الحج/39.
3/ تحرير المستضعفين من قبضة الطغيان:
الإسلام جاء لتحرير البشرية قاطبة من كل أشكال العبودية والطغيان وخاصة تحرير المستضعفين مهمة أخلاقية سامية تجرد لها السيوف وتقطع دونها الأعناق قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا). النساء/75.
ويندرج في ذلك ومن باب أولى تحرير أسرى المسلمين فهو مقصد شرعي نبيل بل وتحرير الأسرى من غير المسلمين إذا كانوا من أهل الذمة وتم أسرهم وهم تحت الولاية الإسلامية ونظامها.
4/ رد العدوان وحماية الحرمات والمقدسات:
إن حماية الأرض والعرض والمقدسات من أعظم مقاصد الجهاد وهو من الواجبات العينية إذا ما دهمها العدو أو احتلها قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) البقرة/190.
وقال تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحج/40.
ومن رد العدوان مقاتلة الكيان الصهيوني فهو من أوجب أنواع الجهاد لأنه يجمع أنواعا من العدوان كالأرض والعرض والمقدسات ومحاصرة المسلمين والإفساد في الأرض بكل أنواع الإفساد.
٥/ كف أذى المشركين وبأسهم وإضعاف سلطانهم:
عندما يتمكن أعداء هذا الدين وتعلو رايتهم فإنهم يفسدون في الأرض ويعتدون على أهل الإيمان والإصلاح ويؤذونهم ومما شرع له الجهاد تعطيل كل ذلك بكف الأذى وإضعاف سلطان العدو وكسر هيبته قال تعالى:  (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا) النساء/84.
ومن أنواع كف الأذى في واقعنا المعاصر تعطيل مشروع القرن والتطبيع والديانة الإبراهيمية الباطلة وتمدد الكيان الصهيوني وسيطرتهم على المنطقة.
6/ تمحيص الصفوف واتخاذ الشهداء:
من حكمة الله تعالى أن الانتساب للدين والدخول تحت لوائه يكون بالإعلان الظاهر عن القبول بالدين بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبطبيعة الحال فالمسلمون المنتمون لهذا الدين يتفاوتون تفاوتا عظيما في الصدق والولاء لهذا الدين فمنهم المؤمن الصادق ومنهم المنافق الكاذب ومن مقاصد الجهاد التمحيص وتنقية الصفوف قال تعالى: (مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَیۡبِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَجۡتَبِی مِن رُّسُلِهِۦ مَن یَشَاۤءُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ) آل عمران/179.

وقد تحدث القرآن الكريم عن أصناف من الناس مدعية الإسلام ولكنها غير مهيأة لتكاليف الرسالة وتبعاتها فمنهم المتخلفون والمرجفون و المبطئون والمرتابون والمتربصون والقاعدون والمتخاذلون وغيرهم ممن تحدث عنهم القرآن الكريم ويتم كشفهم بالجهاد والقتال كما من مقاصد الجهاد أن يتخذ الله شهداء من هذه الأمة ليرفع درجاتهم ويعلي مقامهم (ويتخذ منكم شهداء) والشهادة هي أحدى الحسنيين.
7/ محق الكافرين وإرهابهم:
ومن مقاصد الجهاد إرهاب العدو المتربص بأهل الإسلام وتخويفهم قبل أن يباشروا القتال أو يعتدوا على ديار الإسلام وكما قيل (الاستعداد للحرب يوقف الحرب ويحقق السلام)، وقد يحدث ذلك من خلال منطق توازن الرعب ومن المقاصد الجهادية محق الكافرين واستئصالهم وكسر شوكتهم قالَ الزَّجّاجُ: في مَعْنى قوله تعالى:(وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ) آل عمران/١٤١.

قال الإمام الرازي: “إنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَ الأيّامَ مُداوَلَةً بَيْنَ المُسْلِمِينَ والكافِرِينَ، فَإنْ حَصَلَتِ الغَلَبَةُ لِلْكافِرِينَ عَلى المُؤْمِنِينَ كانَ المُرادُ تَمْحِيصَ ذُنُوبِ المُؤْمِنِينَ، وإنْ كانَتِ الغَلَبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى هَؤُلاءِ الكافِرِينَ كانَ المُرادُ مَحْقَ آثارِ الكافِرِينَ ومَحْوَهم، فَقابَلَ تَمْحِيصَ المُؤْمِنِينَ بِمَحْقِ الكافِرِينَ؛ لِأنَّ تَمْحِيصَ هَؤُلاءِ بِإهْلاكِ ذُنُوبِهِمْ نَظِيرُ مَحْقِ أُولَئِكَ بِإهْلاكِ أنْفُسِهِمْ، وهَذِهِ مُقابَلَةٌ لَطِيفَةٌ في المَعْنى) راجع تفسير الرازي. وبطبيعة الحال فالمراد بالمحق والاستئصال ليس عموم الكافرين كما هو معلوم في الأصول.
8/ قطع الولائج الظاهرة والخفية مع الكفار:
الإسلام مبناه على التوحيد وموالاة أهله والبراءة من الكفر والشرك وموالاة أهله ولكن عمليا فهناك بعض أهل الإسلام تكون لهم ولاية ظاهرة أو باطنة لغير المسلمين والولاية قد تكون قلبية أو عملية وقد يكون بعضها موجها ضد المسلمين كمن يوالي الكفر ويعينهم على أهل الإسلام بل ويقاتل معهم وهذا من الكفر العملي وهي المظاهرة المحرمة شرعا قال تعالى: (أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تُتۡرَكُوا۟ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَلَمۡ یَتَّخِذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ وَلِیجَةࣰۚ وَٱللَّهُ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ) التوبة/١٦. قال العلامة السعدي في هذه الآية( أي -لم يتخذوا-‏:‏ وليا من الكافرين، بل يتخذون اللّه ورسوله والمؤمنين أولياء‏. فشرع اللّه الجهاد ليحصل به هذا المقصود الأعظم، وهو أن يتميز الصادقون الذين لا يتحيزون إلا لدين اللّه، من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين‏).‏
9/ إزالة العقبات التي تعترض الدعوة إلى الله تعالى وهداية الناس وكسر الحواجز المانعة من وصول الخطاب وإقامة الولاية الشرعية وهو المراد بالقول (في سبيل الله) وكونه في سبيل الله يعني أن تكون غايته:
أ/ التوحيد في عقيدته وتصوراته ومنطلقاته.
ب/ الرحمة في أخلاقه وسلوكه.
ج/ العدل في تشريعه وأحكامه.
ويتجلى ذلك في الكثير من الأحكام الفقهية المتعلقة بالجهاد ومنها:
أ/ تبليغ الدعوة وعرض خيارات المسالمة قبل القتال.
ب/ تقليل دائرة القتل بعدم قتال غير المقاتلة.
ج/ حث الأسرى على الإسلام.
د/ إجارة المشرك وتيسير سبل معرفة الإسلام:( حتى يسمع كلام الله )
ه/ منع القتل وإنهائه بمجرد إعلان الإسلام (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله)
و/ العفو عن الكافر إذا تاب وأسلم.
شروط تحقيق مقاصد الجهاد وغاياته:
هذه المقاصد والغايات تتطلب لتحقيقها شروطا لا بد منها نجملها فيما يلي:
أ/ سلامة القصد وصحة الإرادة والإخلاص لله تعالى ووضوح الغاية.
ب/ الاعتصام والوحدة والتماسك لتكون الأمة كالبنيان المرصوص وترك الأنا والاستئثار وحب الذات والظهور والحزبية المقيتة.
ج/ الإعداد اللازم والشامل في كافة المجالات المادية والمعنوية بحسب الإمكان.
ه_/ حسن السياسة والتدبير والدهاء والحنكة لأن الحرب خدعة.
و/ الدعاء والتوكل واستمطار النصر من الله تعالى..
والحمد لله رب العالمين.


(*) رئيس رابطة علماء إرتريا، وباحث في دراسات السياسة الشرعية.

Leave Comment