بقلم فضيلة الشيخ المربي عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى
تأصيل المنهاج
في رفقتنا عبر صفحات هذا الكتاب نحتاج أن يتم بيننا تفاهم، ويبقى واضحا حبْلُ الأفكار.
فبعد مطمحنا الأول والأساس أن تكون كل كلمة نخطها ونقرأها تذكرنا بالله.
وبعد المطمح الثاني التابع أن نبحث ونعثر على المنهاج النبوي العملي لإقامة دولة القرآن تأسيسا وبناء وتوحيدا للأمة.
نأمل أن لا نتيه بين أساليب الكلام ومصطلحاته، وأن يكون استمدادنا العلم القرآني والهدي النبوي أصلا ثابتا يحصننا من الضياع، دون أن يحجب عنا حكمة الله في آفاق الكون وتسلسل التاريخ. دون أن تمنعنا موعظة القرآن من الاتعاظ بعبرة القُرى، وهو تعبير قرآني عن مجتمعات بشرية خلت يعرضها علينا الله سبحانه دروسا. بل إن عبرة القُرى -أي دروس التاريخ- من موعظة القرآن.
إن كان الوحي أصل معرفتنا فالأرض وعامروها واضطرابهم عليها مهبط ذلك الوحي. يخاطِب الأمر الإلهي فينا حاسة الإيمان كما يخاطب فينا العقل وهو مناط التكليف. ونتلقى السيرة النبوية وروائع الجهاد تحت راية القرآن بالإكبار والتطلع لخير مثال يحتذى. يحصل في الذهن تصور لما كُلِّفْنا به من قبل الحق عز وجل، يتفاوت وضوحا وتتفاوت دواعي إنجازه حسب ما عند كل منا من إيمان وإيقان وإرادة. وتحصل في الخيال صورة النموذج النبوي والراشدي ملونة بالحنين إلى عهد يضفي عليه تفرده بالقيادة المعصومة والتوفيق الذي يخص الله تعالى به أصفياءه حلة الجاذبية والمثالية.
ذلك عهد التقت فيه معاني السماء بتطلعات الأرض، وتجسدت أثناءه حركة التاريخ في أمة هي خير أمة أخرجت للناس. ويتحدث اليوم المتكلمون باسم الإسلام أصنافا ومدارس. فتجد منهم من يقلص السيرة النبوية إلى حجم أرضي صرف ويفسر ظهور الإسلام بانتصار طبقة العبيد والمقهورين تحت قيادة رجل عبقري وقائد موهوب اسمه محمد، أقول: صلى الله عليه وسلم. وتجد آخرين يعالجون تاريخ الإسلام عبر هذه العصور الطويلة بالعرض المجرد، لا ينفذ نظرهم إلى ما وراء الأحداث وما سبقها وما نتج عنها. وبين أصحاب التفسير المادي للتاريخ و«المؤرخين» السُّذَّج لا يمكن تفاهم، بل يضيع فكر طالب العلم بين الطائفتين. ينفر طالب العلم من الماركسي المادي الملحد وتحليله، وقد يكب على استعراض السيرة العطرة يتناغى معها مناغاة عاطفية تسليه عن واقعه المهزوم، أو يستهويه البريق الكاذب لتجار التضليل المادي تلامذة ماركس فإذا ظهور الإسلام بين عينيه أمجاد قومية لا غير.
سوق الحديث القومي عن الإسلام صاخبة، لذا نتأكد من مواقع أقدامنا في هذه الرفقة لكيلا نتبلد مع الإعجاب العاجز بتاريخ عزِّنا، ولا نغتر بمن يُعْوِزُهم السنَدُ في صفوف الأمة، فينصبون لها الشرَك السياسي لاصطياد ودها بترديد عبارات المديح للقائد العبقري والزخم القومي المجيد.
الانقطاع المعرفي
اعتذاري للقارئ الذي بقي على أصله لم يبتل بمجادلة أجيال تلوك الكلام المترجم. إنها طوائف مما يسمى بالمثقفين نحب أن يجدوا هنا يوم تنقشع عن أعينهم الغفلة، أو بعضُ سُحُبِها، أسبابا للحوار عسى يفيئون إلى الله ويرجعون عن أفيون الفكر المادي.
سيطرت الحضارة الجاهلية المحتلة على أرض المسلمين واقتصادهم وثقافتهم، فانقطع في تصور الذراري المغربين ما كان موصولا في تاريخنا. فإذا بهم يقفون أساتذة، نوابا وخلفاء للمستعمر، يلقون في جرائدهم ومجلاتهم وكتبهم وفي جامعاتنا ومدارسنا الدعوة للنمط الجاهلي، يستندون إلى هيبة الحضارة الميكانيكية في نفوس المغلوبين. يغمرون الجو الثقافي بفلسفة المدارس الجاهلية التي ينوبون عنها بين ظهرانينا. ويشوهون للأجيال الصاعدة صورة الإسلام وتاريخ الإسلام، ويبثون منهاج اللاييكية والتاريخانية والتراثية القومية.
من هؤلاء، وفي طليعة الغزو الفكري، دعاة لما يسمونه «الانقطاع الإبستمولوجي». وتعني الكلمة والدعوة أن نفصل بيننا وبين القرآن والإيمان والألوهية والربوبية والنبوة والوحي فصلا نهائيا. وذلك عندهم شرط أساس لنهضة «الأمة» العربية. يا حسرتا على عروبة تخرب الإسلام ولم تكن العروبة شيئا يذكر لولا الإسلام ! عندهم ماثلا في العقول والضمائر تاريخ أوربا، فلا يتصورون سبيلا للخلاص التاريخي إلا بمحاكاة ذلك التاريخ. فكما انقطعت شعوب أوربا عن الكنيسة واعتمدت مصدرا للمعرفة الفكرَ الحرَّ البشري الذي كانت تضطهده وتقاتله الكنيسة، يجب أن ننقطع نحن عن الدين السماوي، ونُهديَ كياننا قربانا للعبقرية الأوربية، علها تقبلنا وتعترف بأننا من بني الإنسان. ولا بأس بعد ذلك أن نحتفظ بالتراث في متحف الأمجاد القومية.
إن تأثير الحضارة الجاهلية على عقول الذراري المغربين أنكى من تأثيرها على حريتنا واقتصادنا. ذلك أن استعمار الأرض، ونهب الخيرات، وسفك الدماء، لا يعدو أن يصيب الأطراف. أما احتلال العقول وتشكيل حياة الناس في كل المناحي فهو غزو حضاري يصيبنا في الصميم. وإن التحول العميق في تاريخنا، منذ صدمة الاستعمار، ومن جراء الهزائم المتتالية العسكرية والمعنوية، وخاصة منذ حصلت بلاد المسلمين على الاستقلال الصوري وخلَفَ الكفارَ المستعمرين في الحكم نشءٌ مرتد كُلاّ أو بعضا، تحول عميق ويزداد عمقا. تَشَبَّهنا بالغزاة وتشرَّبنا بمخالطتهم والتلمذة لهم -كما هو شأن المغلوب مع الغالب- رُوحَ الجاهلية شعارا، وأنماطها الحضارية دثارا.
والخَلْفُ المغَرب يريد في زعمه أن يقاتل الأمبريالية -حسب تعبيرهم- ويظن أن أمضى سلاح في هذا القتال هو سلاح صنع خلال تاريخ أوربا فهو جاهز. صانعوه راغبون في تصديره، والخَلْفُ المغرب حريص على الترويج له. هذا السلاح يسمونه العقلانية. وتعني الكلمة أوَّلَ ما تعني أن لا إله إلا العقل، وأن عباقرته لم ينقطع جيلهم، وأنه لا بد للعرب من نُبغاء ينتقدون هيجل وماركس، ويتجاوزون الاشتراكية الأوربية، ويبتكرون اشتراكية قومية تراثية. والعقلانية حبل واصل متين بيننا وبين البشرية، فلكي نكون على مستوى العصر ينبغي أن ننقطع عن الغيبيات وكل هذا الهراء.
إننا إذ نفتتح الحديث عن دولة القرآن لا نستغني عن تفقد ما زرعه الجاهليون ويزرعه وكلاؤهم من سموم وأشواك. وإننا إذ نريد تأسيس معرفتنا على الكتاب والسنة لا نستغني عن الالتفات لمن ينادون بقطع الصلة بيننا وبين كل ذلك إلا باعتبار القرآن «خطابا» عربيا، واعتبار النبوة عبقرية عربية، واعتبار ظهور الإسلام تاريخا قوميا مجيدا. أفرز كل ذلك، في اللحظة المناسبة الحتمية، تاريخٌ اضطرب في أحشاء العرب، حملته الرحم القومية، وحضر عملية الولادة وأشرف عليها عبقري من بني جلدتنا. فأي حاجة مع هذا للبناء الفوقي الإديولوجي المتمثل في الألوهية والنبوة والوحي ؟ !
لا نستغني -رغم أن كتابنا هذا ليس كتاب جدل- عن تفقد ما يسود في عقول طوائف المثقفين المغربين ولا عن الالتفات لخطورة زرع الجاهلية فينا.
لا نستطيع معالجة جاهلية اليوم دون أن نعرف تركيبها ووجهتها ومنبعها. ولا مستقبل للإسلام إن سقط في فخ المواجهة الفكرية والجهادية بسلاح مستعار من غيرنا. فلا بد من انقطاع معرفي وحضاري. لا بد من قطع حبال الجاهلية اليوم كما قطعها سلفنا الصالح. بيد أن دعاة العصرنة والتغريب، حين ينادون بالانقطاع المعرفي، يرفعون الصوت بدعوتهم عاليا بعد أن مكنوا أقدامهم -سواء كانوا حزبا حاكما أو حزب معارضة- على أرض الواقع. حبلهم موصول بالعالمية الجاهلية، وحقهم مصون، وبرنامجهم معروض للسائل، مدسوس في المدرسة والجامعة والشارع والكتب والنشرات. فتحت عَلَم السيادة الحضارية الجاهلية تخفُق أعلامهم، ومن مائها يستقون، ومن طعامها الفكري والمادي يتغذون، ولا تخشى مجامع الجاهلية أن تلتقي بهم بل تحرص. وتؤوي جامعاتهم، وتشجع أئمتهم. وتنتظر حكومات الجاهلية صعود عصاباتهم على رقاب الشعوب الإسلامية لتخالل وتخادن وتناجي وتلقن وتعتنق بالأحضان. صلتهم الحميمة بالجاهلية قلبا وقالبا جرَّأَتهم على الجهر بالردة والدعوة لها تحت عبارات مستغلقة كعبارة «الانقطاع الإبستمولوجي «.
أما نحن تحت وطأة الحكم الجبار فدعوتنا لقطع حبال الجاهلية لا يرحب بها إلا المستضعفون الذين نجوا من التخدير الدعائي، الرسمي منه والحزبي والقومي.
أما نحن فالذي يصلنا بالله ورسوله إيمان بالله ورسوله وكتابه. إيمان سماوي تحتقبه القلوب. وقد يصدمه الواقع المر العنيف علينا فيحلق في عَلِيِّ المثال. لذلك تجد بعضنا لا يقول بضرورة عرض منهاج كامل لعملنا، فأحرى عرض برنامج قابل للتطبيق في ميادين السياسة والاقتصاد وتغيير المجتمع.
معاني السماء في قلوبنا، وحقائق الأرض تحتجن أموالنا وتشل طاقاتنا، وتُغيرُ على حُرمَاتنا، وتخدر أفكارنا.
وإنه لضروري صياغةُ معرفة بالكيف الإسلامي لإنجاز ما عندنا من غاية وأهداف، صياغة تأخذ في اعتبارها أمسنا الممجد، وغدنا المتألق بوعد الله ورسوله، وحاضرنا المرهون في يد أعدائنا. ويرجى أن تكون هذه الصياغة ملتقى في العقول لقدر الله المتمثل في التاريخ وشرعه المنزل المصون. ويرجى بعدئذ أن تتوحد النظرة، ويتوحد على إثرِها منهاج العمل وبرامجه، فيكون غدنا ابتكارا إسلاميا لا تقليدا للجاهلية يلفق من شعارات التراث ستارة يتم وراءها اغتيال الإسلام.