بقلم الإمام محمد رشيد رضا(*)
هذا بيان لسنة عظيمة من أعظم سنن الله تعالى في نظام الاجتماع البشري، يعلم منها بطلان تلك الشبهات التي كانت غالبة على عقول الناس من جميع الأمم، ولا يزال جماهير الناس يخدعون بها، وهي ما يتعلق بنوط سعادة الأمم وقوتها وغلبها وسلطانها بسعة الثروة، وكثرة حصى الأمة، كما قال الشاعر العربي:
ولست بالأكثر منهم حصى … وإنما العزة للكاثر
وكان من غرورهم بها أن كانوا يظنون أن من أوتيها لا تسلب منه، وأنه كما فضله الله على غيره بابتدائها، كذلك يفضله بدوامها، “وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين” (34: 35)، وقد بينا غرور البشر بهذه الظواهر في مواضع من هذا التفسير، ثم ظهر أقوام آخرون يرون أن الله تعالى يحابي بعض الأمم والشعوب على بعض بنسبها، وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوة أو ما دونها، فيؤتيهم الملك والسيادة والسعادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إلى مللهم ولا سيما إذا كانوا من آبائهم، كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وكما فعل الذين اتبعوا سننهم من النصارى ثم المسلمين، بالغرور في الدين، ودعوة اتباع النبيين، وبكرامات الأولياء والصالحين، وإن كانوا لهم من أشد المخالفين. فبين الله تعالى لكل قوم خطأهم بهذه الآية، وبما سبق في معناها، وهو أعم منها في سورة الرعد من قوله: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (13: 11)، وأثبت لهم أن نعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشئون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الرب الكريم لينتزعها منهم انتزاعا بغير ظلم منهم ولا ذنب، فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتب عليها من محاسن الأعمال، غير الله عندئذ ما بأنفسهم، وسلب نعمته منهم، فصار الغني فقيرا، والعزيز ذليلا، والقوي ضعيفا. هذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم، وهو كذلك في الأفراد إلا أنه غير مطرد فيهم، لقصر أعمار كثير منهم دون تأثير التغيير حتى يصل إلى غايته.
[آثار العقائد في وحدة الأمة]
إن للعقائد الدينية الصحيحة والخرافية آثارا في وحدة الأمة وتكافلها وقوة سلطانها أو ضعفه، ولا يظهر الفرق بينهما في الوجود إلا بوقوع التنازع بين أمتين مختلفتين فيها. وإن للأخلاق الشخصية التي يتحقق بكثرة بعضها ما يسمى خلقا للأمة أو الشعب مثل ذلك في حكمها وسلطانها وفي ثروتها وعزتها أيضا، ويظهر ذلك في سيرة كل أمة ودولة ذات تاريخ معروف، ومن اطلع على كتب (الدكتور غوستاف لوبون) الاجتماعي الكبير في علم الاجتماع يجد فيها شواهد كثيرة على هذه القواعد أظهرها ما يبينه من الفروق بين فرنسة وإنكلترة – وبين الشعوب اللاتينية والشعوب ” الأنجلوسكسونية ” عامة – في الأخلاق، وما لذلك من الآثار في حياة الفريقين الاجتماعية والسياسة والاستعمارية والتجارية.
ومن كلامه في تأثير الأخلاق في ترقي الأمم وتدليها وقوتها وضعفها على الإطلاق، قوله في الفصل الثالث من كتابه (روح الاشتراكية) وموضوعه (نفسية الشعوب) : وأذكر هنا ما أشرت إليه كثيرا في كتبي الأخيرة، وهو أن الأمم لا تنحط وتزول إذا تناقص ذكاء أبنائها، بل إذا سقطت أخلاقها. هذه سنة طبيعية جرت أحكامها على اليونان والرومان، وأخذت تجري في هذه الأيام أيضا، لا يزال أكثر الناس لا يفقهون هذا القول، ويجادلون في صحته، غير أنه أخذ ينتشر، وقد رأيته مفصلا في كتاب وضعه حديثا الكاتب الإنكليزي (المستر بنيامين كيد) ولا أرى لتأييد قضيتي أفضل من اقتباس بعض عبارات عنه بين فيها – منصفا غير محاب – الفرق بين الخلق (الأنجلوسكسوني) والخلق الفرنسوي ونتائج هذا الفرق اهـ. (ص104 و105) من الترجمة العربية.
ثم أورد شواهد منه على ما أشار إليه من مراده، وبيان تفوق الإنكليز على الفرنسيس بأخلاقهم، فإن فساد الأخلاق الذي أهلك الأمم التاريخية الشهيرة كالفرس واليونان والرومان والعرب قد دب إلى الإفرنج، وكان بدء فتكه باللاتين ولا سيما الفرنسيس منهم، فقل نسلهم، وصاروا يرجعون القهقري أمام الإنكليز وإخوانهم الأميركانيين في كل شيء، دع الألمان الذين فاقوا الفريقين.
وقد دب هذا الفساد الأخلاقي إلى الإنكليز أيضا كما صرح بذلك أعظم فلاسفتهم (هربرت سبنسر) الشهير لأستاذنا الشيخ (محمد عبده) وسبق نقله في هذا التفسير من أن الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين في أوربة قد دبت إلى الإنكليز، وأخذت تفتك بأخلاقهم، وأنها ستفسد أوربة كلها.
ومن الغريب أن تكون هذه المسألة مما يغفل عنه أكثر المتعلمين في هذا العصر بعد اتساع نطاق علم الاجتماع، وكثرة المصنفات فيه، وكثرة ما يكتب في الصحف العامة في موضوع الأخلاق، وتأثيرها في أحوال الأفراد والأمم، حتى قال غوستاف لوبون: أكثر الناس لا يفقهون هذا القول بل يجادلون في صحته، فالمسألة على كونها صارت معروفة للجماهير لا تزال موضع مراء وجدال عند الأكثرين؛ لأنها من مسائل العلم الصحيح العالي التي لا يفقهها إلا أصحاب البصيرة النافذة، والمعرفة الممحصة. ولو فقهها الجمهور لكان لها الأثر الصالح في أعماله. وإننا لنرى الألوف في بلادنا يتمثلون بقول أحمد شوقي بك أشهر شعراء العصر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يتمثلون به معجبين؛ لأنهم يفهمون مدلول ألفاظه، وشرف موضوعه، ولكن أكثرهم لا يفقهون حكمته التفصيلية العملية، وماذا يكون من تأثير فساد كل خلق من أخلاق الفضائل في أعمال الأفراد، ثم في ضعف الأمة وانحلالها – ذلك الفقه الذي حققنا معناه في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها (7: 179) فراجعه مع بيان مراتب السماع والفهم من تفسير الآيات 20 – 23 من هذه السورة.
إن من الأخلاق ما لا يجادل أحد في حسنه في نفسه، وفي استقامة المعاملات العامة في الأمة به كالصدق والأمانة والعدل، وإن امترى كثيرون أو ماروا في كونها دعائم أسباب النجاح والفلاح في المعيشة أو الترقي في مناصب الحكومة، ولكن قلما يجهل أحد من أذكياء هؤلاء الممترين في فساد الجماعة أو الشركة أو الحكومة التي يرتقي العامل فيها بالكذب، والخيانة والظلم، وإذا بلغ قوم هذه الغاية من الفساد ألفوه وعدوه من ضروريات الحياة، ولم تعد قلوبهم تتوجه إلى الخروج منه بإصلاح ما بأنفسهم، وإنما يتلافون من شره ما استطاعوا ببعض النظم والقوانين الصورية.
وإن من الأخلاق الكريمة ما صار الفاسدون المفسدون يجادلون في حسنه، وكونه من الفضائل التي يصلح بها حال الأفراد، ويرتقي به مجموع الأمة كالحياء والرحمة والعفة. يقولون: إن الحياء ضعف في النفس، وكذلك الرحمة. وهذا خطأ لا محل هنا لبيانه، وهو قديم، وإنما الجديد الذي لم يطرق مسامعنا قبل هذه الأيام هو المراء في فضيلة العفة، فإن دعاة الفساد الذي يسمونه تجديد الأمة قد اقترفوا هذه الجريمة، ولا غرو فإن من أركانه عندهم تهتك النساء، وامتزاجهن بالرجال في الملاعب والمراقص والمسارح والمسابح مواضع السباحة في البحر (فقد كتب أحدهم في بعض الصحف الناشرة لدعايتهم أن العفة يختلف معناها باختلاف معارف الناس وعرفهم وأذواقهم وتقدمهم في الحضارة، ومن ذلك أن المرتقين الآن لا يعدون رقص النساء مع الرجال منافيا للعفة، ولا مخلا بها. ووثب كاتب آخر منهم وثبة أخرى فقال: إنه قد ظهر في هذا الزمان أن إرخاء العنان للشهوات البدنية لا يضر في الجسد، ولا في النفس، ولا يخل بالآداب، ولا يضعف الأمة عدم التزام الأديان والشرائع فيه – قال المفسد قاتله الله: وقد ثبت هذا بالتجربة في الأمة الأميركانية فظهر به خطأ المتقدمين فيه، وهذا زعم باطل يتقرب به قائله إلى المسرفين من الفساق، ولا يزال الأطباء والحكماء مجمعين على هدم الإسراف في الشهوات لبناء البنية بما يولده من الضعف والأمراض، كما أنه مفسد للآداب والأخلاق.
مازال البشر يمارون في كل شيء حتى الحسيات والضروريات، وإنما الكلام المقبول في كل موضوع لعلماء أهله، ألم تر أنهم يمارون في مضار شرب الخمر، ويدعون نفعها، والأطباء المحققون يثبتون خلاف ذلك، يثبتون أن إثمها أكبر من نفعها، وأن النفع القليل الخاص ببعض الأحوال المرضية قد يعارضها فيها نفسها من الضرر ما هو أقوى منه، فيجعل ترك التداوي بها أولى إذا وجد أي شيء آخر يقوم مقامها.
(*) من تفسير المنار – الجزء العاشر.
بارك الله في جهودكم
Hey there! Do you know if they make any plugins to assist with Search Engine Optimization? I’m trying to get
my site to rank for some targeted keywords but I’m not
seeing very good success. If you know of any please share.
Appreciate it! You can read similar text here: Bij nl
They’ll capture your arrival, the arrival of your guests, the celebrations on the evening of your marriage ceremony day.
I blog often and I really appreciate your information. This great article has truly peaked my interest. I’m going to take a note of your site and keep checking for new information about once per week. I opted in for your RSS feed as well.
Hi, I do think this is an excellent web site. I stumbledupon it 😉 I’m going to come back yet again since i have bookmarked it. Money and freedom is the best way to change, may you be rich and continue to guide others.
Very good information. Lucky me I ran across your site by chance (stumbleupon). I’ve book marked it for later!
You made some decent points there. I checked on the internet to find out more about the issue and found most individuals will go along with your views on this web site.
You should take part in a contest for one of the greatest websites on the net. I’m going to highly recommend this blog!
You are so interesting! I do not suppose I have read a single thing like this before. So wonderful to discover another person with original thoughts on this subject. Really.. many thanks for starting this up. This website is something that is required on the web, someone with some originality.
Great info. Lucky me I found your site by accident (stumbleupon). I have saved it for later.
After I initially commented I seem to have clicked the -Notify me when new comments are added- checkbox and from now on each time a comment is added I get 4 emails with the same comment. There has to be an easy method you can remove me from that service? Appreciate it.
Hi there, There’s no doubt that your web site may be having web browser compatibility problems. When I take a look at your web site in Safari, it looks fine however, when opening in Internet Explorer, it has some overlapping issues. I just wanted to give you a quick heads up! Other than that, excellent blog.
I blog frequently and I really thank you for your information. This great article has truly peaked my interest. I am going to take a note of your site and keep checking for new information about once a week. I opted in for your Feed too.
You are so cool! I do not believe I have read anything like this before. So great to find somebody with some original thoughts on this subject. Seriously.. thank you for starting this up. This web site is something that is needed on the internet, someone with some originality.
I’ll right away grab your rss as I can’t find your e-mail subscription link or e-newsletter service. Do you’ve any? Kindly let me know in order that I could subscribe. Thanks.