” أهم يقسمون رحمة ربك ” (؟) (الزخرف 32)

 

د. محمد الحبيب الدكالي

 

فرك أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي يديه جذلانا فرحا قبل أن يقف أمام الكاميرا ليعلق على اغتيال شيرين أبو عاقلة رحمها الله بأنه لا يجوز الترحم عليها مستشهدا بـ”فتاوى علماء المسلمين”. موقف سريالي. واضح أن هذا الموقف يهدف إلى زرع الشقاق بين أبناء الشعب الفلسطيني والسخرية من “العلماء” الذين قدموا للعدو هدية لا تقدر بثمن بتلك “الفتاوى”.

لكن جنازة شيرين وهي الأكبر في تاريخ فلسطين الحديث و التي امتدت من جنين إلى القدس وشيعها الآلاف من مجاهدي ورجال ونساء فلسطيني فوّتت الفرصة على العدو، ووضعت تلك “الفتاوى على الرّف.

لقد كان ممكنا منذ الوهلة الأولى لانطلاق “الجدل الفقهي” حول هذه الواقعة المفجعة، لكل ذي عينين يستخدم عقله، أن يدرك بسرعة أن خبراء الحرب النفسية الإسرائيليين نجحوا وبشكل كبير فعلا في نصب الفخ وتقديم الطّعم الذي سرعان ما ابتلعه بعض المشايخ، المحترم منهم وغير المحترم، فابتلعوه بتسرّع وقصر نظر كبيرين. وهكذا تضاربت “الفتاوى” في التوصيف بين “الترحم غير على المسلمين”، و”الترحم على المشركين والكفّار”، وفي المصير الحتمي لمن مات على غير الإسلام في جهنم. لقد بدا هذا المشهد كما لو كان مرافعة للادعاء العام وهو يقلّب قانونا جنائيا ويختار منه المواد التي تعزز مطالبه.

كما جزم هؤلاء المشايخ، المحترم منهم وغير المحترم في “فتاواهم”، بيقين، أن شيرين ماتت على “غير الإسلام” وبالتالي فمصيرها “إلى النار”. لقد سبق أصحاب تلك “الفتاوى” رب العزة سبحانه، قبل أن يقوم الأشهاد يوم القيامة، وحددوا بدقة ما سيحكم به الله على شيرين عينا وتعيينا. لا بد أنهم شقّوا على صدرها فعلموا بالأمر.

دروس التاريخ والواقع

مشهد1 : في يونيو 619 م، انطلق نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف طلبا للنصرة رفقة زيد بن حارثة سيرا على الأقدام، وهي تبعد عن مكة حوالي 100 كلم، أي بعد عام الحزن مباشرة. وكان ما كان من الإيذاء المعنوي والجسدي حتى أدموا رجليه الشريفتين، وكان ما كان من جميل وبليغ دعاءه وصبره فلم ينعت مضطهديه بشيء ولم يدع عليهم، بل دعا لهم بالهداية “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.. هو رحمة للعالمين، فهل من دعاء بالرحمة أبلغ من الدعاء بالهداية؟

وعن ابن مسعود قال : كأنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. (البخاري).

مشهد2 : لم تمض على انتقال الحبيب المصطفى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى سوى بضع سنين عندما وصل عمر بن الخطاب، خليفة المسلمين إلى القدس وهي تحت حصار المسلمين، التي رفض كبير أساقفتها تسليم مفاتيحها إلا له. وهنا يحكي لنا التاريخ عن واحدة من أندر وأعظم وأنبل المعاهدات، ووجب التذكير بها :

“بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان. أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها. أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضارّ أجد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.

وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا أمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية. ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع لروم ويخلي بيعهم (بكسر الباء وفتح الياء) وصلبهم فإنهم آمنون على بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية”.

وقّع الفاروق على العهد وسلمه كبير الأساقفة مفاتيح القدس. عندها طلب كبير الأساقفة من عمر أن يصلي في كنيسة القيامة التي تتعرض هي الأخرى إلى اعتداءات الصهاينة المجرمين، إكراما له، لكن عمر رفض، ليس لأن فيها صلبانا وصورا وتماثيل، بل قال قولته البليغة بما معناه، لا أريد أن يأتي أحد من المسلمين يوما ويصادر الكنيسة بدعوى أن عمرا صلى فيها يوما ما. ولو كانت القضية قضية صلبان وصور وتماثيل لما تردد الفاروق في قولها.

لننتبه إلى أن عمرا لم ينعتهم بأنهم كفار أو مشركين، فقد فقه أنه ليس واجبا عليه أن يفعل ذلك ولا أن يحدد طبيعة مصيرهم يوم القيامة، لأن هذا أمر يعود إلى الله سبحانه، فقط.

ألا فليعلم بعض مشايخنا المحترمين، أن كثيرين من إخواننا نصارى الشام والعراق يسمون أبناءهم باسم عمر، حتى لدى الذين هاجروا منهم إلى أمريكا الجنوبية منذ بدايات القرن الماضي، فاسم عمر شائع بينهم ومنهم الجنرال عمر تورّيخوس رئيس بنما الأسبق الذي رفض السيطرة الأمريكية فأطاحوا به، وذلك تقديرا وتعظيما للعهدة العمرية التي تشكل منذ قرون جزءا راسخا من ثقافتهم التاريخية وتقديرا لسماحة المسلمين.

مشهد 3 : في 16 مارس 2003 قتل الإسرائيليون الشابة الأمريكية راشيل آليان كوري ذات الأربعة وعشرين ربيعا فدهستها جرافة إسرائيلية وقتلتها بهذه الطريقة البشعة، عندما وقفت تلك الشابة بشجاعة نادرة أمام الجرافة للحيلولة دون هدم بيوت للفلسطينيين في رفح غزة، وكانت عضوة في “حركة التضامن العالمية” أثناء الانتفاضة الثانية. وأذكر أنني ذكّرت بتضحية هذه الشابة النبيلة  في اجتماع لمنظمة متخصصة في مناصرة القدس والمقدسيين سنة 2006 وترحمت عليها، فرمقتني عيون باستنكار مبطّن!!  أفلا نطلب الله لها الرحمة؟ من شقّ على صدرها؟ إنما أمرها إلى الله ولا يعقل أن يجرؤ عاقل، بله عالم راسخ، على أن يسبق الله سبحانه في حكمه.

بعدها بما يقرب من عشرين عاما وجه قناص إسرائيلي رصاصة متفجرة إلى رأس شيرين أبو عقلة فهشمت جمجمتها وهي ماضية في سيرتها للدفاع عن الأقصى الذي رابطت فيه مع المرابطين وعن والقدس وفلسطين طيلة 25 عاما، وذكر الشهود بعد اغتيالها أنها كان تكفل الأيتام، وتزور أمهات الشهداء والمعتقلين وتواسيهم وتحنو عليهم وتخدمهم، وكانت تدفع تكاليف إفطار المعتكفات المرابطات في المسجد الأقصى وتوصى بألا يذكر شيء من هذا للناس.

لقد بلغت من عمرها 51 عاما، وفضلت ألا تتزوج لأنها كانت تعتقد أن العمل المتواصل الذي لا يتوقف دفاعا عن المقدسات والأرض والشعب لا يسمح لها بترف إنجاب الأولاد والحياة العائلية الوادعة.

من شقّ على صدر هاتين الإنسانتين النبيلتين؟ كانت شيرين إنسانة تؤمن بالله كما كان يتردد على لسانها بشكل عفوي في مناسبات عدة، وشهد لها من خالطها أنها كلما ذكر أمامها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقول “عليه الصلاة والسلام”، فظهر من يقول أنها “ربما” كانت صلاتها على الحبيب من باب المجاملة!! نموذج عجيب في التّنطّع.

إنما أمر هؤلاء ومن شابههم إلى الله العدل الرحيم فهو الذي يعلم سرائرهم “إن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (المائدة 118). “وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِين”َ (الأنعام 52).
لنفقه، ما عليك من حسابهم يا محمد من شيئ.. “إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ” (السجدة 25)، وجماع هذا الأمر “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ” (الأنعام 57). انتهى الكلام.

راشيل وشيرين نموذجان فقط وإلا فهناك المئات “من غير المسلمين” ممن سافروا إلى فلسطين ودفعوا من جيوبهم ليقفوا في وجه العدو مناصرة للفلسطينيين، فأصابتهم أنواع من الّلأواء والأذى الجسدي في القرى والمدن والمزارع. الملاحظ أن عامة “الإسلاميين” لا يبالون بهذه الظاهرة ولا يهتمون بمنظمات المناصرة العديدة عبر العالم ولا بالتواصل معها والشّدّ على أيدي أصحابها من باب “ولا تنسوا الفضل بينكم” (المائدة 237)، إلا إن كانوا يعتبرون أن هذه الآية خاصة “بالمسلمين”، ففي هذه الحالة من المناسب تذكيرهم بما قاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في “حلف الفضول”.

لننتبه ولنفقه ما يقوله الله عز وجل “إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” (آل عمران 21). الوحي هنا يتكلم عن الذين يأمرون بالقسط من الناس دون تحديد لأديانهم ومعتقداتهم وليس من المسلمين فقط، ولننتبه إلى نوع وعيده، ولننتبه إلى مكانة هؤلاء عند الله سبحانه من خلال سياق الآية عندما قرن قتلهم بقتل الانبياء.

لا يمكننا أن نتفلسف أونتعسّف في تحديد مصير غير المسلمين منهم يوم القيامة فلا حق لنا في ذلك، فالأمر أمر الله سبحانه، وهو العدل الحكم، “لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ” (الأنبياء 23).

مشهد4 : حدّثني صديق وهو عراقي من أصل فلسطيني يقيم في ميتشيغان بالولايات المتحدة، أنه بعد أحداث 11 سبتمبر وتأجيج الحملات المعادية للمسلمين، وكان يقيم في حي نسبة كبيرة من سكانه مسلمون ويقع فيه مركز إسلامي كبير، بادر عدد من الأمريكيين من سكان الحي والمدينة بتنظيم الحراسة حول بيوت المسلمين ومركزهم الإسلامي لحمايتهم من أية اعتداءات محتملة، كما اتصل بهم أسقف كنيسة المنطقة ودعاهم إلى إقامة صلوات الجمعات في الكنيسة وأفرد لهم قاعتها لترتيبها بما يناسبهم لهذا الغرض، وقد استمرت الحراسة والعناية لأسابيع.

مشهد5 :حدثني صديق مغربي في أواخر الثمانينات وكان يحضّر دكتوراه في علم الاجتماع السياسي، أنه حظي بمعرفة البروفيسور محمد حميد الله، أستاذ الحضارة في جامعة السوربون، وهو علاّمة هندي صاحب مستوى علمي سامق وصاحب أفضل ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وكان يحظى بسمعة علمية كبيرة في الأوساط الأكاديمية والعلمية الفرنسية.

كما حدثني هذا الصديق عن ورعه وزهده وتفرغه للعلم في حياته كلها وعزوفه عن الزواج لهذا الغرض. * وقد حدّثه هذا العلاّمة الجهبذ عن الواقعة التالية : فبينما كان يخرج من باب مسجد باريس عصر ذات يوم، لاحظ راهبتين تقفان أمام باب المسجد وهما تتطلعان إلى صحنه الذي تتوسطه نافورة الماء. فبادرهما قائلا : “هل ترغبان في زيارة المسجد؟”، فأجابتا بسرور: “بلى، بلى”، فأشار إليهما بأن يضعا حذاءيهما في المكان المخصص ودلف بهما إلى الصحن وبدأ يشرح لهما رمزية النافورة في المساجد وحدثهما عن فلسفة الماء في الإسلام، ثم دخل بهما إلى داخل المسجد حتى المحراب والمنبر وبدأ يشرح لهما كيف تنتظم الصلاة خلف الإمام قراءة وركوعا وسجودا ودعاء، ومعنى صلاة الجمعة كاجتماع أسبوعي للجماعة المسلمة حول موضوع ما يتولاه الإمام.

كانت فرحتهما عارمة، فشكرتاه ثم سألته إحداهما عما إذا كان بإمكانه أن يلقى محاضرة في دير الراهبات الذي ينتميان إليه وكان يقع في أحدى ضواحي باريس، فأجاب : “بكل سرور”. وفي الموعد المحدد كان في الدير وقد جمعوا له كل الراهبات.

طبعا كانت محاضرته تطبيقية شرح فيها كل من يتعلق بالصلاة، فشرح لهن فلسفة الطهارة الجسمية والروحية وكيف كانت صلاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التكبير إلى التسليم ويترجم لهن الفاتحة وبعض معاني القرآن مما يقرأ في الصلاة وأدعية الركوع والسجود.

حدّثهن عن فلسفة الصلاة وأبعادها الروحية والأخلاقية والمجتمعية. وبعد الأسئلة والإجابات طلبت منه رئيسة الدير أن يلقي محاضرة أخرى حول الإسلام ككل، وجاء فعلا وألقى المحاضرة. وخلال مرافقتها له لتوديعه، جذبته برفق من كمّه فانحنى إليها قليلا فقالت له : منذ محاضرتك السابقة ونحن نصلي مثل صلاتكم”. (افهم يا الفاهم).

لا يكفي الاستشهاد بآيات من كتاب الله عز وجل حول مسألة الموقف من “أهل الكتاب” دون آيات أخرى بيّنات، فالقرآن يفسر بعضه بعضا كما هو متفق عليه وهذه أول وأهم قاعدة من قواعد التفسير. نحن في حاجة ماسة إلى إعادة التفقه في هذا الأمر من خلال سياقات القرآن الكريم كله ومن سياقات السّنّة الثابتة بمجملها.

أتجعلون القرآن عضين؟

لا وجود لمصطلح ” المسيحية ” أو ” المسيحيين ” في القرآن ولا في السّنة الثابتة، فالمصطلحان آتيان من التاريخ الديني لأوروبا، وقد تطورت دلالاتهما أطوارا. أما في كتاب الله عز وجل، فقد وردت كلمات ” أهل الكتاب” تارة، و”النصارى” تارة ثانية، و”أهل الذّمة”  في السّنّة ثالثة. فما هي شهادة الله سبحانه في حق القوم؟

“لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ” (المائدة 82) أهل مودة ورحمة وأنهم لا يستكبرون، وهم الأقرب إلينا من دون الناس أجمعين، فهل من شهادة بعد شهادة الله جلّ ذكره؟

” ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” (الحديد 27).

الله سبحانه وتعالى هو الذي أنعم عليهم فجعل في قلوب رأفة ورحمة، حتي غلو بعض طوائفهم في الرهبانية التي كتبها الله سبحانه عليهم نص عليه الوحي بتنبيه جميل لا شدة فيه ولا تغليظ، ولو شاء سبحانه لقال غير ذلك. الحقيقة والصورة مختلفة عما يظنه بعض مشايخنا المحترمين، لماذا وكيف؟ :

“لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)

قال ابن عاشور في التحرير والتنوير، “..اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ بِهِ إِنْصَافُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَى مُعْظَمِهِمْ بِصِيغَةٍ تَعُمُّهُمْ، تَأْكِيدًا لِمَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (آل عمرَان: 110(  فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ لَيْسُوا لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ آنِفًا، وَهُمُ الْيَهُودُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتَنَزَّلُ مِنَ الَّتِي بَعْدَهَا منزلَة التَّمْهِيد”.

لو اهتممنا بالاطلاع على الواقع الديني لأهل الكتاب، بطريقة علمية جادة، لكان فهمنا مختلفا عن الفهومات الحدّية والسطحية السائدة، ولكان أقرب إلى دلالات الوحي لقوله سبحانه  “لَيْسُوا سَوَاءً”.

“لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة8).. البرّ والقسط وهما من أعظم الأخلاق التي نص عليها الوحي. فهل بررنا وأقسطنا للمظلومة شيرين؟ بعض المشايخ تبرعوا بالقول بجواز ذكر مناقبهم دون الترحم عليهم، ومع ذلك لم نسمع لأحدهم قولا منصفا فيها بذكر محامدها !!

ما لا يعرفه كثيرون منا أن نصارى الشام كانوا يقاتلون مع المسلمين ضد الفرنجة نصرة لإخوانهم المسلمين ولأنهم عانوا هم الآخرين من وحشية الغزاة. والآن، يقوم إخواننا المسيحيون الفلسطينيون جنبا إلى جنب مع إخوانهم المسلمين بأدوار قوية في مواجهة الاحتلال الصهيوني العنصري، وكثيرون منهم ارتقوا في المقاومة، وبرز في نصارى الشرق رجال دين ونخب علمية عالية المستوى وقيادات سياسية دافعوا عن الإسلام والمسلمين وحضارتهم أمام المحافل العلمية في الغرب.

“إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون” (البقرة 62)، ثلاثة شروط ومواصفات، والأمر كما قال سبحانه لا نتأوّله بغير ظاهره إلاّ ببيان من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

“وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ” (التوبة 114).. أبو إبراهيم الخليل كان عدوا لله جاحدا ورفض الإيمان بالله.. شيرين أبو عاقلة كانت تؤمن بالله وكانت توالي إخوتها المسلمين والمجاهدين في فلسطين.

“وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا” (النساء 18)، هذا حكم إلهي عام ونحن به مومنون موقنون، ولكن لا حق لأي كان أن ينصّب نفسه قاضيا يصدر حكما على ناس بأعينهم يسبق حكم الله سبحانه على عباده يوم القيامة بمقتضى هذه الآية.

ألا فليعلم ..

ألا فليعلم أولئك الذين يلصقون “تيكيتات” التكفير على جباه الناس، وباستعلاء ظاهر، أن في العالم عشرات بل مئات الملايين من الناس في قارات الدنيا ممن عندهم استعداد للدخول في الإسلام لو وجدوا من يبلغهم كلام الله سبحانه ويشرح لهم معاني الإيمان، بالرحمة وليس بأساليب الازدراء والمقت، ولدخلوا في دين الله أفواجا.

ألا فليعلم هؤلاء أن عليهم أن ينزلوا من علياء أبراجهم ليبلّغوا كلمات الله إلى الناس ما داموا يعتقدون أنهم أفهم الناس للإسلام وأفقههم فيه، وعليهم أن يسألوا ويحاسبوا أنفسهم ماذا قدموا من جهود وتضحيات لتبليغ الرسالة للعالمين وأن يكونوا في مستوى الخيرية والشهادة على الناس بأخلاقهم وتعاملاتهم. رحم الله أهل جماعة التبليغ.

* محمد حميد الله الحيدرآبادي[2] (1326 هـ ـ 1423 هـ/1908م ـ 2002م)، أحد أعلام الثقافة العربية الإسلامية الكبار في العصر الحديث، هو محدّث وفقيه وأحد كبار العلماء والدعاة الذين أنجبتهم شبه القارة الهندية بصورة عامة.

[3] حاصل على دكتوراة في الفلسلفة كما حصل على درجتي الدكتوراة في السيرة النبوية من جامعتين مختلفتين أحداهما من جامعة باريس والأخرى من جامعة توبنجن بألمانيا. قضى ما يقرب من نصف عمره بالبحث والتحقيق في أوروبا ودول الشرق الأوسط. كاتب غزير الإنتاج، وله العديد من الدراسات الأكاديمية والأعمال الواسعة في العلوم الإسلامية والتاريخ والثقافة غير المسبوقة في القرن الماضي، وقد تم نشرها بعدة لغات مع آلاف المقالات في المجلات العلمية.

وكان أول مسلم يقدم ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الفرنسية والتي تعد من أفضل ترجمات معاني القرآن على الإطلاق، كما قام بترجمة تفسير القرآن الكريم للعديد من اللغات الأخرى. يتحدث الكثير من اللغات بطلاقة مثل: الأردية (لغته الأم)، الفارسية، العربية، الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الإيطالية، اليونانية، التركية، الروسية وغيرها تصل إلى 17 لغة حتى أنه تعلم اللغة التايلاندية وهو في الأربع والثمانين من عمره.

وله مؤلفات قيمة بهذه اللغات يبلغ عددها أكثر من 250 كتاباً. وله مئات المقالات في القرآن والسيرة النبوية والفقه والتاريخ والحقوق والمكاتيب وغيرها. (ويكيبيديا)

 

 

 

 

اترك تعليق