بقلم أ.د صالح حسين الرقب(*)
إنَّ سقوط الحضارات وانهيارها وهلاك الأمم وذهابها له أسبابه وعوامله المنسجمة مع سنن الله تعالى ونواميسه، والهلاك نوعان، الأول: هلاك الأخذ والاستئصال، وقد توقف وانتهى ببعثة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” سورة الأنبياء: 107، والثاني: هلاك الهزيمة والانهيار والضياع، وهذا النوع سنة باقية على الأمم حتى قيام الساعة. ومن خلال دراسة تاريخ الأمم السابقة التي ذهبت إلى غير رجعة.
وباستقراء آيات القرآن الكريم يتبين أن هلاك الأمم وسقوط الحضارات يرجع في الجملة إلى الأسباب التالية:-
1- الكفر بالله تعالى ورسله: قال تعالى: “كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب” الأنفال: 52. وبعد أن أخبر الله تعالى عن إهلاك قوم سبأ قال عز وجل: “ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور” سبأ: 17.
2- التكذيب لهدى الرسل: قال تعالى: “ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيراً فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية واعتدنا للظالمين عذاباً أليماً وعاداً وثموداً وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيراً” الفرقان: 35-38. وقال تعالى: “قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين” آل عمران: 137.
3- الظلم: قال تعالى: “ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا..” يونس: 13. وقال تعالى: “فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة..” الحج: 45.
4- الفساد في الأرض: قال تعالى: “ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملأه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين” الأعراف: 103.
5- الاستكبار في الأرض: قال تعالى عن فرعون وجنوده: “واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين” القصص: 39-40.
6- انتشار الرذائل وفساد الأخلاق: قال تعالى عن هلاك قوم لوط: “ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون”.. ثم بين الله تعالى هلاكهم فقال: “وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين” الأعراف: 80-84.
7- استفحال الذنوب والمعاصي والفسق: قال تعالى: “ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين” الأنعام: 6. وقال تعالى: “أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وأثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق” غافر: 21. وقال تعالى في هلاك قوم ثمود: “فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها” الشمس: 14-15. وقال تعالى: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناهم تدميراً” الإسراء: 167. وقال تعالى: “وكذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا..” يونس: 33.
8- التمرد على أوامر الله تعالى والاستهزاء بها وعدم القيام بواجب النعمة والفضل الإلهي: قال تعالى: “وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا” الطلاق: 8-9. وقال تعالى: “فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين” الأنعام: 44-45.
وبتطبيق عوامل الانهيار والهلاك للأمم السابقة على الحضارة المادية الشيوعية والحضارة الغربية المعاصرة يتضح لنا بجلاء أنّه قد أحاطت بهاتين الحضارتين كلّ العوامل السابقة من كل جانب، من الكفر والتكذيب والتمرد على شرائع الله تعالى وهدى رسله، واستفحلت فيها الذنوب والمعاصي والآثام، وانغمست في مستنقعات الشهوات والرذائل، وبلغت من القوة المادية شأناً عظيماً، وإذا كانت الحضارة الشيوعية قد سقطت وهوت نظرية وتطبيقا ودولة عظمى، فإن الحضارة الغربية الرأسمالية تنتظر أيضا الهاوية والهلاك والسقوط.. تنتظر أن تجري فيها سنن الله تعالى التي جرت في الأمم البائدة قال تعالى: “سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً” الأحزاب: 62، وعندها لن ينفع العلم ولا التقدم المادي أصحابها كما لم ينفع السابقين الهالكين قال تعالى: “أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون” غافر: 83. وقال تعالى: “أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم لكن كانوا أنفسهم يظلمون” الروم:9.([1])
يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “ولقد ذهب علماء الحضارات، كثمرة لاستقرائهم التاريخ البشري، وصفحات السقوط والنهوض، إلى أن الحضارة، أية حضارة، تمر بمراحل ثلاث، هي:-
* المرحلة الأولى: هي مرحلة الفكرة، مرحلة الإيمان بالهدف، الذي يملأ على الإنسان نفسه، ويشكل له هاجساً دائماً، وقلقاً سوياً، ويدفعه للعطاء غير المتناهي، والتضحية في سبيل ذلك، بكل شيء، بما يمكن أن يعتبر أن من أهم سمات هذه المرحلة: بروز إنسان الواجب، الذي لا يرى إلا ما عليه، ويقبل على فعله بوازع داخلي، بإيمان، واحتساب، دون أن يخامر عقله، ماله من حقوق، هو إنسان واجب، إنسان إنتاج، وليس إنسان حق فقط، إنسان استهلاك، وقد يكون من المفيد هنا، أن نذكّر بحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي وصف مرحلة الوهن الحضاري، والإشراف على السقوط، وحدد معادلتها، عندما سئل عن الوهن، الذي يصيب الأمة قال: “حب الدنيا “([2]): (ظهور إنسان الغريزة-إنسان الاستهلاك)، (وكراهية الموت ) (غياب إنسان الإيمان، والإنتاج والاحتساب.
*أما الدورة الحضارية الثانية، أو المرحلة الحضارية الثانية، التي تمر بها الأمة، هي مرحلة العقل، وضمور الإيمان، وفتور الحماس، نسبياً، مرحلة التوازن، بين العمل والأجر، بين الحق والواجب، بين الإنتاج والاستهلاك، بين الدنيا والآخرة، دورة ضبط النسب، حلول العدل، محل الإحسان، وهنا تصل الحضارة إلى قمتها، وتبدأ مرحلة السقوط، إذا لم تستدرك ما يتسرب لها من أمراض.
* والدورة الحضارية الثالثة، أو مرحلة ما قبل السقوط النهائي، هي مرحلة غياب الإيمان وبروز الشهوة، والغريزة، وانكسار الموازين الاجتماعية، واستباحة كل شيء وبكل الأساليب وعندها تسقط الحضارة، وتموت الأمة، ويتم الاستبدال”.([3])
وإذا كنّا نقول اليوم بسقوط وهلاك الحضارة الرأسمالية الغربية فلسنا من الحالمين بأنّ ذلك كائناً في الغد القريب –إلا أن يشاء الله شيئاً- إنّما نقول فقط إنّها مقضي عليها بالسقوط حسب سنة الله تعالى لما تشتمل عليه من عوامل السقوط والانهيار.. وأمّا سرعة الانهيار وبطؤه فأمر متعلق بمشيئة الله تعالى وإرادته.([4])
لقد تسلَّم الرجل الغربي قيادة البشرية بعد أن خاض معركة قاسية ضد الكنيسة ودينها ورجالها، أسفرت عن تنحية الدين جانباً، وعزله عن شئون الحياة كلها، بل والسخرية منه والكفر بالله رب العالمين.
وكان من نتائج ذلك إفلاس الحضارة الغربية وإشقاؤها لأهلها لأنها: أرادت أن تطير بجناح واحد، هو الجناح المادي، وأنّا لها ذلك، يقول برناردشو: “كنت أعرف دائماً أن الحضارة تحتاج إلى دين، وأن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك”. ويقول الكاتب الإنجليزي ” كولن ولسون” في كتابه (اللا منتمي):إنّ الحضارة المعاصرة حضارة ذات تطور ميكانيكي عال استمر ثلاثة قرون يصاحبه فراغ كبير لا تعرف الحضارة كيف تنفقه.([5])
ولقد تحدث كثير من مفكري الغرب عن بوادر انهيار الحضارة الغربية وسقوطها، وننقل هنا أقوال بعض هؤلاء المفكرين:-
– يقول الفيلسوف الإنجليزي “برتراندرسل”: “لقد انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، وبقاء تلك السيادة إلى الأبد ليس قانوناً من قوانين الطبيعة، وأعتقد أن الرجل الأبيض لن يلقى أياماً رضية كتلك التي لقيها خلال أربعة قرون”([6]).
– ويقول الدكتور ألكسيس كاريل في كتابه: “الإنسان ذلك المجهول”: “إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولّدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم، ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت لمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا”.
– وتحدث “جون فوستر دالاس” وزير خارجية أمريكا الأسبق في كتابه “حرب أم سلام” عن إفلاس الحضارة الغربية، وسبب ذلك: نقص الإيمان الصحيح القوي، وهو النقص الذي لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثُرت اختراعاتهم.([7])
– ويقول المفكر ليبولد فلم دانز في كتابه: “الإنسان والضمير المأسوي الممزق”: “إن الإنسان المنتمي إلى عصرنا هذا لا يؤمن بشيء، ولا يفكر، أو أنه لم يفكر بعد، ولكنه يعلم كثيراً، إن نهاية المسيحية تشمل أيضاً نهاية الأيدولوجيات الأخرى كالماركسية، التي تجتاز من أجل ذلك أزمة عميقة، وإن هذه الأزمة ليست أبداً علامة حياة بل علامة موت”.
– ويقول المفكر لاموني: “إن الجنس البشري بكامله يمشي بخطى حثيثة إلى الهلاك، إنه في النزاع الأخير، كذلك الإنسان الجريح المسكين الذي لا يرجى له شفاء. فكثرة الأخطاء في حضارتنا تجرها إلى الغرق”.([8])
– ويقول ماكنيل: “إنّ الحضارة الغربية في الطور الأخير من أطوار حياتها، الأشبه بالوحش الذي بلغت شراسته النهاية في انتهاكه كل ما هو معنوي، وبلغ اعتداؤه على تراث السلف وعلى كل مقدّس ومحرم -يقصد الدين والأخلاق- قمته ثم أغاص مخالبه في أمعائه فانتزعها، وأخذ يمزقها، ويلوكها بين فكيه بمنتهى الغيظ والتشفي”.([9])
إذاً السبب الأكبر في انهيار الحضارة الغربية هو بعدها عن الدين الحق الذي ارتضاه الله تعالى للناس: (إن الدين عند الله الإسلام)، ومن ثمّ الإعراض عن منهج الله تعالى عملاً وتطبيقاً في واقع الحياة، والاستكبار عن عبادة الله عز وجل، وعبادة آلهة أخرى من دونه تعالى، كعبادة المادة، أو العلم ومخترعاته، أو عبادة الإنسان لنفسه، أو عبادة التقدم والعقل والطبيعة.
– ظهر في أمريكا كتاب بعنوان: “يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة” وهذا الكتاب هو دراسة قامت على إحصاءات، واستبيانات، وأرقام من واقع المجتمع الأمريكي، ويتضمن هذا الكتاب نتائج مفزعة، مخيفة بالنسبة للأمريكيين، يقول عن هذا الكتاب “إلكس هلي” مؤلف كتاب آخر: ” كتاب مفزع عندما أنهيت قراءته؛ لم أعرف ماذا أفعل، هل أصدع بالحقائق- أي التي فيه- أم أركض للتلال وأختبئ؟ إنه يعرض لنا حقائق عن أنفسنا لم نشاهدها في أية دراسة، أو في استطلاعات الرأي، ولا حتى في الأحاديث الشخصية “. و قالت صحيفة “نيويورك ديلي نيوز” عن الكتاب كلمة واحدة: ” نتائج مفزعة “.
يقول سعد جمعة رئيس وزراء الأردن الأسبق في كتابه “الله أو الدمار”([10]): “إن المفكرين الغربيين على اختلاف نزعاتهم -باستثناء قلة ضئيلة من الملحدة الماديين- يعتقدون أن سبب الضياع الوجداني والعقم الروحي اللذين أصبحا طابع الحضارة الغربية المعاصرة التي أوشكت إلى الاندثار والدمار هو غياب الدين، وأن الحل الوحيد لإنقاذ تلك الحضارة هو الحل الديني، وينقل عن بعض هؤلاء المفكرين أقوالهم في ذلك، ومن هؤلاء: رئيس أكاديمية نيويورك السابق الذي يقول: “إن حضارتنا تنتحر لغياب الوازع الديني، وسوف يجيء يوم قريب، يتحوّل فيه النظام إلى فوضى، وينعدم التوازن وضبط النفس، ويتفشى الشر في كل مكان، ويبدو أن الأمور لن تستقر إلا بالعودة إلى الله”. ومن هؤلاء: “جوليا غرين” الفيلسوف الإنجليزي الذي يقول: “إن ظاهرة هذا الجيل هي الانحلال والتفسخ، وأن لا شيء ينقذ الحضارة الغربية إلا الانعتاق والتغلب على نوازع الجسد بالتأمل الروحي والارتداد إلى الدين، الذي يستطيع وحده أن يحل في النفس البشرية السكينة والأمل محل القلق والتمرد”.
ويرى الأستاذ سيد قطب أن من أسباب انهيار الحضارة الأوربية المعاصرة أنها حضارة منبتة -منقطعة- عن الله تعالى، ومنبتة عن منهجه للحياة، وأنها لم تستطع أن تعطِ الإنسان التفسير الواحد الصحيح لحقيقة هذا الكون وعلاقته بخالقه عز وجل، ولغاية وجوده الإنساني ووسائل بلوغها المشروعة، لقد حصل فصام نكد بين الدين والحياة، وبين عالم المادة والروح، وبين العلم والدين.
ويضيف إلى ذلك سبباً آخر: إنه الخواء الروحي الذي ينخر في روح الحضارة الغربية، ففي ظل هذا الخواء تختـنق روح الإنسان، وتهدر قيمته، وتنحدر خصائصه، بينما تتكدس الأشياء وتعلو قيمتها، وتطغى على كل قيمة للإنسان.. إنه الخواء الذي يهدد هذه الحضارة بالنكسة والانحدار، على الرغم من ضخامة الإنتاج المادي والفتوح العلمية، والتقدم الصناعي([11]). ويكفي أن نعلم أن في أمريكا أكثر من ستمائة (600) مذهب وطائفة دينية كلها تبث روح اليأس والإحباط في نفوس أتباعها.
إن الخواء الروحي جعل البشرية تعاني من الشقاء والتمزق الداخلي، والتوتر العصبي والفزع، ومن ثم محاولات الهروب من الحياة إلى الكحول والمخدرات وأخيراً إلى الانتحار الذي أصبح موضة لدى كثيرين من ضحايا الخواء الروحي والفراغ العقائدي. يقول آرثر شوينهار: “إن الحياة تتأرجح من اليمين إلى اليسار، من الألم إلى الملل، وليستغث هذا الغرب المسكين إلهه إذا شاء. إنه سيظل فريسة مصيره، فالقدر لا يرحم”([12]). ويقول الدكتور ألكسيس في كتابه “الإنسان ذلك المجهول”([13]): “إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإن البيئة التي أوجدها العلم للإنسان لا تلائمه، لأنها أنشئت دون اعتبار ذات الإنسان”.
ويقول “آرثر ميللر” متحدثاً عن أمريكا الحديثة: “إن مشكلة انحراف الشباب لا تنتمي فقط للمدن الكبرى بل إلى الريف أيضاً، إنها ليست مشكلة الرأسمالية فحسب، بل الاشتراكية أيضاً…إنني أعتقد أن المشكلة -في وضعها الراهن- هي نتاج التكنولوجيا التي دمّرت الإنسان كقيمة من ذاته…وباختصار: لقد اندثرت الروح وتلاشت”([14]).
يقول الرئيس الأمريكي السابق “ولسون” قبل وفاته بأسابيع قليلة: “إن حضارتنا لا تستطيع الاستمرار في البقاء من الناحية المادية، إلا إذا استردت روحانيتها…هذا هو التحدي النهائي لكنائسنا ومنظماتنا السياسية، وللرأسماليين عندنا، ولكل فرد يخاف الله، أو يحب بلده”.([15]) إنّ تحذير الرئيس ولسن لن يفيد أمريكا شيئاً، فالكنائس النصرانية ليس لديها شيء من الدين الحق، فكل ما لديها مجموعة من الخرافات والأساطير التي أفسد بها بولس النصرانية، إنه دين لا يصلح الفرد ولا الحياة الإنسانية.
وإذا كانت أمريكا هي ربة الحضارة الغربية وسيدتها، فلننظر في حياة القوم هناك، ولنلاحظ الشقاء الذي وصل إليه المجتمع الأمريكي، إنّه شقاء ينذر بقرب وقوع كارثة السقوط، التي نرجو أن تكون قريبة، وأن غداً لناظره قريب. وإليك نماذج من مظاهر الشقاء في الحياة الأمريكية.
* ففي أمريكا ربة النظام العالمي الجديد:-
– تعاني أمريكا انحطاطاً ثقافياً: يقول المفكر الفرنسي الكبير المسلم روجيه جارودي في كتابه ” أمريكا طليعة الانحطاط ” والذي صدرت طبعته الأولى عام 1999م:” إنّ انحطاط الثقافة في الولايات المتحدة ينبع من تاريخ ذاتها وتكوينها، لأنّ الثقافة هناك لم تلعب أي دور منظم في حياة المجتمع الأمريكي كما هو الحال في أوروبا ، وذلك أنّ سكان أمريكا باختلاف ثقافاتهم وأديانهم وأوطانهم وأصولهم لم يربط بينهم رابط سوى البحث عن عمل وكسب المال ، ويقول ص (48): وقد اكتشف (توكفيل) الحقيقة وكان أول مٍِِحلل ومراقب ثاقب البصيرة للولايات المتحدة منذ عام 1840 في كتابه الإسلامي عن هذه الدولة وكانت لا تزال وليدة حين قال : ( لم أعرف شعباً مثل هذا الشعب استولى فيه حبّ المال على قلوب البشر، إنّه شعب من شراذم المضاربين والمقامرين)، واليوم نستطيع أن نعثر في تاريخ هذا الشعب على أسس انحطاط ثقافته)”.
– وأمّا بالنسبة لتعليم: فالنظام الأمريكي يعتبر في الحضيض، فقد أظهر تقرير المتخصصين من جامعة كولومبيا أن 40 % من الشباب الأمريكي الذين يدرسون في كليات اعترفوا بعدم قدرتهم على القراءة على نحو جيد، وهناك 23 مليون شاب أمريكي أمي (حسب تقرير صادر في جلو بال ايكوتومي 1990).
– حسب الإحصائيات القديمة 4 أشخاص من كل ألف شخص نزلاء في مستشفيات الأمراض العقلية، وفي مدينة هوليود أكبر نسبة من عدد الأطباء النفسانيين في العالم.
– يقول د. ألكسيس كارل: “في بعض ولايات أمريكا يزيد عدد المجانين الذي يوجدون في المصحات على عدد المرضى الموجودين في جميع المستشفيات الأخرى. وكالجنون، فإن الاضطرابات العصبية، وضعف القوى العقلية آخذ في الازدياد، وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد، وتحطيم الأسر.. إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية”([16]).
– حسب التقرير الصحي لسنة 1978م: أن واحداً من كل خمسة أمريكي يعاني من الانهيار العصبي أو هو على حافته، وأن 48 % من الأمريكيين قد عانوا خللاً عقلياً حسب إحصائية عام 1994، وأن عشرة بالمائة منهم قد عانوا من مشكلات الكبت النفسي خلال عام 1993م. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تتمتع بأفضل العيادات والمستشفيات ومراكز البحث في العالم ، فإن النظام الصحي نفسه يعد كارثة حقيقية، ففي وفيات الأطفال تتمركز هذه الدولة في المرتبة الثانية والعشرين على الصعيد العالمي، وحصة الصحة من النفقات العامة تٍُعد الأقل بين الدول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية المعروفة باسمOCDE.
– في سنة 1965م وقعت خمسة ملايين جريمة، ثم ازدادت الجرائم الخطيرة أسرع أربع عشرة مرة من الزيادة السكانية (187 % مقابل 13 %).
– في أمريكا: تحدث جريمة كل 12 ثانية، وجريمة قتل كل ساعة، وجريمة اغتصاب للعرض كل 25 دقيقة – مع أن الجنس مباح– )جاء في كتاب: “يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة” للمؤلفين الأمريكيين : جيمس بات رسون, وبيتر كيم: أظهرت إحدى الإحصائيات أن 19 مليوناً من النساء في الولايات المتحدة كُنَّ ضحايا لعمليات الاغتصاب !!). وفي استفتاء قامت به جامعة (كورنل) تبين أن 70% من العاملات في الخدمة المدنية قد اعتُدي عليهن جنسيًّا. وتقدر (جمعية مناهضة اغتصاب النساء في أمريكا) أنّ 35 حالة تلتزم الصمت مقابل حالة يبلغ عنها. و70% من الطالبات تعرضن لمضايقات جنسية مختلفة خلال فترة الدراسة في الجامعة، مع أنّ 90% من اللاتي تعرضن لمضايقة لم يبلغن الشرطة.
– وفي أمريكا: مليون طفل يولدون سنويا من السفاح، و12 مليون طفل مشرّد في ظروف غير صحية، ومليون حالة إجهاض سنويا.
– وفي أمريكا تحدث جريمة سرقة كل خمس دقائق، وسرقة سيارة كل دقيقة.
– وفي نيويورك وحدها –حسب إحصاءات الشرطة– يقع حادث قتل كل أربع ساعات واغتصاب كل ثلاثة ساعات، واعتداء كل ثلاثين ساعة، مع أنّ نيويورك لا تتبوأ سوى المكانة العاشرة ضمن مدن الولايات المتحدة بالنسبة لانتشار الجرائم، ففي عام 1998 تم إحصاء 21 ألف جريمة قتل في سجل الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ العام 1979م وحتى عام 1991م قتل ما يقرب 50 ألف أمريكي أعمارهم أقلّ من تسعة عشر عاما منهم تسعة آلاف أعمارهم أقلّ من 14 عاما، وأربعون ألفا بين خمسة عشر وتسعة عشر عاماً.
– هناك أكثر من مليون أمريكي في السجون، وأكثر من ثلاثة ملايين تحت المراقبة، هذه هي نتائج اقتصاد سوق مفترس بلا هوادة يحكم– كما كتب “هوبز” في كتابه ” فجر الرأسمالية “– بمنطق “حرب الكل ضد الكل “وهو منطق ونظام الحرب.
– وحسب إحصائية سنة 1963م: فإنّ عدد الشباب المسجلين كمدمنين للهروين في مدينة نيويورك وحدها تجاوز 23 ألف شاب، وعدد غير المدمنين يزيد على مائة ألف، وفي كلية “هنتر” بنيويورك أكثر من نصف الطلاب يتعاطون الحشيش. الذين يتعاطون المخدرات في أمريكا -حسب إحصائية 1978م- 49 % من الشعب الأمريكي. وقدِّرت -حسب إحصائية 1991م- حجم التجارة الداخلية للمخدرات في أمريكا 190 مليار دولار سنوياً، مع العلم بأن الدولة -منذ سنة 1992م- تنفق 30 مليار دولار سنوياً في محاربة هذه التجارة. ([17])
يقول المفكر الفرنسي الكبير المسلم روجيه جارودي: “نجد اليوم إنّ الركيزتين الأساسيتين، والأكثر صلابة وقوة في توسع السوق هما: المخدرات والسلاح، حيث يتساوى حجم المخدرات ماليا مع حجم تجارة السيارات والصلب داخل الولايات المتحدة الأمريكية، كما ويتزايد الاستهلاك يوميا مع افتقاد أي معنى للحياة وتفشي البطالة، والإقصاء.. وأصبحت الغاية الوحيدة لاستهلاك المخدرات هي الإحساس بسعادة التسوق في السوبر ماركت التي تسمح بها”.([18])
– جاء في كتاب🙁يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة) للمؤلفين الأمريكيين: جيمس بات رسون, وبيتر كيم ما يلي: ص 21: الأنموذج المثالي للطفولة انتهى. نسبة مروعة من الفتيات الأمريكيات يفقدن بكارتهن قبل سن الثالثة عشرة. نسبة 20% من النساء اللاتي شملتهن هذه الدراسة اعترفن لنا بأنّهن قد اغتصبن من قِبَل أصدقائهن, 42% من الأمريكيين اعترفوا بأنهم قد تعرضوا لاعتداءات جنسية شرسة وقاسية. ص 22 :إنّ ما نسبته 1 إلى 5 من الأمريكيين- رجال ونساء – لديهم تصورات و أحلام وتخيلات ذات علاقة بالشذوذ الجنسي، ونفس الصفحة : يقول الأمريكيون والأمريكيات: على الرغم من أننا لا زلنا نتزاوج, إلا أننا فقدنا الثقة في الزواج نفس الصفحة : هناك انحلال وتدهور فيما يتعلق بالاهتمام بالأسرة وطاعة الوالدين. ص 65: 29% من نساء أمريكا كنّ أبكاراً ليلة زواجهن. والباقي ؟! في ص 70: نسبة 1 إلى 4 من الأمريكيات تخون زوجها بينما الرجال 1 إلى 3. وفي ص 75 :61% من الفتيات الذين تتراوح أعمارهن بين 18و 24 سنة قلن بأنهن فقدن عذريتهم قبل بلوغهن السادسة عشرة .
– وفي الكتاب المذكور ص 106: حوادث الانتحار المسجلة رسميا هي 30.000 حالة سنويا وهذا الرقم أقل من الرقم الحقيقي لحوادث الانتحار.
– في نيويورك مليون ومائتا ألف شاذ جنسياً، وفي جامعة لوس أنجلوس بولاية “كاليفورنيا” بلغت نسبة الشاذين جنسياً من الطلاب والطالبات 84 %، ويكفي أن تعلم أنه يوجد في أمريكا أكثر من 652 مستشفى للأمراض الجنسية. و85 – 95% نسبة المرأة الأمريكية العاملة في قطاع الدعارة
– نشرت دائرة المعارف البريطانية معلومات عن الأمراض الجنسية المنتشرة في أمريكا سنة 1940م، فذكرت: أن 90 % من الشباب الأمريكي مصاب بالزهري، 60 % مصاب بالسيلان، 40 % مصاب بالبرود الجنسي.
– في عام 1962م صرح الرئيس الأمريكي جون كندي أن 7ر85 % من الشباب الأمريكي غير صالحين للخدمة العسكرية، لأن الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
– إن نصف مليون اتصال جنسي مدفوع الأجر يتم يومياً في أمريكا، وإن مهنة الدعارة تأتي في المرتبة الثانية في المهن التي تتمنّاها الفتاة الأمريكية. وحسب إحصائية رسمية أمريكية فإن 85 % من الفتيات الأمريكيات أعمارهن ما بين 14-21 عاماً يحلمن بأن يصبحن عاملات في الدعارة والعهر.([19])
– لقد نشرت الصحف الأمريكية صورة لأحد الشباب الأمريكي وعمره في الحادية والعشرين تزوج جدته وعمرها سبع وسبعون سنة، وتم عقد النكاح في الكنيسة في قرية قرب لوس أنجلوس.([20])
– يقول القس الأمريكي “د. جيري فالويل” في كتابه” (اسمعي يا أمريكا): “لدينا إحصاءات مرعبة عن حوادث الطلاق وتدمير الأسرة والإجهاض وجنوح الناشئة، والفوضى الجنسية، وتعاطي المخدرات، وجرائم القتل، إنني أشاهد حطام الإنسان، والأرواح المهدودة بأكداس تفوق الإحصائيات”.([21])
– ومن مظاهر انحطاط القيم والمواقف والمعايير لا يتقنها إلاّ الرؤساء الأمريكيون، ما ذكره الفيلسوف جارودي في كتابه “أمريكا طليعة الانحطاط” إلا إنّه مثال يؤكد انحطاط أمريكا شعبا وحكومة، فلقد أوردت صحيفة “يديعوت أحرونوت ” الإسرائيلية في عددها الصادر يوم الجمعة 4/1/2002م وعلى صفحتها الأخيرة صورة للرئيس الأمريكي السابق كلينتون، وهو واقف وأمامه يقف منتصبا كلبه الشخصي– الذي مات دهساً قبلها بأيام – على رجليه الخلفيتين، وينتصب كلينتون في شبه زاوية قائمة، حيث يقبل الرئيس كلبه قبلة حارة بل إن الرئيس كلينتون قد أسمى كلبه باسم “بادي”، ولقد اختار هذا الاسم ليخلد اسم عمّه “بادي” الذي مات مطلع العام 1997م فاقتنى هذا الكلب بعد بضعة أشهر من موت عمّه وسماه باسمه تخليداً لذكراه بدل تسمية أحد الأحفاد تخليدا لذكرى الأجداد، نعم إنّه الانحطاط في أجلى معانيه أن يحترم العم بأن يسمى كلب باسمه، إلاّ أنّ العجب يزول إذا كان هذا يحصل في أمريكا طليعة الانحطاط. وبعدها فقط بخمسة أيام نشرت صحيفة “هآرتس” في عددها يوم 9/1/2002م صورة الرئيس بوش– خليفة كلينتون– وهو يحمل كلبيه، أمّا الكلب “بارني” فيحمله على يده ويضمّه إلى صدره وأمّا الكلب “سبوت ” فيجرّه بحبل بيده؟؟.
تلك هي حضارة أمريكا التي قربت من الأفول، الحضارة التي يعيش الإنسان في ظلها وهو محروم من السعادة والهناء، على حين أنّ الحيوان يعيش حياة يغمرها السرور والفرح، كما أشار إلى هذه الحقيقة “برتراندرسل”، وصدق الله تعالى إذ يقول: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً) سورة طه:124.
(*) وزير الأوقاف والشئون الدينية في غزة سابقا، وأستاذ العقسدة الإسلامية.
الهوامش:
[1]– التمكين ص 279-281.
[3]– في مقدمته لكتاب المستقبل للإسلام: الدكتور أحمد علي الإمام، في سلسة كتب الأمة -السادس والأربعون- إصدار مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر.
[4]– رؤية إسلامية لأحوال العالم الإسلامي محمد قطب ص 211.
[5]– الإسلام ومستقبل البشرية د. عبد الله عزام ص 16.
[6]– المستقبل لهذا الدين سيد قطب ص 47.
[7]– المستقبل لهذا الدين ص 67-68.
[8]– الإسلام ومستقبل البشرية ص 15-16.
[9]– المصدر السابق ص 19.
[10]– الله أو الدمار ص 209.
[11]– انظر المستقبل لهذا الدين ص 52-54.
[12]– الإسلام ومستقبل البشرية ص 21.
[13]– المصدر السابق ص 44.
[14]– الإسلام بين الشرق والغرب علي عزت بيجوفيتش رئيس البوسنة والهرسك ص 121.
[15]-المستقبل لهذا الدين ص 73.
[16] الإنسان ذلك المجهول ص 330.
[17]– انظر الإسلام بين الشرق والغرب ص 117، 120، 122.
[18]– أمريكا طليعة الانحطاط: روجيه جارودي، تقديم كامل زهيري وتعريب عمرو زهيري، دار الشروق، الطبعة الأولى 1420ه-1999م، ص 42.
[19]– هل ستسقط أمريكا؟ كما سقط الاتحاد السوفيتي ممدوح الزوبي، صفحات متعددة في الكتاب.
[20]– الإسلام ومستقبل البشرية ص 30-33.
[21] التمكين للأمة الإسلامية ص 284.