بقلم الأستاذ عماد سعد إبراهيم(*)
أتانا رمضان والنفوس إليه متشوقة، والقلوب إليه متلهفة، ها نحن نعيش الآن أجمل أيام العام في شهر الخير، الذي جمع معاني الدين بأكملها، شهر الذكر والقرآن، شهر البر والإحسان، شهر الإرادة والصبر، شهر الإفادة والأجر، شهر الطاعة والتعبد، شهر القيام والتهجد، شهر صحة الأبدان، شهر زيادة الإيمان، نعيش في أرجائه صورا عظيمة، مساجد ممتلئة بالمصلين، وذاكرين ومرتلين، ومنفقين ومتصدقين، نسمع ترتيل القرآن في المحاريب، وبكاء المبتهلين في الدعاء، فيزداد بذلك التنافس ويعظم العزم، وتُقبل النفس. {وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ} (المطفّفين – 26).
وفي ظل ما تعيشه الأمة الإسلامية من نكبات وويلات، وفرقة وشتات، وتسلط للأعداء في بقاع الأرض، لا شيء يوحدها مثل شهر رمضان الكريم، المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يتفقون على تعظيم شهر رمضان، يجتمعون فيه على العبادة والطاعة كما أمرهم المولى عز وجل وإن اختلفت مظاهر الاحتفاء.
مفهوم الأمة في الإسلام
إن مفهوم الأمة في الإسلام، هو مفهوم قرآني موجود في سياق محكم، وهو ليس مجرد اسم أو مصطلح أو لفظ، بل هو وعاء معرفي جامع، والأمة هي مركز ثقل البشرية بما تحمله من قيم عقدية وأخلاقية سماوية تجعلها ملتقى كل الأجناس والأعراق واللغات، وتجعلهم في بوتقة واحدة، يشد بعضهم بعضا، فتربط بين أوصارهم وآمالهم وتزيد وتعمق التفاهم بينهم، كما توحد المشاعر والمدارك بينهم حتى يصبحوا وكأنهم جسد واحد. أمة لا تفرقها حدود جغرافية أو عرقية أو غيرها، الكل بداخلها علي اختلاف الجماعات البشرية صبغ بعقيدة الإسلام ومتمسك بقيم القرآن الشاملة والكاملة والممتدة إلي الدار الآخرة، وقد وضع الله سبحانه لهذه الأمة وظائف وخصائص مميزة تمهد لها الطريق لأن تقوم بدور الدعوة والاستخلاف، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}_ (آل عمران _110).
تجليات وحدة المسلمين
وتتجلى معاني وحدة المسلمين وتوحيد كلمتهم ورص صفوفهم في هذا الشهر الكريم، شهر الألفه والاجتماع والمحبة مع أن هذا أصل من أصول الدين إلا أن هذا المعنى يظهر جليا في هذا الشهر، شهر واحد، وصيام واحد، وإمساك واحد، وإفطار واحد، وصلاة بعد العشاء واحدة، وقبل ذلك: قرآن واحد، وإله واحد، ونبي واحد..فلا يوجد هنا موضع قدم للفرقة والتشرذم!!
إن أعظم معنى يتحقق في هذا الشهر هو تقوى الله سبحانه وتعالى – { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( البقرة – 183)، وقد أمرنا الله – سبحانه وتعالى – بوحدة الصف، هذا الركن العظيم الذي قد يظنه كثيرا من المسلمين أنه أمر طارئ، وأن الأصل في المسلمين الفرقه ونحتاج إلى توحيدهم ، كلا وحاشا، فالأصل في أمه الإسلام أنها أمه واحده { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} ( آل عمران – 104)، وقد حذر الله – سبحانه وتعالى – عن التنازع، فقال: {وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ( الأنفال – 46). أي: فتذهب قوتكم وغلبتكم ونصركم وتمكينكم ومنعتكم، كما حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الفرقة وحثّنا علي الوحدة في الحديث الشريف “إياكم والفرقة وعليكم بالاجتماع”. وما وصل إليه المسلمون الآن ليس إلا بسبب هذا التفرق وهذا التمزق والتنازع، وهذا الابتعاد عن حقيقة هذا المقصد العظيم: وحدة الأمة.
ومن يتمعن في كتاب الله عز وجل، وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وسيرته العطرة والتاريخ الإسلامي، يجد أن أسباب النصر والتمكين ورفعة هذا الدين ونهوض الحضارة الإسلامية لا يعتمد على الأسباب المادية فقط، فكل الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا الدين ونصرة الإسلام والمسلمين كلها معنوية بالأساس، وما يتعلق بالأسباب المادية قد أوجزها الأستاذ – سيد قطب – رحمه الله، في كتابه – معالم في الطريق – عندما قال: “إن هذه الأمة لا تملك الآن – وليس مطلوباً منها – أن تقدم للبشرية تفوقاً خارقاً في الإبداع المادي، يحني لها الرقاب، ويفرض قيادتها العالمية من هذه الزاوية.. فالعبقرية الأوروبية قد سبقته في هذا المضمار سبقاً واسعاً. وليس من المنتظر – خلال عدة قرون على الأقل – التفوق المادي عليها! فلا بد إذن من مؤهلٍ آخر! المؤهل الذي تفتقده هذه الحضارة!..إن هذا لا يعني أن نهمل الإبداع المادي، فمن واجبنا أن نحاول فيه جهدنا. ولكن لا بوصف ” المؤهل” الذي نتقدم به لقيادة البشرية في المرحلة الراهنة، إنما بوصفه ضرورة ذاتية لوجودنا”.
وحدة الأمة في عيون أعدائها
أيقن أعداء هذا الدين أنهم لن ينتصروا على الإسلام والمسلمين بقوة السلاح إطلاقاً، وأن حضارتهم في خطر إذ لم يفعلوا أمراً واحداً، أن يعملوا على غرس الفرقه بين الأمة الإسلامية، وعليهم العمل بكل جهد علي إعاقة ومنع تمكين الأمة الإسلامية من الوحدة وهذا ما نراه بأم أعيننا ونعيشه الآن، وما اتفاقية – سايكس بيكو – ببعيدة، التي قد يظنها كثير من المسلمين أنها صَنعت حدود جغرافية بين الدول العربية والإسلامية وفقط. قد يبدو هذا في الظاهر.
لكن في حقيقة الأمر أن هذه الإتفاقية وهذا المكر الذي عملوا عليه ليل نهار قد أنشأ مبادئ وأفهاما وسياسات وأفكارا جديدة مُستغربة بين الشعوب العربية والإسلامية فأصبح التباين ليس فقط من قبيل الجغرافيا والحدود، أو تباين وتنازع في كثير من القضايا المهمة، فبعد سقوط الدولة العثمانية كان المشروع الأساسي للاستعمار الغربي: هو تمزيق وحدة الأمة الإسلامية، وتقسيمها إلى دويلات متناثرة؛ لتضعف قوَّتها، وتتشتت طاقاتها، وتذهب ريحها، ومن ثَمَّ يسهل احتواؤها والسيطرة عليها.
ولكي يضمن الغرب استمرار هذا التمزق والاختلاف أثار النزعات القومية ليفصل العرب عن عمقهم المعنوي ومحيطهم الإسلامي، ثم زرع النعرات الوطنية ليعزل الدول والشعوب العربية عن بعضها. ولم يتوقف المشروع الاستعماري عند هذا الحد؛ فالغرب يستثمر الفرص تِلْو الأخرى؛ لتقسيم المقسَّم وتجزيء المجزأ، وإنهاكه بالصراعات الانفصالية التي تستنزف قوَّته ومقدَّراته الاقتصادية والتنموية، وتغلق دونه كل أبواب التحضر والنمو، ومشاريع التقسيم في السلة الغربية كثيرة تثار على استحياء بين آونة وأخرى، والسلسلة طويلة يجر بعضها بعضاً.
وهذا مايعمل عليه أعداء هذه الامة ليل نهار؛ لأنهم يرون أن وحدة الأمة الإسلامية في دولة عربية واحدة تُعتبر لعنة على العالم بأسره.! تأملوا كيف يفكرون أن وحدة الأمة الإسلامية لعنة على العالم بأسره من وجهه نظرهم، مع أن الإسلام عندما جاء – كما قال ربعي بن عامر، رضي الله عنه – “لنخرج من شاء من عباده العباد إلى عباده رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”، فهم يخشون من المسلمين إذا اتحدوا، ولهذا فإن القاعدة التي يمشون عليها هي: “فرق تسد”، وهذه حقيقة فقوة المسلمين ومنعتهم وغلبتهم في وحدتهم.
***
وختاماً نقول: إن الدعوة إلى وحدة الأمة الإسلامية ليست مشروعاً عاطفياً أو أُمنِيَة بعيدة المنال، ضعيفة الأثر، بل هي نداء صادق لتجميع طاقات الأمة، ولمِّ شملها، وتوحيد صفوفها، وأن التفريط في وحدة الأمة وتماسكها نازلة خطيرة تستدعي من أهل الإسلام أن يكونوا على مستوى الحدث، وأن يتخذوا ما أمكن من الحيطة والحذر.
ولقد حصدت الأمة مرارة التفرق والانقسام، وأصابها الوهَن والعجز، وأصبحت مهيضة الجناح، ومستنزفة تحت مطارق الهيمنة الغربية، ولا يمكن أن تخرج من هوانها وتخلُّفها إلا بالرجوع إلى أصولها العقدية وجذورها التاريخية، وتعض عليها بالنواجذ، لعل الله يسخر لهذه الغاية رجالا أقوياء أمناء يحملون هذه الأمانة بكل فخر، وأن يقر أعيننا بأمة موحدة يُمَكّن فيها لدين الله.{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا } ( الإسراء – 51 ).
(*) باحث مصري في الشأن السياسي والاجتماعي.