غزة تُسقط مشروع الضرار

بقلم د. عبدالله الغيلاني(*)

لن نسأم التأكيد على أن معركة طوفان الأقصى هي أحد أبرز الملاحم في تاريخ الأمة، فهي الملحمة الأبرز في مسيرة الصراع مع اليهود منذ نيف وسبعين عاماً، وحريٌ بهذه الملحمة أن توضع في مصاف اليمامة ونهاوند وحطين.

ليست العبرة في نتائج الحروب بأعداد القتلى والمصابين، ولا بحجم الغنائم والأسلاب، ولكنها بحجم التحولات الجيوسياسية التي نعقبها كثمرة من ثمار تلك المعركة، ونتيجة من نتائجها.

ما يعقب المعركة من تداعيات وما ينجم عنها من تحولات هو المعيار الذي به تُقاس مركزية المعارك.

لا أقول إن الطوفان قد أعاد للقضية الفلسطينية وهجها، فهي ما فقدت وهجها قط، ولكنه أعاد تموضع القضية الفلسطينية في الحسابات الجيوستراتيجية الإقليمية والدولية، رغم مركزيتها في الوجدان الجمعي العربي.

انتهت قضية فلسطين إلى شلو ممزع تتنازعه سلطة فلسطينية مسلوبة القرار، وحكومة صهيونية استئصالية غاشمة، ونظام عربي سقيم الطوية، يدور مع المؤشر الأميريكي حيث دار، وقد طوع فائض القوة لديه لوأد القضية الفلسطينية، ولن يتحقق ذلك إلا بوأد المقاومة التي أربكت مراسيم الوأد، وأحبطت مساعي الاستئصال.

فجاء مشروع الضرار الذي تولت كبرَه واشنطن، وصيغت مضامينه في أقبية أجهزة التفكير (Think Tanks) ثم صممت استراتيجيات التنفيذ في مراكز صناعة السياسات، ثم أحيلت الخطط التشغيلية للشركاء الإقليمين، وبعد أن علم كلٌّ موقعه، وشرع في الوفاء بالتزاماته، وازّينت الأرض، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، تحدر الطوفان، فجرف معالم المشروع، وأتى على بنيانه من القواعد، وجعله خبراً بعد عين.

كان المشروع يقوم على ثلاثة مرتكزات نسفها الطوفان نسفاً، فجعلها قاعاً صفصفا:

المرتكز الأول: تصفية القضية الفلسطينية وتحويلها إلى نزاع إجرائي حول مسائل هامشية بين السلطة وإسرائيل، ولكن بند التصفية هذا يقتضي تجريم المقاومة، ودك حصونها، فحوصرت الحالة الجهادية في القطاع، وحرمت حاضنتها الشعبية من كل أسباب الحياة، وجلب النظام الإقليمي على حركة المقاومة بخيله ورجله، ورمتها العرب عن قوس واحدة، حتى غدت حماس مرادفاً للإرهاب، وكتائب القسام معادلاً لعصاباب الجريمة. فجاء الطوفان ليبدد اليأس وينزع الوهن، وليقلب المعادلة رأساً علي عقب، ويفرض معادلة أخرى انكسرت أمامها خطةُ الضرار وتبعثرت مكوناتها؛ ليبزغ فجر فلسطين، وتغدو واسطة العقد في الرؤية الاستراتيجية الإقليمية.

المرتكز الثاني: دمج إسرائيل في الفضاء الإقليمي، وحقنها في الجسد العربي؛ لتصبح جزءاً منه على أن تحتفظ بخاصية التفوق والعلو، فبدأت مشاريع التطبيع تترى برعاية أميريكية حثيثية، واستجابة عربية بادية التعثر، ولكنها منتظمة الخطى، فجاء الطوفان ليزيل غشاوة الشعوب، ويهدر حجج التطبيع، ويبطل كل مسوغات التقارب مع الصهاينه، ويفرض معايير أخلاقية وسياسية جديدة، هنالك أسقط في أيدي القوم، وطاشت سهامهم، وانزوى التطبيع في الخطاب السياسي العربي حتى لا تسمع له ركزاً.

المرتكز الثالث: إعادة تشكيل الوجدان العربي بهدم المحتوى العقدي، وتفكيك البناء القيمي، وتمزيق الرابطة الإيمانيّة؛ ليغدو وجداناً منقطع الصلة بجذوره العقدية وموجهاته الأخلاقية؛ لينشأ على تلك السجايا جيلٌ عابث منصرف إلى اللهو، لا يرى حرجاً في التفاعل مع الصهاينة، وكانت البداية بمناهج التعليم، ثم منابر تشكيل الوعي (خطب الجمعة)، وضبط الخطاب الإعلامي، وحسب القوم أنهم قد أنجزوا رسالتهم، وحققوا مراميهم وبلغوا غايتهم، فجاء الطوفان ليفاجئهم بما لم يكونوا يحتسبون! فإذا بهم أمام جيل شديد البأس، قوي الشكيمة، جسور الطبع، وثيق الصلة بمعتقده ومقدساته، ولو وجد ثغرة لنفذ منها.

هكذا أسقطت غزة مشروع الضرار بأركانه الثلاثة، وهكذا أعادت للأقصى مركزيته العقدية والسياسية، وهكذا غيرت موازين القوى، وما الذي ذكرتُ إلا غيض من فيض……. والعاقبة للتقوى.


(*) أكاديمي عُماني، وباحث في الشؤون الاستراتيجية. حصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة درهام في بريطانيا.

اترك تعليق

  1. يقول Lakel kheira:

    النجاح في تغريب الجيل عن القضية نجح بشكل كبير في دول ااخليج خاصة السعودية المتقوقعة بمناهجها التعليمية خاصة حول نفسها وهذا ما لمسناه خلال تواجدنا بها مدة ثلاث سنوات جهل تام بالقضية ومنع الحديث عنها ولا تعاطف الا من قليل