تأملات في الحروب الحديثة: (حين يصبح المفكر آخر القلاع)

بقلم الأستاذ أحمد كاسر الحاجي(*)

حين تبتعد الجبهات ويصبح العقل حصن الأمة الأخير

ليست الحروب في عصرنا مجرّد هدير مدافع وصليل سيوف من معدن حديث؛ إنها أفق ممتد من الصراع حيث تختلط أشعة الليزر بأشعة الفكر، وتتنافس الشيفرات البرمجية مع الطائرات المقاتلة على نيل شرف الضربة الأولى. إنّها حقول معركة لم تعد تقتصر على التراب والماء والسماء، بل امتدت إلى فضاءات لا تُرى، يشتبك فيها الموج الكهرومغناطيسي مع خيوط الفضاء السيبراني، في حروب يحكمها الإبهام والدهاء بقدر ما يحكمها الصاروخ والدبابة.
لقد أظهرت المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية في يونيو 2025 أن النصر اليوم لا يولد من فوهة المدفع وحده، بل من نقرات على لوحة مفاتيح، ومن إشارة مخترقة، ومن معادلة في عقل عالم أو مبرمج يغيّر وجه المعركة عن بعد آلاف الكيلومترات. وهنا، يطل السؤال الحضاري: من يحمي هؤلاء العقول؟ ومن يصون النخب الفكرية التي باتت تخوض معارك الأمة من وراء الشاشات والمختبرات؟

حين تصبح العقول كنوزًا سيادية

في قاموس القوى الكبرى، لا تقل مكانة العقل المبدع عن مكانة حامل الراية في ساحة الحرب. الولايات المتحدة تحرس علماءها كما تحرس صواريخها العابرة للقارات؛ تمنحهم الأمن، والموارد، وفضاء البحث الحر، بل وتستورد العقول من كل القارات كما يُستورد الذهب. الصين تعيد أبناءها المبدعين من المنافي ببرامج استعادة الكفاءات، وتنسج حولهم شبكة حماية لا تنفك، مدركة أن من يملك عقول المستقبل يملك مفاتيح التفوق.
أما في أوروبا، حيث الحروب الكبرى ليست على الأبواب، فإن حماية النخب الأكاديمية والثقافية جزء من منظومة الأمن القومي، لأنهم يدركون أن سقوط الجامعات العريقة أشد خطورة من سقوط الحصون.
في هذه الأمم، العقل هو الجبهة، والمفكر هو المقاتل، وحماية النخبة ليست منّة، بل مبدأ من مبادئ السيادة.

إقصاء النخب يعني سقوط الحضارة من الداخل

وعلى الضفة الأخرى من التاريخ، هناك مجتمعات تنخرها سياسات الخوف، فتقصي نخبها، أو تنفيها، أو تسكتها، حتى يصبح الفراغ الفكري هو المهيمن. هنا، يبدأ الاستنقاع الحضاري حيث تتحول الأمة إلى جسد بلا دماغ، وتصبح النهضة حلمًا راكدًا في مستنقع التخلف.
لقد علّمنا التاريخ أن إقصاء النخب يسبق دائمًا السقوط الكبير. فالأندلس التي أزهرت قرونًا، ما لبثت أن ذبلت حين انشغلت بالصراعات الداخلية، وضيّقت على العقول الحرة، فانفرط عقد قوتها. وبغداد العباسية، قبل أن تسقط بيد المغول، كانت قد دخلت مرحلة من الانطفاء الفكري، بعدما أُبعد العلماء عن القرار السياسي، فصار الباب مفتوحًا لرياح الخراب.
إقصاء النخب أشبه بقطع الجذور من تحت شجرة باسقة؛ قد تبقى واقفة لزمن، لكنها ستتهاوى عند أول عاصفة. لكن المأساة في بعض مجتمعاتنا لا تقف عند حدود إقصاء النخب، بل تتجذر في علة أعمق وهي: (التقديس الأعمى)؛ فالشيعي يقدّس آل البيت إلى حد العصمة، والسني يقدّس الصحابة عمليًا حتى يعجز عن مساءلة أي موقف، والصوفي والسلفي يحيطان رموزهم بهالة قداسة تمنع النقد، والعوام يرفعون الحكام أو بعض العلماء إلى مقام لا يخطئ فيه أحد. وهكذا نصبح كتلة متراكمة من الأخطاء المحصّنة ضد المراجعة، فإذا جاء ناقدٌ شجاع، قلّما يحمل مبضع جراح يداوي، بل يأتي بساطور جزار يفتك، فنبقى أسرى دوامة مَرَضية بين تقديسٍ مطلق وتحطيمٍ كامل، ندور حول الرحى ونطحن كل عقل يجرؤ على الخروج عن المسار الوهمي الذي نعيش فيه نشوات كاذبة من الانتصار والحضارة والاستقرار.

فلسفة البقاء: من يحمي العقل يحمي الوطن

الحروب الحديثة توسّع ميادينها إلى فضاءات بعيدة، لكن البقاء الحضاري لا يتحقق إلا إذا صانت الأمة جبهة العقل قبل جبهة السلاح. فمن يملك السماء الرقمية لا بد أن يحمي عقول مهندسيها، ومن يريد السيادة على التخوم البعيدة لا بد أن يحمي من يرسم خرائطها في المختبرات ومراكز البحث.
وكما قال كلاوزفيتز: “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، يمكن أن نضيف اليوم والنهضة استمرار لحماية النخبة بوسائل حضارية. فأمة بلا نخب مصونة، كمدينة بلا أسوار، وكجيش بلا قائد، وكحلم بلا أفق.

على بوابة الغد

إنّ الأمم التي تحرس نخبها تحرس مستقبلها، وتلك التي تفرّط في العقول، إنما تفرّط في وجودها نفسه. في الحروب الحديثة، لم يعد البقاء رهين القلاع الحجرية ولا الأساطيل العملاقة، بل رهين العقول التي تبتكر وتبتدع وتقرأ المستقبل قبل أن يكتبه الآخرون.
لقد أدركت القوى العظمى أن النصر ليس حدثًا لحظة إطلاق النار، بل هو مسار طويل يبدأ من فكرة تومض في عقل مفكر، أو معادلة يخطها عالم في دفتره. أما الأمم التي تحاصر نخبها، فهي كمن يهدم السقف فوق رؤوس أبنائه، ثم يتساءل لماذا يغرق البيت في المطر.
إن أعظم أشكال الانتحار الحضاري هو إقصاء العقول القادرة على إنقاذ السفينة. لذلك، فإن حماية النخب ليست خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل هي أقصى أشكال الدفاع عن الذات، وأول شرط لدخول معركة المستقبل.
فمن يحمي العقل، يحمي الوطن، ومن يصون الفكرة، يصون الحضارة، ومن يرعى النخبة، يزرع بذور النهضة التي لا تذبل مهما اشتدت العواصف.


(*) داعية سوري، وباحث في السياسة الشرعية.

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.