في صُحْبَةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم

مقال بقلم الأستاذ عصام العطار(*)

أعترفُ لكم أنَّني أحِبُّ رسولَ الله صَلّى اللهُ عليه وسلّم، طبعاً كُلُّ مسلم يقولُ ذلك؛ ولكِنَّني أحِبُّهُ مَحَبَّةً حقيقيَّة غامِرَة تَطْغَى على مَحَبّتي لِكُلّ مَنْ سِواهُ مِنْ خَلْقِ الله، وأحِبُّ ما حَبَاهُ اللهُ بهِ مِنْ أخلاق وصِفات لو تَخَلَّق بها المسلمون واتَّصَفوا بها الآن لصلحَ حالُهُم، وتَوَثّقَتْ روابطُهُم، وسعِدوا فيما بينَهُم، وكانوا مِثالاً جَميلاً حَميداً مُؤَثّراً في عالمِهم وعَصْرِهِم..

مَحَبَّةُ الرَّسول – على مُسْتواها الإنسانيّ – لازِمَة من لوازم أخلاقِه وصفاتِه، فَمَنْ أحَبَّ أخلاقَه وصفاتِه أحَبَّه، ومَنِ ادّعَى حُبَّه، وهو لا يُحِبُّ هذه الأخلاق والصفات، أو لا يَعْرِفُها، أو لا يَتَخَلّقُ – أو يُحاولُ التخَلُّقَ-  بها، أو بما يستطيع منها، فمَحَبَّتُهُ زائِفة أو ناقِصَة.

[عظمة أخلاقه صلى الله عليه وسلم]

وكلُّ خُلُقٍ مِنْ أخلاقِ الرَّسول صَلّى اللهُ عليه وسلّم هو بمُفْرَدِهِ خُلُقٌ عظيمٌ رائِع، وكلُّ صِفَة من صفاتِ الرسول صَلّى اللهُ عليه وسلّم هِيَ بمفردِها عظيمة رائعة.

أمّا عندما تقترنُ أخلاقُهُ وتقترنُ صِفاتُه بعضُها ببعض وتتكامَلُ فيما بينَها لِتُشَكِّلَ صورتَه الكاملة، فثمَّةَ العَظمَةُ والرَّوْعَةُ في قِمَّتِها العُلْيا، وثمّةَ الإنسان الرسول الجدير بقول اللهِ عزَّ وجلّ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [سورة القلم: 4]، وثَمّةَ الأسْوَةُ الحسنة، والقدْوَةُ الباهِرَة الخالِدَة لِمَنْ كانَ يُؤْمِن باللهِ واليومِ الآخر، على اختلافِ الأمكنة، وامتدادِ العُصور ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا﴾[سورة الأحزاب: 21].

وقد تعودتُ أن أعيش الحينَ بعدَ الحين مَعَ رَسولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلّم، أسْتَمِعُ إلى حَديثِه، وأرافِقُهُ في سيرَتِه، وأتأمَّلُ في مَناقِبه، فأجدُ مِنْ أُنْسِ القلب، وزادِ الفِكْر، وجَلاءِ الْهَمِّ والحُزْن، وتَجَدُّدِ النشاطِ والعَزْم، ما يَجلُّ عَنِ الوَصْف، وأتعَلَّمُ مِنْهُ وأتَعَلَّم، وأنْهَلُ مِنْ كرَمِهِ وأنْهَل، وأسْعَدُ بصحبتِه وأسْعَد، وتزدادُ رابطتي الشعورية والفكرية بهِ وتزداد، وأكادُ أحِسُّ كأنَّ الزمانَ قَدِ امَّحَى بيني وبينَه، وكأنّني واحِدٌ مِنْ أصْحابه، أو واحدٌ مِنْ إخوانِه، وتتفَجّرُ يَنابيعُ المَحَبّةِ والنَّشوة والشكْر والعِرْفان في صَدْري، وأذوقُ بالأخُوَّةِ والصُّحْبَةِ والمَحَبّة مِنْ حَلاوةِ الإيمان ما لا يذوقُه إلاّ مَنْ كان اللهُ ورسولُه -حقّاً وصدقاً- أحبَّ إليه ممّا سِواهما، وعَرَفَ الحُبَّ الخالِصَ في الله، وكَرِهَ أن يعودَ في الكفر بَعْدَ أن أنقذَهُ اللهُ تعالى مِنْهُ كما يكرَهُ أن يُقْذَفَ في النار.

والتعرُّفُ إلى أخلاقِ الرسول صَلّى اللهُ عليه وسَلّم وصفاتِه، والتَأَسّي بهِ فيها، طاعةٌ للهِ عَزَّ وجلّ، وضرورةٌ لبناءِ الشخصيّةِ الإسلاميّةِ والإنسانيّةِ المَحْبوبَةِ المؤثّرة الخيّرَة، والمجتمعِ الإسلاميِّ والإنسانيِّ المُتَحابِّ المُتكامِلِ الخَيّر.

وسأحاولُ في السُّطور المقبلة أن أسيرَ مع القارئ خُطُوات قَليلَة مَعَ رسول الله صَلّى الله عليه وسلّم، وأن نظفرَ بلمَحاتٍ خاطِفة مِنْ حياتِهِ وصفاتِه، ولَنْ أقِفَ بشخصي وحَديثي ورأيي بينَ القارِئ وبينَ الرؤية المباشرة والانطباع المباشر.. ما قَدَرْتُ على ذلك.

[طلاقة وجهه ونشره للبسمة الحلوة]

مِنْ أوَّلِ ما يلقانا في صُحْبَةِ رَسولِ اللهِ صَلّى الله عليه وسلّم ونحن مقبلون عليه وَجْهُهُ الطَّلْق البشوش، وابتسامتُه الصادقة المُؤْنِسَة؛ فقد قالَ صاحبُهُ عبدُ اللهِ بنُ الحارث رضي الله عنه: “مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلّم” [ رواه الترمذي].

وقال صاحبُه جريرُ بنُ عبدِ الله رضي الله عنه: “مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عليه وسلّم مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَمَا رَآنِي إِلاَّ تَبَسَّمَ”، وفي رواية: “إِلاَّ ضَحِكَ” [ رواه البخاري ومسلم].

وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليه وسلّم لا يكتفي بطلاقةِ الوَجْه والابتسام في شخصِه، وإنّما كان يُحِبُّ أيضاً أن تَشيعَ الطلاقَةُ والبَسْمةُ الصّادِقَةُ الحُلْوَة، التي تأنَسُ بها القلوبُ وتنمو بها المَحَبّةُ بينَ أصحابهِ، وفي تضاعيفِ مُجْتَمَعِه، فعن أبي ذَرّ رضيَ الله عنه قال: قال لي رسول الله صَلّى اللهُ عليه وسلّم: “لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلِيْق” أي ضاحك مستبشر بشوش”. [رواه مسلم].

وكان رسول الله صَلّى الله عليه وسلّم، وهو يحمل أعظمَ رسالةٍ عَرَفَها التاريخ، ويواجهُ أعظمَ تحدّياتٍ عَرَفَها البشر، ويُكابدُ ويُجاهِدُ أعظمَ المُكابدة والجهاد، لا يترُكُ فُرَصاً لِمُداعَبَةِ أصحابهِ ومُمازحَتِهم، على حَسَب طباعِهم وأحوالِهم، تطييباً لبعضِ النفوس، ورَفْعاً لبعض القيود، وإشاعَةً لشيءٍ مِنَ المتعةِ والسُّرور، بما يُوَثِّقُ الصِّلات، ويُجَدِّدُ النشاط، ويُعينُ على الواجبات

[مداعباته صلى الله عليه وسلم]

عن أبي هريرة رضيَ الله عنه قال: قالوا، أيْ: بعض الصحابة : “يَا رَسُولَ الله! إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا. قَالَ : “نَعَمْ، غَيَرَ أَنِّي لا أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا” [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].

وقد روت لنا كتبُ السيرة والحديث بعضَ هذه المداعبات، فمن ذلك ما رُوِيَ عن الحسن قال: أتت عَجوزٌ إلى النبيّ صَلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسولَ الله! أُدْعُ اللهَ أنْ يُدْخِلَني الجنّة. فقال : “يا أمَّ فُلان إنَّ الجنّةَ لا تَدْخُلُها عجوز”، فولَّتْ تبكي. فقال : “أخبروها أنها لا تدخلُها وهي عجوز، أيْ: أنَّ الله يَرُدُّ عليها شبابَها فتدخُلُها وهي صبيّة في مُقْتَبَل العمر”.

وعَنْ أَنَس بن مَالِك أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانَ اسْمُهُ زَاهِرًا، وَكَانَ يُهْدِي إِلِى النَّبيِّ صَلّى الله عليه وسلّم هَدِيَّةً مِنَ الْبَادِيَة، فَيُجَهِّزُهُ النَّبيّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُج، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلّى الله عليه وسلّم : “إِنَّ زَاهِرًا بَادِيَتُنَا وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ“

وَكَانَ صَلّى الله عليه وسلّم يُحِبُّهُ، وَكَانَ رَجُلاً دَمِيمًا، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلّى الله عليه وسلّم يَوْمًا وَهُوَ يَبيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لا يُبْصِرُه، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ أَرْسِلْنِي. فَالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبيَّ صَلّى الله عليه وسلّم، فَجَعَلَ لا يَأْلُو مَا أَلْصَقَ ظَهْرَهُ بِصَدْرِ النَّبيِّ حِينَ عَرَفَهُ، فَجَعَلَ النَّبيُّ يَقُولُ : “مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟“ فَقَالَ زَاهِر: يَا رَسُولَ الله! إِذًا وَاللهِ تَجدُنِي كَاسِداً. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم : “لَكِنْ عِنْدَ الله لَسْتَ بِكَاسِد“ أَوْ قَال : “أَنْتَ عِنْدَ اللَّهِ غَال”. [مختصر الشمائِل المحمدية للشيخ ناصر الدين الألباني].

[تواضعه الشريف]

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعيشُ مع أصحابهِ كواحدٍ منهم، ويُحَذِّرُهُم أنْ يَرْفَعوهُ فوقَ مَنْزلَتِه، وأن يُبالِغوا في إطْرَائِه، و كان يقول: “أَيُّهَا النَّاس، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي، إنَّمَا أَنَا عَبْد“، ويقول: “لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المسيحَ بْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْد، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ“

ورُوِيَ أنه كان في سَفَر وأمَرَ أصحابَه بإصلاح شاة. فقالَ رَجُل: يا رسولَ الله عَلَيَّ ذَبْحُها، وقال آخَر: عَلَيَّ سَلْخُها، وقال آخر: عَلَيَّ طبْخُها، فقال رسول الله صَلى الله عليه وسلم : “وعَلَيَّ جَمْعُ الحَطَب”.  فقالوا: يا رسول الله نَكْفيكَ العمل. قال : “علمتُ أنكم تَكْفونَني، ولكِنْ أكْرَهُ أنْ أتَمَيَّزَ عليكم، وإنَّ اللهَ يَكْرَهُ مِنْ عبدهِ أنْ يَراهُ متميِّزاً بينَ أصحابه”.

هكذا كان النبيّ – صلى الله عليه وسلم – بينَ أصحابه، فكيف كانَ في بيتِه؟ فما أكثرَ ما يختلفُ سُلوكُ الناس في بيوتِهم عَنْ سلوكِهم في مجتمعاتِهم!

جوابُ ذلك عندَ زوجهِ، وأعلمِ الناسِ بهِ في بيتِه، السيدة عائشة رضي الله عنها، فقد سُئلت: – ما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يصنعُ في بيتِه؟ قالت: كان يكونُ في مِهْنَةِ أهلِه، أيْ: في خدمةِ أهلِه، فإذا حضرتِ الصلاة خرجَ إلى الصلاة”. [رواه البخاري].

وعن عَمْرَةَ بنتِ عبدِ الرحمن قالت: قلتُ لعائشة رضي الله عنها -: قالت:  “كانَ أبَرَّ النّاسِ، وألْيَنَ النّاسِ، وأكْرَمَ النّاسِ، ضَحّاكاً بَسّاماً صَلّى اللهُ عليه وسلّم”.

[رحمته العامة]

وقد كان رسولُ اللهِ – صلّى الله عليه وسلم – يَعُمُّ بحِرْصِهِ واهتمامِهِ، ورأفتِه ورحمتِه الكبيرَ والصغير، والغنيَّ والفقير، والقويَّ والضعيف.. يفتقدُ مَنْ غاب، ويعودُ مَنْ مَرِض، ويعينُ مَنْ يَحْتاج..

وقد روى لنا البخاريّ ومسلم في صحيحيْهِما عن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ (أي: تكنس) الْمَسْجد، فَفَقَدَهَا رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عليه وسلّم (أي: لم يَعُدْ يراها)، فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقَالُوا: مَاتَت. قَال “معاتباً أو لائماً” : “أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي، أي: أعلنتموني وأخبرتموني بموتِها؟“ فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا، أن يُعْلِنوا رسولَ اللهِ بموتِها، فَقَال : “دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا“ فَدَلُّوهُ فَصَلَّى عَلَيْهَا.

ويبدو أن هذه المرأة السوداء لم تكن في الأصل من المدينة، ولم يكن لها فيها أهل ولا عشيرة، فافتقادُ الرسولِ لها، وسُؤالُهُ عنها، وصَلاتُه عليها، إنما كان لِذاتِها لا لأجْل أحدٍ من الناس، ومَظْهَرًا لِحِرْصِه على المؤمِنين كُلِّ المؤمنين، ولاحترامهِ للنفسِ الإنسانيةِ، ولإنسانيةِ الإنسانِ مَهْما قَلَّ شأنُهُ في حَياتِه ومجتمعِه في نظرِ هذه المجتمعات.

[المشاركة الوجدانية]

ومن أرْوَعِ ما يَروعُ الإنسانَ وهو يُرافِقُ الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرتِه، ويتأمّلُ في أقوالِه وأفعالِه ومواقفِه، ما يُطْلِقُ عليه عُلَماءُ النفسِ في عصرِنا مُصْطَلَحَ: “المشاركة الوجدانية”، فالمشاركة الوجدانية لا تَتَمَثَّلُ في أكملِ صُوَرِها في أحَد كما تمثّلَتْ في الرسولِ الإنسانِ مُحَمَّدِ بن عبد الله.

كانَ صَلّى الله عليه وسلّم يُحِسُّ بإحساسِ الناس، ويَشْعُرُ بشعورِهم، فَيفرحُ لِفَرَحِهِم، ويَحْزَنُ لِحُزنِهم، ويأْلَمُ لألَمِهِم، ويَشُقُّ عليهِ ما يَشُقُّ عليهم، وينتبهُ لِما لا ينتبهُ لهُ غيرُه من هذه الأمور، ويقترنُ الإحساس والشعور عندَه بالعمل لِمَسْحِ الأحزانِ والآلام، وإغناءِ الأفراحِ في الصُّدور والبيوت ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾. [سورة التوبة: 128].

وروى البخاريُّ في صحيحه عن أبي قَتادة رضِيَ الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي – أيْ: أخفّفُها – كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ”.

وروى البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ، وَالْكَبِيرَ، وَذَا الحَاجَة، وَإِنْ صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ، فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاء”.

[خبر لم يَروِ التاريخُ مثلَه]

وإلى القارئِ العَزيزِ الآن هذا الخبر الطريف، والمَشْهَد العَجيب، الذي ما رَوَى مثلَه – في حدودِ معرفتي – التاريخ، والذي ينبض بالعاطفةِ والحَنان، ويُعَبّرُ أبلغَ التعبير عَنْ فهمِ الطفولةِ والأطفال، والحَدَبِ عليهم، والشعورِ بشعورهم، واحترامِ مقتضياتِ سِنِّهم، ومعاملتِهم على حسب عقولهم.

قال بعض الصحابة: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي إِحْدَى صَلاتَي الْعَشِيّ [الظهر أو العصر] وَهُوَ حَامِلٌ حَسَنًا أَوْ حُسَيْنًا، فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَضَعَهُ، ثُمَّ كَبَّرَ لِلصَّلاةِ فَصَلَّى، فَسَجَدَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِهِ [أيْ: أثناءَها] سَجْدَةً أَطَالَهَا، قَالَ [أي: راوي الخبر] فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الصَّبِيُّ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاجد، فَرَجَعْتُ إِلَى سُجُودِي، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ الله الصَّلاةَ، قَالَ النَّاسُ:  يَا رَسُولَ الله! إنَّكَ سَجَدْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ صَلاتِكَ سَجْدَةً أَطَلْتَهَا، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، أَوْ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْكَ! قَالَ صلى الله عليه وسلم: “كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، وَلَكِنَّ ابْنِيَ ارْتَحَلَنِي، أيْ: علا ظهري، وركبني كما يُركب البعير”،  فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ”. [رواه النَّسائي وابن عساكر والحاكم وصححه ووافقه الذهبي].

وبعد؛ فنحن – يا قارئي العزيز –  ما نزال في أول خطواتنا مع رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، نُسَايرُهُ من خلالِ سيرتِهِ وهديه، وقد تجاوزْنا – أو أَوْشَكْنا نتجاوزُ – ما يسمَحُ بهِ مقال، فلْنَقِفْ إذن عند هذا الحَدّ، ولْنُتابعِ السَّيْرَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مَقالاتٍ أخرَى إن شاءَ الله.


(*) كاتب وأديب وداعية سوري، والمقال مكتوب عام 1423هـ الموافق 2002م، والعناوين الداخلية من وضع المحرر.

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.