آيات وسنن (8) – ﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾

بقلم د. فاطمة الزهراء دوقيه (*)

ما نشاهده من مظاهر للطغيان البشري، ومختلف صنوف الشرور والمفاسد في العالم، ما هو إلا نتيجة لتفلت ملكات النفس الإنسانية وقدراتها من الانضباط لأي أخلاق أو قيود؛ حيث يتصرف صاحبها على سجيته يفعل ما يشاء كيفما يشاء، ويتبع ما يمليه عليه هواه، ذاهلاً عن وجود الرقيب لتصرفاته، الذي يدخر له ما يستحق من العقوبة جزاء شره وفجوره. وصدق الله القائل:﴿وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطࣰا﴾ [الكهف:٢٨]، وقال:﴿أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمࣲ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَةࣰ فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية:٢٣]، وقال: ﴿فَإِن لَّمۡ یَسۡتَجِیبُوا۟ لَكَ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا یَتَّبِعُونَ أَهۡوَاۤءَهُمۡۚ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَیۡرِ هُدࣰى مِّنَ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [القصص:٥٠]

إنه حين تتغلب شوائب النفس ورعوناتاها وآفاتها، “يغدو صاحبها مجرد أداة للإفساد في الأرض، ولإهلاك الحرث والنسل، ابتغاء مصالحه وأهوائه الشخصية، مهما تحلى ظاهره بالصفات الحميدة والأخلاق الفاضلة”[1]. إن صاحب هذه النفس هو من أخبر الله تعالى في كتابه عن نهجه أنه:﴿دَسَّىٰهَا﴾، في مقابل الذي:﴿زَكَّاهَا﴾، أي أنه يسلك طريق التدسية لما في نفسه من القدرة والقابلية للفجور والشر إلى جانب قابليته للتقوى والخير:﴿وَنَفۡسࣲ وَمَا سَوَّىٰهَا* فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾[الشمس:٧-١٠].

فصاحب التدسية هذا المتفلت من القيود الأخلاقية والقيم الضابطة لا يأتي على يديه إلا الانحرافات والشرور والمفاسد على اختلافها ومستوياتها، ما يتسبب في الخيبات والخسارات في الحياة وشقائها. وهذه حقيقة يقررها الله تعالى في قوله:﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾، التي جاءت جزءًا ثانياً من جواب قسم سورة الشمس الطويل، التي قضيتها المركزية التنبيه على محور تزكية النفس الإنسانية وإصلاحها باعتبارها طريق التقوى والهدى والصلاح الموصل إلى الفلاح والنجاح في الدارين:﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾، فجاءت من باب مقابلتها بضدها لتعظيم التزكية، وإبراز أهميتها وخطورة إغفالها -كما بينا في المقال السابق-، وكما يقال:”بضدها تعرف الأشياءُ”. وهذا لا ينفي أهمية موضوع التدسية المطروحة في الآية، بدلالة أنها جزء من المقسَم عليه التي خصصت بالذكر، ولذا قال الآلوسي:”وتكرير «قد» فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونه والإيذان بتعلق القسم به أصالة”[2]،كما سيق لها دليلٌ واقعي تاريخي بإيراد قصة قوم ثمود، التي انتهت بالخيبة والعذاب والهلاك، بياناً لخطورة التدسية، وترهيباً من مسلكها، وذلك من باب ضرورة معرفة الشر والسؤال عنه مخافة إدراكه.

وبتعبير آخر، فكما شرع الله تعالى التزكية ببيان سبلها ونهجها وأحكامها، وإبراز أهميتها، آمرًا الإنسان باتباعها ليصلح حاله، ويتأهل لمهمته الاستخلافية الإصلاحية في الأرض، فقد بين له كذلك – ولنفس الغاية- ما يخالفها ويضادها “التدسية” وما به تحصل، ناهيَهُ عنها لخطورتها على تلك المهمة ومصيره، والله تعالى يقول:﴿وَهَدَیۡنَـٰهُ ٱلنَّجۡدَیۡنِ﴾[البلد:١٠]،

أي طريقي الخير والشر، وسبيلي الهدى والضلال، ويقول كذلك:﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ [الإنسان:٣].

ولذا، فقد اشتمل الهدى القرآني على بيان ما به يَكون فساد الإنسان ‘التدسية’؛ تحذيراً منها حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه “الخيبة” كما تقرر الآية: ﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾، حيث تضع سنة من سنن الله تعالى في عباده؛ وهي خيبة الإنسان وخسرانه وعدم نيله مرغوبه دنيا وآخرةً، إذا دسَّى نفسه وأضلها وحجب عنها الهدى وسار بها في طريق الفجور والعصيان، في أفكاره وتصرفاته وسلوكه العام فرداً وجماعةً، حتى صار حاله حال الفجار الظالمين أنفسهم ومحقرينها، سنة الله قضاها لا تبديل لها ولا تحويل، قد صيغت هنا بالأسلوب الشرطي؛ إذ ارتبطت فيها “الخيبة” عاقبةً بـ“التدسية”سبباً، باستعمال حرف“قد” الداخل على الفعل الماضي لإفادة ما كان من خصائص سنن الله ومعاملته لعباده ترتيباً على سلوكهم، من التحقيق، وتوكيد الوعيد، وصدق الخبر وثبوته. كما وردَ وعيد الخيبة فعلاً في زمن الماضي، وهو حدث مستقبلي:﴿وَقَدۡ خَابَ﴾، كصورة من صور“الالتفات” القرآني، إثباتاً لكونه من الأمور الهائلة المهددة المتوعد بها التي يُستعظم وجودها، وذلك أبلغ في الترهيب والتخويف لأنه يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد؛ فتتبين هيئة الفعل، وتُستحضر صورته، فيكون السامع كأنه يشاهدها[3]، فيتحقق بذلك الترهيب، بما هو أبلغ في تحقيق زكاء الإنسان، وتوجيهه للتصرف بالنسبة إلى هذا الجزاء المتعارض مع مصلحته، ساعياً للحيلولة دون حصول أسبابه ومقدماته. وبذا يتحقق المقصد القرآني من بيانه هذه السنة؛ بأن يوجه الإنسان سلوكه ويضبطه، ليستقيم ويتسق وسنن الله تعالى.

** ** **

عناصر الصيغة السننية في:﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾

أولا: التدسية:

أما الطريق الذي عينه الله تعالى سبباً موصلاً إلى الخيبة والخسران، فهو ذلك الفعل المسنَدُ إلى الإنسان:﴿مَن دَسَّىٰهَا﴾؛ أي “حال بينها وبين فعل الخير”[4]، وبتعبير ابن كثير “أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل”[5]. فالتدسية “النقص والإخفاء بالفجور”[6]؛ إذ أن صاحبها “أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب، والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها”[7].

وانظر إلى تعبير البقاعي وهو يشخص التدسيس ويقارن بينه وبين التزكية حين قال:”﴿مَن دَسّاها﴾ أي أغْواها إغْواءً عظيماً، وأفسدها، ودَنَّس محياها، وقَذَرَها، وحَقَّرَها، وأهْلَكَها بِخَبائِث الِاعتقاد، ومَساوِئ الأعمال، وقبائح النِّيات والأحْوال، وأخْفاها بالجهالة والفُسوق، والجلافة والعقوق… التزكية أن يحرص الإنْسان عَلى شمسه أن لا تكسفَ، وقمرهِ أن لا يخسفَ، ونهاره أن لا يتكدَّرَ، وليله ألّا يُطفى، والتَّدْسِيسُ أقله إهمالُ الأمر حَتّى تُكسف شمسُه، ويُخسف قمرُه، ويتكدَّر نهارُه، ويدومَ ليلُه”[8].

وقد بين الله تعالى طريق تدسية النفس وفجورها مرغباً عنه ومحذراً من اتباعه، لأنه طريق مخالف لأمر الله وحكمه وهديه؛ فأعظم التدسي والإخفاء والنقص الكفر بالله جل جلاله، ومعناه الأصلي “تغطيةٌ تامة كثيفة لا يظهر معها شيءٌ من المغطَّى … والكافر بالله من ذلك؛ لأنه غطَّى في نفسه بعماه شواهدَ وجود الله وعظمته الظاهرة والباطنة، أو تغطَّى عنها:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ [البقرة:٦-٧]، وكل ما في القرآن من التركيب فهو من الكفر بالله عز وجل … ومن هذا الكفر بالله كل (كفّار)”[9]. فالذين كفروا دسوا أنفسهم، وحجبوها عن الهدى وغطوها و”ستروا ما أُقيم مِنَ الأدلة عَلى الوحدانية عَنِ العقول الَّتِي هُيئت لإدراكه، والفِطر الأُولى الَّتِي خلصت عَنْ مانعٍ يعوقها عَنِ الانقياد له وداموا عَلى ذلك”[10]. فهؤلاء يتوعدهم الله بالخيبة والخسران المبين: فيتوعد أصحابه:﴿وَمَن یَكۡفُرۡ بِهِۦفَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ﴾[البقرة: ١٢١]، وقوله:﴿وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا﴾ [النساء:١٣٦]،

ومن التدسية الارتكاب لأعمال الشر والضلال والعصيان، والاتصاف بخصالٍ وصفاتٍ من الفساد، ما يشكل حال الإنسان الدائم، من كسبه وجهده في نقص نفسه والوضع منها، وتدنيسها، فيعيقها عن صلاحها، وينمي فيها طاقات الشر والفجور، مما يجعلها على درجة عالية من الاقتدار على فعل الشر، وتحقيق المفاسد التي بها تكون خيبته وحرمانه مما يبغي. وقد أفاض القرآن الكريم في ذكر أعمال وأحوال التدسي الفردية والجماعية تحذيراً من اتباعه وتنبيهاً لاتقائه، لا يسع المقام لتفصيلها، فنقتصر على قوله الله تعالى الجامع:﴿وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلࣰا مُّبِینࣰا﴾[الأحزاب:٣٦]، وقوله: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[النور:٦٣]. لقد علق سبحانه وتعالى “سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن، والفلاح والعزة، والكفاية والنصرة، والولاية والتأييد، وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفيه الذلة والصغار، والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة”[11].

وإذاً، يمكن إجمالُ خطورة التدسية في اعتبارها معيقَ تنفيذ حكم الله ومراده من الخلق، وتحقيق ما لأجله أُوجد الإنسان من صلاحه وإصلاح حياته فرداً وجماعةً وعمراناً؛ بما تمثله من منهج لتنقيص النفس، والخفض من شأنها، والخضوع لآفاتها ورعوناتها، فيتغَلَّبُ نزوعها إلى الفجور والإفساد:﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُفۡسِدَ فِیهَا وَیُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ﴾ [البقرة:٢٠٥]. فبالتدسية تكون ملكات الإنسان وصفاته وقدراته العامل الأول والأخير لاضطراب الحياة الإنسانية وفسادها وشقاء وضنك العيش، وما ركبت فيه إلا لتسخر لخدمة وظيفته العمرانية الإصلاحية في الأرض، وسعادته في الدارين.

ثانياً: الخيبة:

الخيبة المتوعد بها جزاء تدسي الإنسان هي ضد الفلاح؛ أي الخسارة وألا يحقق الساعي بغيته، وأن يُحرم الطالب مما طلبه [12]، وبتعبير الاصفهاني هي فوت الطلب [13]. وقد وردت لفظاً في قوله تعالى:﴿وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِیدࣲ﴾ [إبراهيم ١٥]؛ أي خسر وهلك كل متكبر عن عبادة الله تَعالى وطاعته، معاند للحق مباهٍ بِما عنده [14]، وفي قوله:﴿وقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى﴾ [طه:٦١]؛ فالذي افترى على الله أيَّ كَذِبٍ كان خاسرٌ خائبٌ [15]. وفي قوله:﴿وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمࣰا﴾ [طه: ١١١]، حيث التوعد الشديد بالخيبة والخسران يعم كل ظالمٍ نفسَه أو غيرَه متجاوزٍ حدود ربه. ووردت هذه الخيبة صفةً واسم فاعل في قوله تعالى:﴿لِیَقۡطَعَ طَرَفࣰا مِّنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَوۡ یَكۡبِتَهُمۡ فَیَنقَلِبُوا۟ خَاۤىِٕبِینَ﴾ [آل عمران:١٢٧]؛ لم يحصلوا على ما أمَّلُوا، بل ينقلبون غير ظافِرِين بمطلبهم، وغير نائلين مقصودهم، بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة [16].

وهكذا، تأتي الخيبة مترتبةً وجزاءً عدلاً عن أعمال مختلفة، وصفات متعددة، وأحوال متفاوتة، تجمعها كليةُ ‘التدسية’. ولنتأمل في قول ابن القيم يصف المتدسي مقارنةً مع المتزكي، كأنه يصف خيبته بأنه هو “الفاجر -أبدًا- خفي المكان، زَمِرُ المروءة [أي قليلها]، غامض الشخص، ناكس الرأس، فكأن النَّطِفَ [والنَّطَفُ التلطخ بالعيب والفساد] بارتكاب الفواحش دس نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها”[17].

فالخيبة هي من الكلمات التي إذا قيلت تُحضِر إلى الذهن عبارات الخسارة والفشل واليأس والحسرة والندم والشقاء والعسر، وكل ما يدل على تفويت الإنسان بغيته وعدم الظفر بمرغوباته، وعلى حصول ما لا يتمناه، ولذا كان التعبير عنه في القرآن كثير، وبألفاظ شتى، وصور متفاوتة، شاملاً الدنيا والآخرة، مثل قوله تعالى:﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِی فَإِنَّ لَهُۥ مَعِیشَةࣰ ضَنكࣰا وَنَحۡشُرُهُۥ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَعۡمَىٰ﴾ [طه:١٢٤]، إذ يتوعد من لم يتبع هداه وأعرض عن دينه بالعيش الضنك، بما هو ضيق وتعب ونصب، والعذاب في الاخرة، وذلك على غير ما يتمنى الإنسان ويأمل، ويقول تعالى:﴿أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ﴾ [البقرة:١٦]؛ فالذي بذل الهدى رغبة عنه بالضلالة رغبة فيها، فهذه تجارته، فبئس التجارة، وبئس الصفقة صفقته، فما ربحت تجارته، بل خسر فيها أعظم خسارة؛ والله تعالى يقول:﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾، وقوله:﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ تحقيق لضلاله، وأنه لم يحصل له من الهداية شيء [18]. وكقوله تعالى:﴿وَمَن یَتَّخِذِ ٱلشَّیۡطَـٰنَ وَلِیࣰّا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانࣰا مُّبِینࣰا﴾[النساء:١١٩]، وكقوله عز وجل كذلك:﴿وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ * فَسَنُیَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ﴾ [الليل:٨-١١]؛ حيث يتوعد سبحانه صاحب هذه الخصال بأنه سيهيئه لِلحالة العسرى في الحياة، ويسهلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ويضعف عن فعلها فيؤديه ذلك إلى النار[19]. ويقول عز وجل:﴿ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ﴾ [إبراهيم:٣].

وختاما، فإننا أمام صيغة سننية ذات أهمية بالغة، تحمل نذارةً وتحذيراً من خطر مصير غير مرغوب، وعقبى غير محمودة في الدراين:﴿وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾، واضعةً الإنسان أمام مسؤولياته ليختار، منبهتَهُ للمخاطر المرتقبةِ؛ أنه إن كان يخشى الوقوع في الخيبات والخسارات والمهلكات، ما عليه إلا تجنب واتقاء عواملها المُجْملة في كلية “التدسية” بما هي وضعٌ من شأن نفسه، وتحقيرٌ لها وإخفاؤها في الرذائل والدناءات، والتوجهُ بها إلى جامعة “التزكية” بما هي ارتقاءٌ في مدارج الكمالات والفضائل، موصلٌ له إلى الفلاح، وبر الأمان في الدارين.

*****


(*) دكتوراه في الدرس القرآني والعمران البشري بجامعة مولاي إسماعيل، مكناس/ المغرب: [email protected]

[1]– منهج الحضارة الإنسانية في القرآن، محمد سعيد رمضان البوطي، ص 26.

[2]– روح المعاني، الآلوسي، ٣٠/١٤٣.

[3]– يراجع البرهان في علوم القرآن، الزركشي، ٣/٣٧٢، وروح المعاني، الآلوسي، ١٧/١٠٣، والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ابن الاثير، ٢/١٤٩.

[4]– التحرير والتنوير، ابن عاشور، ٣٠/٣٧١.

[5]– تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٨/٤١٢.

[6]– الكشاف، الزمخشري، ٣٠/١٢٠٦.

[7]– تيسير الكريم الرحمن، السعدي،٣٠/١٠٩٣.

[8]– نظم الدرر، البقاعي، ٢٢/٧٨-٧٩.

[9]– المعجم الاشتقاقي، حسن جبل، ص ١٩٠٨.

[10]– نظم الدرر، البقاعي، ١/٩٢-٩٣.

[11]– زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب الارناؤوط، وعبد القادر الارناؤوط، مؤسسة الرسالة، ١/٣٩.

[12]– يراجع التحرير والتنوير،٣٠/٣٧١.

[13]– المفردات، الراغب الأصفهاني، ص٣٠٠.

[14]– روح المعاني، الآلوسي، ١٣/٢٠٠.

[15]– فتح القدير، الشوكاني، ١٦/٩١٣.

[16]– تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ٢/١١٤. وفتح القدير، الشوكاني،٤/٢٤٢. وتيسير الكريم الرحمن، السعدي،٤/١٥٤.

[17]– ابن القيم الجوزية، التبيانّ في أيمان القرآن، تحقيق: عبد الله بن سالم البطاطي، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي، ص ٣٠.

[18]– تيسير الكريم الرحمن، السعدي، ١/٣٣.

[19]– فتح القدير، الشوكاني، ٣٠/١٦٢٩.

اترك تعليق