أثر نظام القرآن في بيان مقاصد الأسماء والصفات (1-3) – دراسة

بقلم الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات (*)

أثر دلالة النظام في تبين المقاصد والغايات:

لابد لنا في مستهل هذا البحث أن نبين المراد بـ «النظام»:

تكلم العلماء قديماً على المناسبات بين الآيات، والمناسبات بين السور- يريدون بها الروابط- وقد روي عن الرازي قوله:

 «أكثر لطائف القرآن مودعة في الروابط والترتيبات».

 أما علم « النظام » فهو مما قال به العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي.

فعلم النظام: لا يظهر التناسب وحده، بل يجعل السورة كلاماً واحداً، ويعطيها وحدانيتها، التي بها صارت سورة كاملة، مستقلة بنفسها، ذات عمود تجرى إليها أجزاؤها، ويربط الآيات بعضها ببعض، حتى تأخذ كل آية محلها الخاص، ويتعين من التأويلات المحتملة أرجحها، فالنظام أعم من المناسبات.

فمن تدبر القرآن في ضوء النظام، فلا شك أنه لا يخطيء في فهم معانيه، وذلك لأن النظام يبين سمت الكلام، وينفى عنه تشاكس المعاني، ويرد الأمور إلى الوحدة، ويسد أبواب الدخول فيه للأهواء، حتى يجبره أن لا يأخذ إلا بصحيح التأويل، ولا يعتمد إلا عليه. وهو أعظم مطلوب.

يقول الفراهي في سبب قوله بالنظام وحرصه عليه: ولكن اضطرني إليه أمور:

الأول: إني رأيت جل اختلاف الآراء في التأويل من عدم التزام رباط الآيات، فإنه لو ظهر النظام واستبان لنا عمود الكلام لتجمعنا تحت راية واحدة وكلمة سواء، «كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء » وجعلنا معتصمين بحبل كتابه كما قال:

﴿وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِیعࣰا وَلَا تَفَرَّقُوا۟ۚ وَٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ فَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦۤ إِخۡوَ ٰ⁠نࣰا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةࣲ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَایَـٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ [آل عمران ١٠٣]

وكيف الخلاص عن التفرق الأصلي، وقد جعلوا هذا الحبل أشتاتاً في ظنونهم؟! وهو بحمد اللَّه متين، فيؤوله كل فريق حسب ظنه، ويحرف طريق الكلام عن متنه.

وبالنظام، يتبين سمت الكلام، فينفى عن آيات اللَّه، أهواء المبتدعين، وانتحال المبطلين، وزيغ المنحرفين.

الثاني: إني رأيت الملحدين قد طعنوا في القرآن، من جهة سوء النظم، ﴿كَبُرَتۡ كَلِمَةࣰ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَ ٰ⁠هِهِمۡۚ إِن یَقُولُونَ إِلَّا كَذِبࣰا﴾ [الكهف ٥]

وقد علمتُ حق اليقين أن قولهم باطل، وحجتهم داحضة، فلم يسعني أن أسكت، وأرى الباطل قد عمت بلواه، وبلغ السيل زباه.

والثالث: أنه لا يخفى أن نظم الكلام بعض منه، فإن تركته ذهب بعض معناه، فإن للتركيب معنى زائداً على أشتات الأجزاء، فلا شك أن من حرم فهم النظام فقد حرم حظاً وافراً من الكلام. ويوشك أن يشبه حاله بمن قبله من أهل الكتاب – كما أخبر اللَّه تعالى عنهم -: ﴿فَنَسُوا۟ حَظࣰّا مِّمَّا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَأَغۡرَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَاوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ﴾ [المائدة ١٤]، وأخاف أن تكون هذه العداوة والبغضاء بين المسلمين من هذا النسيان، فلا تهدأ عداواتهم، ولا يرجعون عن اختلافهم.

وسبب ذلك ما ذكرنا في الأمر الأول، لأنا إذا اختلفنا في معاني كلامه، اختلفت أهواؤنا وصرنا مثل أهل الكتاب، غير أن رجاءهم كان بهذا النبي، وهذا القرآن الذي يرفع اختلافهم، وأما نحن فليس لنا إلا هذا الكتاب المحفوظ».([1])

وبناء على هذا الأصل كنت أثناء تلاوتي للآيات المتصلة بالاعتقاد، أرى معاني مختلفة عما توارثناه مما شغل علماء نا السابقين، من اهتمام بالمعاني الجزئية، والتي كثيرا ما تكتفي بموضع الشاهد-حسب اهتمام العالم وتخصصه- على حين نرى أن فكرة النظام المراعية للسباق والسياق توجه الاهتمام إلى المعاني الكلية الجامعة والمؤدية إلى المقاصد والغايات، علما بأن هذا الاتجاه ليس خاصا بآيات الاعتقاد وحدها بل هو مما عمت به البلوى قديما في معظم كتب التراث.

ولعل ذلك يعود الى مجموعة من الأسباب، ولعل أهمها:

– أن علم معاني القرآن نشأ في أحضان علماء العربية كالفراء والزجاج والأخفش وأمثالهم، وهؤلاء كانت تستهويهم البحوث الجزئية، وتلفت انتباههم قضايا الصرف والإعراب، مغفلين السوابق واللواحق في كثير من الأحيان، وربما أغراهم بذلك كثرة الوجوه المحتملة، التي تنشأ نتيجة قطع الكلام عن سباقه وسياقه -بناء على أن القرآن حمال أوجه- والذي ربما يدل على تبحرهم في العلم.

وجاء المفسرون والفقهاء من بعدهم فأقاموا بنيانهم على تلك الأسس التي مهدها السابقون.

ويمكن أن نضرب لذلك بعض الأمثلة:

  • يتساءل الفراء عند قوله تعالى:

﴿وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَ ٰ⁠بیلَ تَقِیكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَ ٰ⁠بِیلَ تَقِیكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ یُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَیۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ﴾ [النحل ٨١] عن عدم ذكر البرد في الآية، ثم يجعله مقدراً، أي: تقيكم الحر وتقيكم البرد، علماً أنه لومد نظره في ما سبق من الآيات، لوجد قوله تعالى: ﴿وَٱلۡأَنۡعَـٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِیهَا دِفۡءࣱ وَمَنَـٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ﴾ [النحل ٥] فهي إذن تقيكم البرد، فلا يحتاج إلى مثل هذا التقدير.

  • والمثال الثاني: ينطبق على أهل الفقه، الذين وقفوا عند قوله تعالى:

﴿لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة ٧٩] حيث رأوا أن الآية إنما هي في اشتراط الطهارة لمس المصحف، علما أن الآية في سباقها وسياقها تقول: ﴿۞ فَلَاۤ أُقۡسِمُ بِمَوَ ٰ⁠قِعِ ٱلنُّجُومِ وَإِنَّهُۥ لَقَسَمࣱ لَّوۡ تَعۡلَمُونَ عَظِیمٌ إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانࣱ كَرِیمࣱ فِی كِتَـٰبࣲ مَّكۡنُونࣲ لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ تَنزِیلࣱ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الواقعة ٨٠] فالحديث إذن عن القرآن الكريم في اللوح المحفوظ قبل نزوله إلى الأرض، وأنه لا يصل إليه إلا الملائكة المطهرون، وأن تنزيله إلى الأرض من رب العالمين، وفي هذا تأكيد لقوله تعالى:

﴿وَمَا تَنَزَّلَتۡ بِهِ ٱلشَّیَـٰطِینُ وَمَا یَنۢبَغِی لَهُمۡ وَمَا یَسۡتَطِیعُونَ إِنَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّمۡعِ لَمَعۡزُولُونَ﴾ [الشعراء ٢١٢].

ثم لو كانت الآية في مس المصحف من الناس لقال:«المتطهرون» لأن الناس ليسوا مطهرين خلقة كالملائكة، إنما يكتسبون الطهارة بفعلهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلتَّوَّ ٰ⁠بِینَ وَیُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِینَ﴾ [البقرة ٢٢٢] فانظر كيف تغير المقصود من الآية نتيجة عدم مراعاة السباق والسياق.

وموضوع «الأسماء، والصفات» من الموضوعات الهامة المتصلة بالاعتقاد، والتي شغلت علماء الأمة- قديماً، وحديثاً-نظراً لاتصالها بذات اللَّه تعالى، حيث سلك العلماء في معالجة هذا الموضوع مسالك متعددة، وكانت لهم وجهات نظر مختلفة، مما أدى إلى نشوء الفرق المتشاكسة، كالمعتزلة، والجبرية، والمرجئة، والأشعرية، وغيرها…

يقول العلامة عبد الحميد الفراهي:

«قد رأينا اختلافاً عظيماً في العقائد، حتى نشأت فرق متضادة، واختلفوا كل الاختلاف، فكفر بعضهم بعضاً، ولم يكن ذلك إلا لخوضهم فيما لم يكن لهم إليه سبيل، فتقولوا بما لم يثبت، واستنتجوا من بعض النصوص ما يخالف بعضاً آخر منها، وقد نهوا عن ذلك، فالطريق القويم: هو الانتهاء حيث انتهى النص، والاعتصام بالعقيدة، والعمل بالمحكم»([2]).

ومن الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج ما ذكره الراغب الأصفهاني في مقدمة تفسيره حيث قال:

« إن المعاني ضربان: جلي وغامض:

فالجلي: ما يمكن إدراكه بأدنى التأمل، كقوله تعالى:

﴿۞ قُلۡ تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَیۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُوا۟ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ﴾ إلى قوله: ﴿ذَ ٰ⁠لِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [الأنعام ١٥١]

 وأما الغامض:

– أن يكون المعنى في نفسه خفياً، نحو الكلام في صفات الباري سبحانه ونفى التشبيه عنه([3])

ويمكن أن يضاف إلى ذلك مما يوقع الاختلاف، ويُكثر الشّبَه:

-اختلاف النَّظَريْن-من جهة الناظرين-. وذلك كنظر فرقتي أهل الجبر، والقدر:

 -حيث اعتبر أهل الجبر: السبب الأول، فقالوا: الأفعال كلها من جهة الباري، إذ      لولاه، لم يوجد شيء منها.

-وقال أهل القدر: إن الممكنات من جهتنا، حيث اعتبروا السبب الأخير، وهو المباشر للفعل، دون السبب الأول.

ومنها: اختلاف نظر الناظرين: من اللفظ إلى المعنى، أو من المعنى إلى اللفظ.

– وذلك:كنظر الخطّابي إلى اللفظ، في إثبات ذوات الأشياء.

– ونظر الحكماء من ذوات الأشياء، إلى الألفاظ.

وذلك: نحو الكلام في صفات الباري تعالى:

فإن الناظر من اللفظ وقع عليه من الشبهة العظيمة، في نحو قوله تعالى: ﴿بَلۡ یَدَاهُ    مَبۡسُوطَتَانِ﴾ [المائدة ٦٤] وقوله: ﴿تَجۡرِی بِأَعۡیُنِنَا﴾ [القمر ١٤] وما يجري مجراه.

وأهل الحقائق لما تبينوا بالبراهين: أن اللَّه تعالى واحد، منزه عن التكثر – فكيف عن الجوارح – بنوا الألفاظ على ذلك، وحملوها على مجاز اللغة، ومشاع الألفاظ، فصينوا عما وقعت فيه الفرقة الأولى([4]).

هذا ما ذهب إليه الراغب في بيان أسباب الاختلاف.

ويقول الفراهي: العقيدة ليست إلا ما يعتقده القلب، وذلك لا يكون اللفظ المحض، بل لا بد له من معنى، وأقل ذلك: المعنى المجمل.

فأما الألفاظ المحضة كـ«اليد، والساق، وغيرها» فلا تدخل في العقائد.- والقول بهذه الألفاظ بدعة-. إنما جاء الوحي بالمجملات فلا نزيد عليها، فنقول: ﴿یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُ﴾ [المائدة ٦٤] ولا نقول: إن للَّه تعالى يداً وقدماً وساقاً، وغير ذلك، والفرق بين القولين ظاهر»([5]).

يريد بذلك: أن القول بهذه الألفاظ، يصرف النظر عن المعنى الذي جاءت الآية من أجله، وهو الرد على ما قالته اليهود من أن «يد اللَّه مغلولة» فأجابهم بقوله: ﴿غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ بَلۡ یَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ یُنفِقُ كَیۡفَ یَشَاۤءُۚ﴾ [المائدة ٦٤]. ([6])

   ويمكن أن نذكر بعض الأمثلة الأخرى المتصلة بالعقائد والصفات:

قوله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ﴾  ([7])

 -حيث يمكن أن تكون «ما» موصولة- على معنى-: خلقكم والذي تعملون.

-ويمكن أن تكون مصدرية- على معنى-: خلقكم وعملكم.

وقد ذكر أهل التفسير القولين بمستوى واحد.

 بل إن أهل الجبر بنوا مذهبهم على المعنى الثاني، الذي يفيد خلق الأفعال.

 والآية- عل كلا القولين- تفيد التقرير، علما أننا لو وضعنا الآية في سباقها نرى أن المعنى ينتقل من التقرير إلى الإنكار.

ذلك أن الآية التي قبلها- جاءت على لسان إبراهيم عليه السلام-مخاطبا قومه المشركين الذين يعبدون الأصنام- التي ينحتونها بأيديهم، قائلا:

﴿قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ﴾   ([8])

حيث يصير المعنى: أفتعبدون الذي تنحتون من الأصنام، واللَّه خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها، فهو ينكر عليهم هذا الفعل.

 وعلى هذا لابد أن تكون « ما » موصولة.

ولو قلنا بأن « ما »: مصدرية، لم يستقم معنى الآية، ذلك أن « عملكم»- المؤول بالمصدر-: إما أن يعود إلى: «أتعبدون»، أو يعود إلى: «تنحتون».

– فيكون المعنى على القول الأول: أفتعبدون ما تنحتون. واللَّه خلقكم وعبادتكم؟ وهذا المعنى لا يستقيم لأن أوله إنكار، وآخره تقرير، وكأنه بذلك يعطيهم حجة لفعلهم، على حين هو يريد أن يقيم الحجة عليهم.

-ولو قلنا إن المصدر المؤول يعود إلى «تنحتون»: يكون المعنى: أفتعبدون ما تنحتون. واللَّه خلقكم ونحتكم »؟

وهذا المعنى لا يستقيم أيضا، إلا إذا جعلنا المصدر المؤول « نحتكم»، بمعنى: اسم المفعول:« منحوتكم ». وبذلك يعود إلى معنى «ما» الموصولة. غير أن هذا القول يحتاج إلى تقدير. والمعنى الأول: أولى، لأنه لا يحتاج إلى تقدير.

آيات الاستواء:

ﭧ ﭨ       ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَ یَطۡلُبُهُۥ حَثِیثࣰا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَ ٰ⁠تِۭ بِأَمۡرِهِۦۤۗ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأعراف ٥٤]   ([9])

فالآية تتحدث عن اللَّه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما تتحدث عن استوائه على العرش، حالة كونه يغشي الليل النهار، يطلبه حثيثا، كما تتحدث عن خلقه الشمس والقمر والنجوم حالة كونها مسخرة بأمره، ثم توجز الكلام بقوله تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ﴾.

فالحديث عن خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر والنجوم، من باب الخلق، والاستواء على العرش حالة كونه يغشي الليل النهار، وحالة كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره. كل ذلك يدخل في باب الأمر. ومن ثم كان  الختام  ﴿ أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأعراف ٥٤]   .

ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِیعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَ ٰ⁠لِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَهُمۡ شَرَابࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ وَعَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ﴾ [يونس ٤]

فبعد أن ذكر خلق السموات والأرض في ستة أيام، ذكر استوائه على العرش، حالة كونه يدبر الأمر، وأنه لا شفيع عنده إلا من بعد إذنه، وأنه المستحق للعبادة، وأن المرجع إليه، فيجازي كلا على حسب عمله، واستحقاقه.

ومثل ذلك أيضاً قوله تعالى

﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی رَفَعَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ بغیۡرِ عَمَدࣲ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلࣱّ یَجۡرِی لِأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۚ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ یُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاۤءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ  وَهُوَ ٱلَّذِی مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِیهَا رَوَ ٰ⁠سِیَ وَأَنۡهَـٰرࣰاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ جَعَلَ فِیهَا زَوۡجَیۡنِ ٱثۡنَیۡنِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعࣱ مُّتَجَـٰوِرَ ٰ⁠تࣱ وَجَنَّـٰتࣱ مِّنۡ أَعۡنَـٰبࣲ وَزَرۡعࣱ وَنَخِیلࣱ صِنۡوَانࣱ وَغَیۡرُ صِنۡوَانࣲ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَعۡقِلُونَ﴾ [الرعد ٤]. ([10])

حيث ذكر رفع السموات بغير عمد، ثم ذكر استواءه على العرش، وتسخيره الشمس والقمر يجريان لأجل مسمى، حالة كونه يدبر الأمر.

ومثل ذلك أيضا قوله تعالى:  ﴿ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ یَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَاۤءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ﴾ [طه ٨]([11])

قال الراغب في المفردات:

قيل: معناه استوى له ما في السموات وما في الأرض، أي: استقام الكل على مراده، بتسوية اللَّه تعالى إياه، كقوله: « ثم استوى إلى السماء فسواهن».

وقيل: معناه: استوى كل شيء في النسبة إليه، فلا شيء أقرب إليه من شيء، إذ كان تعالى ليس كالأجسام الحالة في مكان، دون مكان ([12]).

وهكذا نجد مقصد آيات الاستواء، مرتبط بسياقها، الأمر الذي لم يلتفت إليه كثير من العلماء، الذين شغلوا عنه: بالحديث عن معنى« الاستواء»، وحقيقته، مما كان سببا في الاختلاف، وتعدد الأقوال.

ويمكن أن يكون من قبيل ذلك قوله تعالى:

﴿مُّحَمَّدࣱ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ أَشِدَّاۤءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَاۤءُ بَیۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعࣰا سُجَّدࣰا یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣰاۖ سِیمَاهُمۡ فِی وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَ ٰ⁠لِكَ مَثَلُهُمۡ فِی ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِی ٱلۡإِنجِیلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ یُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةࣰ وَأَجۡرًا عَظِیمَۢا﴾ [الفتح ٢٩] ([13])

حيث استوى الزرع على سوقه، حال كونه يعجب الزراع
وجه اللَّه:

كثيرا ما يجعلون الآيات التي يذكر فيها: «وجه اللَّه» من آيات الصفات، علما بأن سياق هذه الآيات يدل على معنى آخر، وهو: «ما أريد به وجهه تعالى».

قال تعالى: ﴿وَلَا تَدۡعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا ءَاخَرَۘ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ لَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾ [القصص ٨٨] ([14])».

قال ابن تيمية في كتابه « تفسير آيات أشكلت »:

قال مجاهد في قوله: ﴿كُلُّ شَیۡءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجۡهَهُۥۚ:﴾ قال:«إلا ما أريد به وجهه».

وقال سفيان الثوري: «إلا ما ابتغى به وجهه».

 كما يقال: ما يبقى إلا اللَّه، والعمل الصالح. وفي الحديث: « الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر اللَّه وما والاه، وعالم ومتعلم»(1).

 فأي شيء قصده العبد وتوجه إليه بقلبه أو رجاه أو خافه أو أحبه أو توكل عليه أو والاه فإن ذلك هالك مهلك، ولا ينفعه إلا ما كان للَّه([15]).

ﭧ ﭨ  ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانࣲ وَیَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ یَسۡـَٔلُهُۥ مَن فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ كُلَّ یَوۡمٍ هُوَ فِی شَأۡنࣲ﴾ [الرحمن ٢٩] ([16])

يقول ابن تيمية: وهذا بخلاف قوله: ﴿كُلُّ مَنۡ عَلَیۡهَا فَانࣲ وَیَبۡقَىٰ وَجۡهُ رَبِّكَ ذُو ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾

فإنه حصر كل من عليها ولم يستثن- مع أن هذا المعنى تدل عليه- فإن جميع الأعمال تفنى، ولا يبقى منها شيء ينفع صاحبه، إلا ما كان لوجهه ذي الجلال والإكرام، كما قال مالك: «وما كان للَّه فهو يبقى، وما كان لغير اللَّه لا يدوم ولا يبقى»([17]).

﴿مَا عِندَكُمۡ یَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقࣲۗ وَلَنَجۡزِیَنَّ ٱلَّذِینَ صَبَرُوۤا۟ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ [النحل ٩٦] ([18])

وهكذا يكون معنى الآية: كل من على الأرض يفنى، ويبقى مما عليها العمل الصالح، الذي يجلّ اللَّه ويكرمه. وبناء على هذا يكون الاستثناء ممن عليها كأنه استثناء متصل. أما على القول الآخر- الذي يجعل «الوجه» بمعنى الصفة- فيكون الاستثناء فيه: أشبه بالمنقطع.

ولاشك عندي بأن القول الأول أرجح، لأن السياق في تعداد ما جعل اللَّه على الأرض من النعم التي جعلها للأنام، حيث قال: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ﴾ [الرحمن ١٠]([19])

ويشهد لذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةࣰ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدࣰا جُرُزًا﴾ [الكهف ٨] ([20]).

حيث يصبح كل ما عليها صعيداً جرزاً.

أما قوله تعالى: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِینَةُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ وَٱلۡبَـٰقِیَـٰتُ ٱلصَّـٰلِحَـٰتُ خَیۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابࣰا وَخَیۡرٌ أَمَلࣰا﴾ [الكهف ٤٦] ([21]).

فهو يشير إلى الباقيات الصالحات، وهي الأعمال الصالحة التي ابتغي بها وجه اللَّه.

كما يشهد لذلك قوله تعالى في آخر السورة: ﴿تَبَـٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِی ٱلۡجَلَـٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ﴾ [الرحمن ٧٨] ([22]).

فاللَّه ربنا- الموصوف بذي الجلال والإكرام-لابد أن يجل ويكرم أهل العمل الصالح الذي ابتغي به وجهه -والذي يجل اللَّه ويكرمه-. وذلك كما قال في جزاء أهل الإحسان: ﴿هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ﴾ [الرحمن ٦٠] ([23]).


(*)أستاذ التفسير وعلوم القرآن في عدد من الجامعات، وهذا المقال استكمال لدراسة طويلة نوالي نشرها في حلقات قادمة إن شاء الله تعالى.

الهوامش:

([1]) فاتحة نظام القرآن للفرا هي:ص3-4-مطبعة الإصلاح-الهند1352هـ.

([2]) القائد إلى عيون العقائد- للفرا هي- ص4-5-نسخة الكترونية.

([3]) مقدمة جامع التفاسير-للراغب-ص: 35

([4]) مقدمة جامع التفاسير للراغب- ص40-41

([5]) القائد إلى عيون العقائد- ص:3-4.

([6]) المائدة: ٦٤

([7]) الصافات: ٩٦

([8]) الصافات: ٩٥ – ٩٦

([9]) الأعراف: 54.

([10]) الرعد: ٢ –4

([11]) طه: ٥ – ٨

([12]) مفردات ألفاظ القرآن للراغب: مادة “سوا “.

([13]) الفتح: ٢٩

([14]) القصص: ٨٨

([15]) تفسير آيات أشكلت- لابن تيمية- ص411-412

([16]) الرحمن: ٢٦ – ٣٠.

([17]) تفسير آيات أشكلت- لابن تيمية- ص413

([18]) النحل: ٩٦

([19]) الرحمن: ١٠

([20]) الكهف: ٧ – ٨

([21]) الكهف: ٤٦

([22]) الرحمن: ٧٨

([23]) الرحمن: ٦٠

اترك تعليق

  1. يقول حسين:

    هناك خلل في ظهور أحرف آيات القرآن الكريم
    أرجو الإنتباه وتصويب الأحرف حتى نستطيع قرائة المقال
    جزاكم الله خيرا