*أ. د. رمضان خميس الغريب.*
تمر علينا هذه الأيام التاسع من مارس ذكرى وفاة هذا العلم الرائد الذي ارتاد لأمته مواطن الخلل ومكامن العلل وأرشدها إلى مكامن الصحو واليقظة ومواقع التميز والشهود، وصاح فيها من زمن صيحة النذير العريان حتى تتنبه وما زالت كتبه وآراؤه في حاجة إلى تفعيل وتنزيل؛ حتى تنهض هذه الأمة من كبوتها، وتتجدد الدعوة إلى التأمل في تراثه لظرف الأمة الراهن فقد أصبح ما يخافه الشيخ على أمته واقعا وهو قد وضع لها سبل النهوض وملامح الازدهار وحق علينا أن نبلغ فكره ورأيه للأمة ونهمس في أذنه مرة ونصيح فيها أخرى حتى تنهض وتواصل مسيرتها في قيادة البشرية لتصل بها إلى بر الأمان.
خرى حتى تستيقظ وتواصل مسيرتها في قيادة البشرية إلى بر الأمان.
وإذا كان الشيخ قد وضع يده علي هذه الأسباب فإن ذلك نصف العلاج والنصف الآخر يكمن في وصف الدواء المناسب لهذه العلل والأمراض ومن هنا اهتم الرجل بذكر السبل والوسائل التي من خلالها تنهض الأمة بعد كبوتها فهو يذكر ” أن الخسائر التي أصابتنا كانت لها أسباب والانتصارات التي أحرزناها كانت لها مقدمات وعلي المسلمين إذا جد جدهم أن يتعرفوا ما هي أسباب الانكسارات التي أصابتنا وما هي أسباب الانتصارات التي أدركتنا وأنقذتنا، وعندما نعلم أسباب المد والجزر في تاريخنا فإننا نعود صعداً من حيث جئنا ولا حرج علينا ” ويري أن نصرنا مرهون بالجبهة الداخلية وهي التي تمثل صلتنا بربنا أو صلتنا بإخواننا وصلتنا بالأصدقاء والخصوم علي سواء ودراسة أسباب النصر وعوامل الازدهار هامة لبعث الأمة لتكون في مصاف الأمم، وكما يقول الشيخ ” كما تدرس في كليات الطب جثث الموتى لتعرف أسباب الوفاة، وينتفع بها في علاج الأحياء كذلك لابد وأن ندرس الأمم المنهزمة، وتعرف ما فيها من علل فإذا اكتشفت هذه العلل وعرفنا جراثيم الداء أمكن الخلاص منه والبعد عنه أما الأمم التي تتفاقم أمراضها ولا تريد أن تبحثها ولا أن تبتعد عنها فتبقي بعلتها إلي أن تموت بها “
ومن هنا يضع الشيخ الغزالي عدداً من الأسباب التي يري أنها عوامل ازدهار للأمة ومن أبرز هذه الأسباب ما يلي: –
1- الشهود الحضاري: إذا كان الشيخ رحمه الله قد ذكر من أسباب الانهيار والتخلف في الأمة الغياب الحضاري، فإنه يذكر في أسباب العلاج والعوامل التي يراها عوامل ازدهار [ الشهود الحضاري ] ويقصد بها وجود الأمة فكراً أو علماً وثقافة بكل ما تحتمله هذه المفاهيم من معاني في ساح الحياة، فالإسلام كما يقول الشيخ ” لا يستعيد أمجاده الأولي إلا إذا استعادت أمته فقهها في علوم الأرض كما تستعيد فقهها في علوم السماء وإلا إذا جودت شئون العمران كما تجود التفسير والحديث إن هذه المعارف الضرورية لبناء الأمم وإقامة الحضارات فرائض مؤكدة، أسبق في حياة المسلم من نوافل الأذكار، والقراءات فإن الله لا يقبل نافلة حتي تؤدي الفريضة”
ويناشد الشيخ قادة الصحوة الإسلامية أن يكونوا علي حذر من متدينين لا يعون هذه الحقيقة، ويري أنهم بقية من عصور الانحطاط أو من هزائم الماضي، بل ليسوا أقل خطراً من قادة الغزو الثقافي المصمم علي إهانتنا وإضاعتنا
ويستعرض المجالات التي غاب فيها المسلمون حضارياً ومدى ما جره هذا الغياب علي الأمة من ويل وثبور وعظائم أمور فيقول ” تصور مثلاً أن المسلمين متخلفون في صناعة الدواء وأنهم في هذا الميدان عالة علي غيرهم من الأمم الشيوعية والصليبية أتظن أنهم بعد هذا التخلف يسدون إلي دينهم أو إلي أنفسهم جميلاً أم أنهم بهذا التخلف يهزمون مبادئهم ومثلهم العليا في أول معركة مع عدوهم؟ تصور أنهم متخلفون في ميدان الطباعة أتراهم يستطيعون السيطرة علي وسائل النشر وإبراز الحقائق وإغراء ألوف القراء بمطالعتها أو الإقبال عليها؟ ” ويقصد من وراء ذلك أن تزدهر هذه المعارف وغيرها في المجتمع الإسلامي، وأن تبلغ براعة المسلمين في هذه الميادين حد التفوق فإذا قورن بهم غيرهم في النواحي المدنية والعسكرية كانوا أرجح كفة وأهدي سبيلاً وأماني المسلمين من غير عمل أو زعمهم في هذه المجالات من غير بذل وجد وعطاء وتضحية لا تفيدهم شيئاً لأن سنن الله في كونه لا تغلبها المزاعم والأماني، ولا طريق لمجد الحياتين إلا أن تباشر كل عمل وهي تحس أن الله عليها شهيد وأنها يجب أن تبلغ به مداه وفق ما شرع من وحي سماوي أو وفق ما وضع من قوانين طبيعية وبذلك يضع الشيخ الغزالي الشهود الحضاري سبباً من أسباب نهوض الأمة
2- فهم الواقع: ويري الشيخ كذلك أن أسباب العودة إلي مصاف الأمم أن يفهم المسلمون الواقع في معالجتهم للقضايا التي يدلون فيها بآرائهم ففي عالم يبحث عن الحرية لا تصور الإسلام دين استبداد، وعالم يحترم التجربة وبتتبع البراهين لا تصور الدين غيبيات مستوردة من عالم الجن وتهاويل مبتوتة الصلة بعالم الشهادة، وفي عالم تقارب فيه المتباعدون ليحققوا هدفاً مشتركاً، فلابد وأن ننسي أموراً ليست ذات بال لتجتمع علي الأصل الذي تنطلق من خلاله وبفهم هذا الواقع تستطيع الأمة المسلمة أن تساير الركب وأن تسابق الحياة إذ هي وقتئذ تعرض دينها بالأسلوب المناسب للواقع المناسب، وهذا بلا شك من أبرز عوامل النصر وأسباب بالازدهار
3- الفهم الكلي للإسلام: ومن أسباب ازدهار الأمة التي يدعو إليها الشيخ أن يفهم المسلمون دينهم فهماً كلياً، فلا يقبل فيه عرض القضايا الخلاصة مهما كانت مهمة عند أصحابها ومن هنا فمن يظن أن الإسلام يجد من جهاته الأربع بلحية في وجه الرجل ونقاب علي وجه المرأة، ورفض للتصوير ولو علي ورق، ورفض للغناء والموسيقي ولو في مناسبات شرعية وبكلمات لطيفة، فليس من الدعاة إلي الإسلام في شئ ولا يريد الشيخ أن يوضح قلما معناُ في هذه الأمور، وإنما يريد إلا تعدوا قدرها وأل يظنها أصحابها ذروة الدين وسنامه وهي شئون فرعية محدودة بغير القتال من اجلها قضاءً علي الإسلام وتمزيقاً لأمته وينادي المسلمين اجمعين والدعاة منهم خاصة أن تكون نظرتهم إلي الإسلام نظرة كلية شاملة فبذلك نستطيع أن نرتفع بالأمة وأن نعيدها إلي مكانها الحقيقي
4- الوحدة: يري الشيخ أن الوحدة مسبب أسباب النصر، وعامل من العوامل التي تؤهل الأمة للازدهار فينادي الدول الإسلامية الكثيرة أن تتقارب وتوهي الحدود بينها، وأن يكون هدفها الأهم تجميع المسلمين كافة في مكان واحد أو جسد واحد روحه الإسلام ويري أن هذه الأيام نحن أحوج ما نكون فيها إلي الوحدة ولتواد وأمامنا من المواطن التي نلتقي فيها صفاً واحداً كثير من الأصول الثابتة، كما أن أمامنا مكر أعداء يودون لنا العنت ولا يألوننا خبالاً ويري أن المسلمين وقعوا في هذا المتشرذم والتفرق، وانقسموا في ارجاء الأرض علي أكثر من خمسين دولة أو دويلة ليست لها في سياسة العالم وزن يذكر ولا في توجيه شئونه رأي يسمع
ويضرب الشيخ أمثلة من صفوف الأعداء لعل المسلمين يعودون إلي رشدهم ويتوبون إلي صوابهم بأن المسيحيين نسوا الحروب الدينية التي اتقدت نارها منهم خلال القرون الوسطي وأخرجوا الخلافات الكبيرة التي تباعد بينهم أحياناً في أصول العقيدة وقرروا أن يلقوا أن يلقوا الإسلام وأهله صفاً واحداً وقوي مشترك، ويألم لأن الجامعة التي تلم شمل المسلمين لا تزال حلماً ، والصفاء الذي ينبغي أن ينير طريقهم لا يزال بعيداً
5- قيام الدولة بواجبها: ويري الشيخ الغزالي ورحمة الله أن الأمة إذا أرادت أن تنهض من كبوتها فلابد أن تقوم كل دولة مسلمة بواجبها نحو هذا الهدف فالدولة في الإسلام ليست طبلاً أجوف إنما هي ممثلة لتعاليم هذا الدين عبادة ومعاملة أخلاقاً وقوانين وليست تسلم السلطة لبشر مصاب بجنون العظمة أو مدع للألوهية، الدولة في الإسلام دولة تشرف بقواها الخاصة والعامة علي قيام المجتمع بأمر الله
ومن هنا فلابد أن تقوم الدولة تمهيداً لهذا الهدف العظيم بما يلي:
أ- تحديد علوم الدين وتبصير طلابه بالحقائق الرئيسة وتجاوز القضايا والخلافات التي خلفها الفراغ والترف في بعض الأزمنة، وبيان ما هو قطعي وما هو ظني وما هو أصلي وما هو فرعي، وتناول المذاهب المختلفة علي أنها وجهات نظر ليست معصومة من الخطأ
ب- أن تقوم الدولة بمحو الخصومة القائمة في ميدان العلم بين الفقهاء والصوفية علي أساس تجريد التصوف من البدع والخرافات التي التصقت به ورده إلي كتاب الله وسنة رسوله
جـ- تدريب جماهير المسلمين علي الشئون المدنية فهي بحاجة ملحة إلي مهارات كثيرة في ميادين الحياة العملية وتخلفها في هذا المضمار يهزم الإسلام وينال من قدرته علي قيادة الناس
د- غربلة التقاليد: ولابد كما يري الشيخ الغزالي من غربلة التقاليد الشائعة بيننا غربلة شديدة حتي لا يبغي منها إلا ما كانت له بالشريعة صلة، وعلي قدر قوة هذه الصلة وضعفها يكون استمساكنا بهذه التقاليد أو إهمالنا لها فبقاء هذه التقاليد كما هي مختلطة بأحكام الإسلام ليس علي كثير من المسلمين الآن فأصبحوا لا يفرقون بين أحكام الإسلام وتقاليد المسلمين
6- أسباب متفرقة: ويري الشيخ أنه لابد لكي تأخذ الأمة مكانها بين الأمم فلابد من الاهتمام بالتعليم والاعتناء به بداية من المرحلة الأساسية إلي نهايته القصوى وإعداد العلماء الربانيين الذين يجابهون الأمة بواقعها دون خوف أو وجل، وإحسان الصلة بالإسلام في صغير الأمر وكبيره، وأن تستعيد من تجارب الماضي فلا تقع في الأخطاء التي أذهبت ريحنا وأطمعت فينا عدونا، وأن تقدم صورة جميلة للإسلام تعجب الرائيين وتمحوا الشبهات القديمة، وتنصف الوحي الإلهي، كما يري أنه لابد من هيمنة الإسلام هيمنة صحيحة علي القوانين وردها إلي الفقه الإسلامي واحترام لغتنا احتراماً يسمع ويري في العالمين
*أستاذ الدراسات القرآنية المشارك في جامعة الأزهر*
*وكلية الشريعة جامعة قطر*