أسباب تأخر النصر – للأستاذ سيد قطب

بقلم الأستاذ سيد قطب(*)

في موضع من مواضع كتاب: “في ظلال القرآن” استعرض الأستاذ المفكر سيد قطب أسباب تأخر النصر؛ حيث يتساءل المسلمون اليوم عن أسباب هذا التأخر، وقد وجدنا في كلام سيد قطب الجواب الكافي والبيان الشافي في الإجابة عن هذا السؤال.

وإليكم نص ما كتبه سيد قطب، رحمه الله تعالى:

المحرر

(والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها، واحتشاد كل قواها، وتوفز كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها، كي يتم نموها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.

والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هينًا لينًا على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها.

وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه.

أولًا: لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة.

وثانيًا: لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه. فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.

وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف والتقدم والتقهقر. ومن المشاعر المصاحبة لها . . من الأمل والألم. ومن الفرح والغم، ومن الاطمئنان والقلق. ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة . . ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة، وتدبير الأمور في جميع الحالات . . وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة عليها وعلى الناس.

من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله.. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء.

* والنصر قد يبطئ على الذين ظلموا، وأخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله تعالى،

* قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المسلمة لم تنضج بعد، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية، وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئد لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها على حمايته طويلًا.

* وقد يبطئ النصر، حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.

* وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها دون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر مافي طوقها، ثم تكل الأمر بعدها على الله.

* وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندًا إلا الله، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج بعد النصر عندما يتأذن الله به، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.

* وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي نقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل رسول الله ﷺ، عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: “من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”.

* كما قد يبطئ النصر لأن الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة خير تذهب في الغمار.

* وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذ، فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بفساده، وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه.

* وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائمنا حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه.

* من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.

وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَأمُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) 40 -41 الحج

فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره. . فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء:

(الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر (أَقَأمُوا الصَّلَاةَ) فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين (وَآتَوُا الزَّكَاةَ) فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي كما قال رسول الله ﷺ -: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه»). ا.هـ.

—————————-

(*) من تفسير سورة الحج، في ظلال القرآن، للأستاذ الشهيد سيد قطب، وعنوان المقال من وضع المحرر.

اترك تعليق

  1. يقول عيسى:

    رحمه الله عليه