أهمية العلم بالسنن الاجتماعية

بقلم: أنيسة بنعيم سحتان

إن الحديث عن السنن الاجتماعية يعد منارة للمسلم اليوم في ظلمات هذا العصر بما فيه من تعقيدات ومعضلات، يكون فيها المسلم حيوانا، غير أن المسلم الواعي الذي يتعهد كتاب ربه بالقراءة والعناية والتدبر والفهم هو وحده الوحيد القادر على أن يكون واعيا ومستوعبا لكل ما يجري في هذا الكون من أحداث “1”.

ولقد ” أدى إغفال السنن وعدم فقهها في ميدان الدراسات الحضارية في واقع المسلمين الحالي إلى ضياع طاقات كثيرة بذلها مفكرون ومربون إسلاميون عظام، وذهب الكثير منها سدى في ظل مشكلة الإنسان المسلم صاحب المنهج الفقيه بسنن التحضر، الخبير بربط عناصر الكون وطاقاته المعنوية بالحياة الاجتماعية لخدمة الإنسان “2”.

والناظر في آيات القرآن الكريم ليجد الآيات الكريمة الكثيرة التي تغطي الحديث عن السنن الاجتماعية، وفي هذا ما فيه من أهمية لهذا الموضوع، وتلك العناية والرعاية بهذا الموضوع من القرآن الكريم، إشارة واضحة لضرورة أن يعتني بها المسلمون، وإن يولوه من الأهمية ما يستحق كباقي مواضيع القرآن الكريم. 

ومن نافلة القول أن سنن الله تعالى المبينة في القرآن الكريم وفي السنة الشريفة جديرة بالدراسة والفهم، لأن دراستها وفهمهما من الأمور المهمة جدا والواجبة شرعا ودينا، إذ هي جزء من معرفة الدين، ومن جملته معرفة أحوال الأمم مع أنبيائهم، وما حل فيهم بسبب سلوكهم معهم وفقا لسنن الله تعالى، كما أنها تبصرنا بكيفية السلوك الصحيح في الحياة حتى لا نقع في الخطأ والعثار والغرور والأماني الكاذبة، وبذلك ننجو مما حذرنا الله عز وجل منه، ونظفر بما وعد الله تعالى به عباده المتقين “3”.  

لذا فمعرفة الفرد بالسنن الاجتماعية تجعله أقدر على تسخير الكون بما فيه من حوله، والاستفادة من ذلك في تصريف شؤون حياته، وتحديد مسار سلوكه وفق ضوابط تحدد المعالم والأهداف، والسبل الموصلة إليها “4”.

 بالإضافة إلى أن الوعي بالسنن الاجتماعية يجعل الإنسان يتجنب تكرار أخطاء من سبقه، سواء تعلّق الأمر بالأمم التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، أو حتى الأمم القريبة العهد.

كما أن معرفة السنن الاجتماعية ” تفتح أمام الناس أبوابا للنجاة من خلال مدافعة السنن بعضها بالبعض الآخر. وإن من يفقه السنن لا تصدمه الأحداث، بل تكون لديه صلابة في الموقف بخلاف من يجهل مصدر الأحداث فإنه ليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق “5”.

وتعمل السنن الاجتماعية على النهوض الحضاري للأمم؛ فهي سبب في تقدم الأمة ورفعتها وازدهارها في شتى الجوانب؛ العلمية، والفكرية، والاجتماعية …إلخ.

ومن الذين لمحوا إلى أهمية دراسة السنن وضرورة التعرض لها والاستفادة منها، الأستاذ الإمام محمد عبده – رحمه الله تعالى – والذي وصف تفسيره أنه يبين حكم التشريع وسنن الله في الإنسان، وكون القرآن هداية للبشر في كل زمان ومكان. ويوازن بين هدايته وما عاين المسلمون في هذا العصر؛ إذ يقول رحمه الله: ” إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم المدونة لتستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أجمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون بها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه، كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال.. والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحمل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم؛ إذا أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها “6”.

وتتبين أهمية العلم بالسنن الاجتماعية من خلال عناية العلماء بهذا العلم وحثهم عليه، وقد عد حجة الإسلام الإمام الغزالي العلم بالسنن الاجتماعية من القسم المحمود من العلوم، وبين أن العلم بالسنن الاجتماعية يأتي في المرتبة الثانية بعد العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، لأن سنن الله تعالى في خلقه صنف من أفعاله سبحانه فقال: ” وأما القسم المحمود إلى أقصى غايات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه وحكمته في ترتيب الآخرة على الدنيا فإن هذا علم مطلوب لذاته وللتوصل به إلى سعادة الآخرة “7”. 

من هنا نستخلص أن العلم بالسنن الاجتماعية واجب لفهم الدين، والقدرة على تحقيق الخلافة في الأرض والعيش بسعادة وراحة تمكننا من الفوز في الدنيا والآخرة. 

يقول سيد قطب “8” – رحمه الله تعالى – في بيان أهمية السنن وتعهدها: إن هنالك سننا ثابتة لهذا الكون؛ يملك الإنسان أن يعرف منها القدر اللازم له، حسب طاقته وحسب حاجته، للقيام بالخلافة في هذه الأرض، وقد أودعه الله القدرة على معرفة هذا القدر من السنن الكونية، وعلى تسخير قوى الكون وفق هذه السنن للنهوض بالخلافة وتعمير الأرض، وترقية الحياة، والانتفاع بأقواتها وأرزاقها وطاقاتها “9”.

وتظهر أهمية دراسة السنن الاجتماعية في الكون، والقرآن الكريم عندما يظهر أن هذه السنن بصفاتها السابقة وسماتها الثابتة تتلاقى مع السنن الكونية التي تجري على سائر البشر، فتعلم أن الثانية وجه آخر للأولى؛ بل وطريقة مأمون للدلالة على الله تعالى من أقرب طريق وهو طريق النظر في الأنفس والآفاق، التي قال عنها القرآن الكريم:﴿ سَنُرِيهِمُۥٓ ءَايَٰتِنَا فِے اِ۬لَافَاقِ وَفِےٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّيٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمُۥٓ أَنَّهُ اُ۬لْحَقُّۖ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ شَهِيدٌۖ﴾ [سورة فصلت: الآية 52]”10″ .

فالعلم بالسنن الاجتماعية من أعظم الوسائل لكمال العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وأقرب الطرق إليه وأقوى الآيات الدالة عليه، وأعظم العلوم التي يرتقي بها البشر في الحياة الاجتماعية المدنية، فيكونون بها أعزاء أقوياء سعداء، وإنما يرجى كمال الاستفادة منه إذا نظر فيه إلى الوجه الرباني والوجه الإنساني جميعا “11”.

وهذا النظر إلى السنن يجعل الإنسان أقدر على التعامل مع سنن الكون ونواميس الحياة الثابتة بلا تغير، المطردة بلا توقف، الماضية على الأفراد والجماعات والشعوب، وهذه المعرفة لسنن الله تعالى في الآفاق والأنفس لا تقل في أهميتها عن معرفة قوانين المادة والتعامل معها، ” فإن لسلامة النظرية أثرا هاما في الوصول إلى الحل بلا توقف الحل على صحتها ومقدار وضوحها.. ومن أكبر الظلم الذي ينزله الإنسان بنفسه أن لا يرى العلاقة التسخيرية الموجودة بين الإنسان والكون والمجتمع و الآفاق والأنفس، فيهمل نفسه ولا يضعها في المكان الذي يسخر الآفاق والأنفس على أساس السنن المودعة فيها “12”.

وكذلك فإن العلم بسنن الله تعالى الكونية العامة يعتبر طريقا إلى العلم بسنن الله الخاصة في المجتمع البشري، ومعرفة تقلبات الحياة به، ومعرفة تطوره، ومعرفة عوامل هذا التطور، ومعرفة مدى سلطان السنن الاجتماعية على هذا المجتمع، لأن العلم بهذه السنن عامة وخاصة هو القيم على توجيه الحياة وتصريفها بما وضع الله في خصائصه من طاقات لتصوير الظواهر الكونية ودوافعها القريبة أو البعيدة، وهذا العلم بالسنن الاجتماعية هو الذي وضع المجتمع الإسلامي في مكان الصدارة من الحياة يوم أن كان العلم بأوسع معانيه هو القائد لهذا المجتمع، فطاف آفاق السموات والأرض نظارا باحثا يستشف الحقائق الكونية من وراء السجف يكشفها له القرآن ويهديه إلى أصولها “13”.

وهكذا نجد أن التفقه في سنة الله والسير على نهجها يجعل الأمة تمشي سويا على صراط مستقيم، وعليه فإن هذا الأمر ليس بالسهولة المفرطة ولا بالتعقيد المعجز، وإنه ليسير على من يسره الله عليه وفتح بصيرته وأمده بمدد من عنده “14”.

ولذلك فإن الغفلة عن سنة الله تجعل الإنسان يفقد ” ميزاته الأساسية، وأمانته التي حملها الله إياها، والسلطان الذي أعطاه الله تعالى له، لتسخير ما خلق الله له، ويصير هذا الإنسان المكرم في أسفل سافلين، بل يصير نفسه مسخرا للذين يعلمون سنن الله “15”.

وكذلك من أهم دواعي الاهتمام بالسنن الاجتماعية المبثوثة في القرآن الكريم هو ” الوظيفة التي تضطلع بها في علاقتها بالعلوم الإنسانية عامة وبعلم الاجتماع خاصة؛ فمن شأنها أن تشكل مصدرا هاما لهذه العلوم نعيد على ضوئه النظر في الكثير من نتائجها وخلاصاتها ونمدها من ثم بنتائج وخلاصات يقينية أشبه من حيث الصرامة والدقة بمعادلات رياضية وفيزيائية، فتتضاءل الأخطاء نتيجة لذلك، وتتقلص ويصير من الممكن تجنبها وتفاديها “16”.


1:  السنن الإلهية في القرآن الكريم ودورها في استشراف المستقبل، الدكتور عماد عبد الكريم خصاونة، نشر في مجلة المنارة للبحوث والدراسات، المجلد 15، العدد 2، (2009م)، ص: 215.

2:  سنن الله في المجتمع من خلال القرآن، محمد الصادق عرجون، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط: 3، السنة: 1404ه – 1984م، ص: 27.

3:  السنن الإلهية في الأمم والجماعات والأفراد في الشريعة الإسلامية، عبد الكريم زيدان، ص: 16-17.

4:  أزمتنا الحضارية في ضوء سنن الله في الخلق، أحمد كنعان، ص: 39.

5:  حتى يغيروا ما بأنفسهم، سلسلة سنن تغيير النفس والمجتمع، جودت سعيد، دار الفكر المعاصر، بيروت – لبنان، ط: 7، السنة: 1414ه – 1993م، ص: 163-165.

6:  تفسير القرآن الحكيم المسمى ب ( تفسير المنار ) السيد رشيد رضا، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، السنة: 1973، د: ط،( 4/114-115 ) – بتصرف -.

7: إحياء علوم الدين، أبو حامد محمد الغزالي (المتوفى: 505هـ)، الناشر: دار المعرفة – بيروت، د: ط.ت، ( 1/39 ).

8:   هو: سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي ولد في أسيوط في 1906م وأعدم 1996م وفق 1386ه، واعتبر مفسرا مجددا ورائدا للفكر الإسلامي. سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد، صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص: 15-16 بتصرف.

9:  في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق القاهرة مصر، ط: 1، السنة: 1972م، ( 3/67 ).

10:  مفهوم السنن الربانية من الفهم إلى التسخير دراسة في ضوء القرآن الكريم، رمضان خميس زكي الغريب، ط: 1، السنة: 1421ه- 2015م، ص: 71

11:  تفسير القرآن الحكيم، ( تفسير المنار )، محمد رشيد رضا، ( 7/417 ) – بتصرف -.

12: حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص: 14-15 – بتصرف -.

13:  سنن الله في المجتمع من خلال القرآن، محمد الصادق عرجون، ص: 8.

14:  السنن الإلهية في السيرة النبوية، رشيد كهوس، ، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، السنة:2010م. ص: 139.

15: حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، ص: 225.

16: نشأة علم السنن الإلهية ومنهاج تدريسه، رشيد كهوس، نشر في مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، مجلد ،31، العدد 2، خريف 1435ه – 2013م، علمية محكمة جامعة قطر، ص: 151.

اترك تعليق