التقويم الهجري هوية أمة وتاريخ حضارة

بقلم أ. د :- وصفي عاشور أبو زيد     

يَقتربُ في هذه السنوات التي نعيشها الاحتفال بميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام مع الاحتفال بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تخطئ عينَ المتابع للأخبار والأحداث ضخامة الاحتفال بالسنة الميلادية وكمّ الأموال الهائل الذي يُنفق فيها، في الوقت الذي نلحظ فيه ضمورًا وخفوتًا في الاحتفال بالعام الهجري الذي يقتصر على مجموعة من الفعاليات داخل جدران المساجد في أحسن الأحوال، وبعض البرامج التي تَحكي وقائع الهجرة النبويَّة الشريفة التي نسمعها كما هي كل عام.   

ولا يرتضي الإسلام هذه الطرائق من الاحتفال التي يتمُّ فيها التبذير وإنفاق الأموال هباءً منثورًا بل ربما تطرق الأمر إلى ارتكاب بعض الموبقات، كما أن الاحتفال بالعام الهجري يحتاج إلى استنقاذ واهتمام وتوعية.

أثر ازدهار الحضارات وتخلفها

والواقع أن الأمَّة الإسلاميَّة لا ترتبط بتاريخها أو تقويمها الهجري إلا في حالات الازدهار والرقي والتقدم، وحينما يتحقق لها واقعيًّا مرتبة الشهود الحضاري على الأمم كما أراد لها القرآن الكريم.

وإذا تتبعنا تاريخنا وتقويماتنا التاريخيَّة وجدنا أن ما قبل سقوط الخلافة كان يُؤرخ له بالتاريخ الهجري أو قبل سقوطها بقليل حينما توزع ميراث الدولة العثمانيَّة وصارت “رجلًا مريضًا”، فكان يُؤرّخ للأحداث والمعارك والوقائع والمواليد والوفيات بالتقويم الهجري.

وبعد ترهُّل الحكم الإسلامي وذهاب الخلافة الكبرى تحوَّلَت الأمة إلى تاريخ آخر هو التاريخ الميلادي الذي نجلُّه ونحترمه أيضًا؛ لأنه ميلاد نبي ورسول من أولي العزم من الرسل، ولا يتم إيمان المسلمين إلا بالإيمان به، لكننا نتحدث هنا عن تاريخنا نحن، وهويتنا نحن، وحضارتنا نحن.

على أن تاريخ النصارى تاريخ روماني الأصل، عَدَّلَه بعض الملوك ورهبان النصارى ونسبوه إلى ميلاد المسيح -عليه السلام -بعد مولده بستة قرون أو ثمانية قرون تقريبًا، والأشهر الميلادية التي يدور عليها فلك هذا التاريخ تحمل في اشتقاقها ومعناها معانٍ وثنيَّة، ذات ارتباط بآلهة الرومان وعظمائهم.

والمغلوب -كما قيل- مولع بتقليد الغالب، فقلَّدت الأمَّة الإسلاميَّة -بعد أن صارت شبه أمة- غيرها من الأمم، وكان استخدام التاريخ الميلادي مظهرًا من هذه المظاهر، فأصبحت كل الدول العربيَّة والإسلاميَّة تؤرّخ بتواريخ أخرى غير الهجري باستثناء ما نجده في بلد كالمملكة العربيَّة السعوديَّة.

هوية الأمة في التاريخ الهجري

وما من شكّ في أن التقويم الهجري هو هوية أمة، وتاريخ حضارة امتدت عبر ثلاثة عشر قرنًا من الزمان لم نكن نؤرخ فيها إلا بهذا التاريخ، ومن هنا ارتبطت أمجادنا وأيامنا ومآثرنا بهذا التاريخ الذي تحوَّلنا عنه إلى غيره نتيجة لأحوالنا وأوضاعنا، كأثر من آثار الغزو الفكري الذي امتدَّ في فراغنا.

ولا يحسبنَّ أحد أن المسألة هامشيَّة أو فرعية بحيث يعد الحديث عنها نوعًا من اللهو أو خوضاً في الباطل، أو ضربًا من ضروب الترف الفكري في الوقت الذي تعاني فيه الأمة من دماء تسيل وأرواح تُزهق وبيوت تهدم وأعراض تنتهك وغير ذلك مما يمكن أن نهوِّن به من هذا الأمر، فقد استمرت المؤامرة لطمس التاريخ الهجري وإزالته وتجهيل الشعوب الإسلاميَّة به قرونًا متوالية؛ ففي القرن الثاني عشر الهجري الموافق للثامن عشر الميلادي عندما أرادت الدولة العثمانيَّة تحديث جيشها وسلاحها طلبت مساعدة الدول الأوروبيَّة العظمى (فرنسا وألمانيا وإنجلترا… الخ)، فوافقوا على مساعدتها بشروط، منها: إلغاء التقويم الهجري في الدولة العثمانيَّة فرضخت لضغوطهم، وفي القرن الثالث عشر الهجري، التاسع عشر الميلادي عندما أراد خديوي مصر أن يستقرض مبلغًا من الذهب من إنجلترا وفرنسا؛ لتغطية مصاريف فتح قناة السويس، اشترطتا عليه ستة شروط، منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر؛ فتم إلغاؤه سنة: 1292هـ/ 1875 م، واستبدال التقويم القبطي والميلادي به.

فلن تفيقَ أمتنا إلا إذا استضاءت بهذا التاريخ العريق، واستحضرتْ كل أيام السنة الهجريَّة، ونظرت في أحداثها نظر المتأمل المتفحِّص الواعي الذي يحيا التاريخ ثم يعبُر إلى واقعه المعاصر بدروس تضيء دروبَه وتمهد له السبيل.

من أجل هذا وجدنا المؤرخين والحكماء يقولون: “مَن وعى التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره، ومَن لم يعِ التاريخ في صدره لم يدرِ حلو العيش من مُرِّه” وذلك لأن التاريخ تجارب تضيف إلى وعي الإنسان وتجاربِه تجاربَ مضاعفة وتمد في عمره أعمارًا طويلة، وتبيِّن له مواضع العثرات ومكامن الخَلَل، وتبرز له أسباب القوة وعلامات العافية، فالتاريخ هو الذي نستكشف به ما تحت أقدامنا، ونستبصر به واقعنا، ونستصحبه لنستشرف به مستقبلنا.

دور الدعاة في التوعية بالتاريخ الهجري

وإذا كان البعض يرى الأمَّة الإسلاميَّة تمرُّ في المنحنى الحضاري الآن بدرجة متدنية إلى حد ما في رسمه البياني، فإن الكثيرين يرون أمارات الصعود تتضح شيئاً فشيئاً منذ أكثر من نصف قرن، وهذا لا يعني أن نستكين لهذه السنة الحضارية أو أن نخضع لحتمية تقليد المغلوب للغالب، ثم لا نفعل شيئًا أو نحرِّك ساكنًا، بل فيه ما يحفِّز الهمم، ويبعث على العمل والأخذ بالأسباب.

إن الأدوار التي يجب أن نقوم بها -هي أولاً- تعجّل بالصعود في منحنى الرسم البياني للحضارات، وتقوّم اعوجاج أمتنا، وتعالج من عللها وأدوائها، وتعرِّف الأجيال بواجبها نحو الأخذ بالأسباب في النهوض بالأمَّة والرقي بها حتى تصير غالبة لا مغلوبة وشاهدة لا مشهودًا عليها، وأخيرًا نعذر بهذا إلى الله تعالى وإلى أمتنا لعلهم يتقون.

ومن أهمّ الأدوار التي نعوِّل عليها هنا ونراهن عليها هو دور الدعاة، بعد أن تضاءل أملنا في كثير من المؤسَّسَات الرسميَّة والحكومات العربيَّة والإسلاميَّة، فعلى الدعاة والعلماء يُعقد الأمل، وإليهم يرجع الشباب، وفيهم يثق الناس، وبهم يتم التغيير والإصلاح، متى كان هؤلاء الدعاة ربانيين، فاقهين لدورهم ورسالتهم، خبراء بواقعهم وعلله وأدوائه، متمكنين في الوحي الأعلى الذي يصفون منه الدواء بعد تشخيص الداء،

ومن أهم الأدوار التي يمكن أن يقوموا بها ما يلي:

أولًا: إشاعة الاهتمام بالتاريخ الهجري كأن يُوصي الدعاة الناس أن يتواعدوا بالتاريخ الهجري، وأن يذكروا مواليدهم بالتاريخ الهجري، وقد أصبح اليوم ميسورًا أن تعرف ما يقابل تاريخ المواليد الميلاديَّة من الهجريَّة، وغير ذلك.

ثانيًا: أن يصبغ الدعاة المجتمعات بالصبغة الإسلاميَّة الممزوجة بهذا التقويم، فلا نؤرِّخ لمحاضرة تلقى إلا بهذا التاريخ، ونربط دائمًا بين الميلادي والهجري ابتداءً، وشيئًا فشيئًا يستقل الهجري.

ثالثًا: الاحتفال بكل مناسبة هجريَّة كالغزوات وأيام الإسلام في مواعيدها وتذكير الناس بها، واستخلاص أهم الدروس والعبر منها؛ لتكون وميضًا يبرق للدعاة، ونورًا يستضيء به العاملون.

رابعًا: الاحتفال بالشخصيات ميلادًا ووفاة من خلال التقويم الهجري، فتناول سير الشخصيات الهامة في تاريخنا الإسلامي القديم والحديث والمعاصر ونربط وقائع حياتهم بالتقويم الهجري.

خامسًا: تذكير الناس بأن المعتمد في الأحكام الشرعيَّة هو التاريخ الهجري، فحولان الحول -كشرط من شروط وجوب الزكاة- هو الحول الهجري باتفاق، والصيام يكون مع الهلال في رمضان، والحج يرتبط بأشهر معلومة في السنة الهجرية هي شوال وذو القعدة وذو الحجة، وعدة المطلَّقة أو المتوفى عنها زوجها تحسب بالتقويم الهجري، وهكذا فكثير من الأحكام الشرعيَّة مرتبط بهذا التقويم المجيد، يقول الإمام الرازي: “واعلم أن مذاهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمريَّة لا شمسيَّة، وهذا حكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، فأما عند اليهود والنصارى فليس كذلك” تفسير الرازي: 16/50.

سادسًا: إن هناك أيامًا نحتفل بها في تاريخها الهجري، ويجب أن تُستثمر هذه المناسبات للتأكيد على هذه المعاني، ومنها: يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وحادث الإسراء والمعراج، وحادث تحويل القبلة، كلها – بحمد الله- نحتفل بها في التقويم الهجري، وهي مناسبات ربما تمثِّل الحد الأدني من استبقاء هذا التاريخ.

سابعًا: إحياء حادث الهجرة النبويَّة بما يتناسب معه؛ فالهجرة حدث غيَّر مجرى التاريخ، وحوّل اتجاه الإنسانيَّة؛ فكانت تاريخًا مشهودًا وقف عنده التاريخ وتحول ليتجه اتجاهًا آخر؛ حيث أقيمت للمسلمين دولة، فأبرَمت الاتفاقيات والمعاهدات، وخاطبت الملوك والأمراء، وغزت البر والبحر، وتحققت لها الزعامة على الناس، والشهادة على العالمين.

ثامنًا: عقد مقارنة للناس بين الاحتفالات التي نلقي لها بالًا ونتكلف لها الأموال مثل أعياد الميلاد وأعياد الزواج وأعياد الحب وأعياد الأم، وكلها يتم الاحتفال بها من التاريخ الميلادي، في الوقت الذي نستصغر فيه مَن يتحدث عن التقويم الهجري وأهميته في حفظ هويَّة الأمة من الانطماس والذوبان، ويمكن البحث عن المقابل للتاريخ الميلادي هجريًّا، والمقابل للتاريخ الهجري ميلاديًّا من بعض المواقع الإسلاميَّة التي خصصت إمكانية ذلك، مثل موقع إسلام أون لاين. نت.

تاسعًا: كشف المؤامرات التي تهدف إلى طمس هذا التاريخ مع اللغة العربيَّة، مثل المؤامرات سابقة الذكر؛ لأن هذا التاريخ هو الذي يذكِّر الأمة بأمجادها وأيامها وصفحاتها المشرقة، وتحفظ به هويتها.

عاشراً: مطالبة الآباء والأمهات ببث الوعي في الأبناء بأهميَّة هذا التاريخ، وإجراء مسابقات لهم في أيامه ووقائعه حتى يظل الطفل دائمًا مرتبطًا به، وأن نحفِّظهم الأشهر الهجريَّة، ونعوِّدهم أن يكتبوا التاريخ الهجري في كراساتهم، وأن ينظِّموا حياتَهم عليها.

حادي عشر: مطالبة المدارس أن تهتم بهذا التاريخ وكتابته، على الأقل بجانب التاريخ الميلادي، وأن يعاقب المدرس على نسيانه، ويكافأ على كتابته.

ثاني عشر: مطالبة الصحف ومواقع الإنترنت -وبعضها يقوم بهذا- أن تؤرّخ لأحداثها وأخبارها ومقالاتها وتحقيقاتها وحواراتها بهذا التاريخ على الأقل بجانب الميلادي.

ثالث عشر: مطالبة الهيئات والمؤسَّسَات المهتمَّة بالدعوة والأوقاف والإرشاد الديني بالتوعية بهذا الأمر والاهتمام به، وأن يثمنوا من أهميته لدى الشرائح التي تقوم بالتوعية والتأثير.

رابع عشر: مطالبة المصالح الحكوميَّة أن تؤسِّس سنواتها الماليَّة وأجازاتها وبنوكها ومستشفياتها بناء على التاريخ الهجري، وفي هذا ارتباط كبير للناس به.

خامس عشر: وهي نقطة مهمة ولها أثرها في هذا الأمر، وهي مطالبة الحكومات أن تجعل رواتب الناس مرتبطة بالتاريخ الهجري لا الميلادي، وعندها سيتيقَّظ المسلم وغيره لكل يوم في الشهر الهجري.

هذه خمس عشرة وسيلة جمعت بين الفرد والأسرة والمؤسَّسَات والحكومات والإعلام والدعاة وغيرها، أعتقد أنها لو تضافرت فيما بينها، وبنى بعضها فوق بعض، وكمَّل بعضها نقص الآخر، وشدَّ كلٌّ منها أزر أخيه فلن تكون هناك أدنى مشكلة في الاهتمام بهذا التأريخ الذي ينطوي على صفحاتنا المشرقة، ويحمل أيامنا المشهودة، ويحفظ هويتنا الإسلاميَّة.

اترك تعليق