التكامل والانسجام بين المقاصد والأحكام

بقلم د. عطية عدلان(*)

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

عجبت من جرْأَةِ هؤلاء على دين الله! باسم الدين يهدمون الدين! وباسم الشريعة يبطلون الشريعة! وبذريعة التكيف مع المستجدات يَخْرُجون ويُخْرِجون الناس من الالتزام بأحكام الإسلام! لعمري إنَّها لَجرْأَةٌ أوقح وأقبح من جرْأَةِ الكفار على اقتحام النار، أوقح وأقبح؛ لأنَّها جمعت بين الضلال والإضلال وبين التلاعب بدين الله وشريعته.

   إنَّ المتابع لما يكتبه ويروجه بعض ممن ينتسبون للإسلام وللعلم الشرعيّ يجد عجباً؛ يجد قوماً يعيدون صياغة ما كتبه العلمانيون الصرحاء بأسلوب الأصوليين والفقهاء، فيلبسون على الناس دينهم، ويدخلون عليهم بذات البضاعة البائرة الخاسرة من باب المقاصد، ولو علم الشاطبيّ والغزاليّ والقرافيّ والجوينيّ وغيرهم ممن تعرض لمقاصد الشريعة بأنَّ ما سطروه سيقع في أيدي هؤلاء السفهاء ليتخذوه تُكْأَةً لإبطال الشريعة لكسروا أقلامهم؛ صيانة لها ولأنفسهم عن نسبة هذا الدجل الحداثيّ الغريب.

    إنَّهم يطرحون طروحات كثيرة بأساليب وحيل متنوعة، تنتهي كلها إلى نتيجة واحدة قد انتهى إليها العلمانيون من قبل عندما ادعوا تاريخية النصوص ووقتية الأحكام، وعندما  نزعوا عن النصوص عصمتها بعد تلبسها بعقول الفاهمين لها المؤولين لمقاصدها، هذه النتيجة مفادها بإيجاز: أنَّ الله تعالى شرع الأحكام مشتملة على حكم ومصالح، وأنَّه باستقراء هذه الأحكام وجد أنَّها أثمرت المقاصد التي جمعها العلماء ودونوها في كتب المقاصد؛ فلا ضير إذاً أن نتحرر من الأحكام ما دمنا متقيدين بالمقاصد؛ لأنَّ غرض الشارع إذا تحقق على أي نحو خرجنا من العهدة.

   وهذا – لعمر الحق – غاية الضلال؛ لأنَّ الله تعالى إنما تعبدنا بالأحكام أصالة المتضمنة للمقاصد ضرورة، ولنضرب لذلك مثالاً – ولله المثل الأعلى – لو أنَّ رجلاً يقود سيارته حسبما يريد، مخالفاً كل قواعد المرور، جيء به ليحاسب على مخالفاته، وأمام القاضي وقف مدافعاً عن نفسه قائلاً: أليس المقصد من قواعد المرور هذه هو حفظ الأرواح وتسهيل المرور، فأنا سأحقق هذه المقاصد بما أراه من أحكام وقواعد تتفق مع طبيعتي ومصالحي، فليس لكم أن تحاسبوني على مخالفتي لقواعد وقوانين إذا كنت قادراً على تحقيق مقاصدها بدون التقي دبها حرفيَّاً، هل يشك عاقل في أنَّ هذا شخص مغفل لا يعبأ القضاء بهلوسته ولا تلتفت المنصة إلى هرطقاته ؟!

   ولو أنَّ قائلاً قال لأحدهم: إنَّ العدل من مقاصد الشريعة قطعاً، فبموجب هذا المقصد سوف أطالب بسن قانون يسوي بين الابن والبنت في الميراث، وقانون يعطي الزوجة الحق في القوامة كما هي للرجل سواء بسواء؛ فماذا يكون جوابه ؟! إن أجابه إلى ما يقول فقد هدم حكماً معلوماً بالضرورة من الدين الذي يدين به، وإن لم يجبهم فقد هدم أصله الذي يدندن حوله.

   إنَّ المقاصد لم تنفصل عن الأحكام يوماً، وإنَّ الأحكام والمقاصد لحمة واحدة كالشمس وفلكها الذي تدور فيه، وما علم العلماء المقاصد إلا من استقرائهم للأحكام، وما قال واحد منهم – وكتبهم حاضرة بادية للناظرين – إنَّ هذه المقاصد يمكن أن تغني عن الأحكام أو تكون بديلاً عنها، وإنَّ سعيهم كله كان في اتجاه واضح المعالم وهو الاسترشاد بالمقاصد في الاجتهاد الفقهيّ؛ حتى لا يؤدي الانسياق الكامل مع القواعد اللغوية أو مع القياس إلى الغفلة عن الحكم والمصالح المضمرة في الأحكام.

    وغالب هؤلاء يعيد الطرح العلماني الرامي إلى الخروج على الشريعة بأساليب ملتوية، وجُلُّهم يَتَسَربل بجمل فقهية وأصولية مبعثرة، لا علاقة بينها إلا كالعلاقة بين رُقَع متنافرة حِيكَت في صورة ثوب يُلْبَس أو رداء يُرْتَدَى، والأمر لمن رام الاستيعاب كبير وخطير، ولعلنا نعالجه في بحث مستقل، والله وحده المستعان.


(*) مدير مركز محكمات للبحوث والدراسات.

اترك تعليق