أ.د: محمد مختار الشنقيطي
لا يمكن فهم المزاج السياسي السائد في تراثنا، وموقفه السلبي من أي مسعىً للتغيير السياسي، إلا بالرجوع إلى الفتنة الكبرى في القرن الأول الهجري، وفهم ارتدادتها وآثارها العقلية والنفسية. فقد وضعت تلك الحرب الأهلية الدامية الأمة في مأزق الاختيار بين الخنوع للقهر السياسي أو الاندثار في الحرب الأهلية.
وانتهت الحرب بصفقة عام الجماعة التي أَسَّست للتضحية بشرعية السلطة مؤقتا، أملا في تحقيق وحدة الأمة على المدى القريب، ثم استعادة الشرعية السياسية على المدى البعيد.
لكن معادلة التضحية بالشرعية لصالح الوحدة تحكمت في الثقافة السياسية الإسلامية بعد ذلك، ولم تستطع الخروج منها إلى اليوم.
لقد توسَّع أمراء الجوْر في تعريف “الفتنة” حتى أصبحت تشمل كل موقف ناقد أو ناصح، يرفض السير في ركاب الظلمة ويستبشع ظلمهم.
كانت الفتنة الكبرى مدخلا للانتقال من منظومة أخلاقية هي قيم التعاقد السياسي الإسلامية، إلى منظومة قيمية مغايرة تماما هي قيم التملُّك والقهر، وذلك ما عناه مالك بن نبي بالانتقال من “جو المدينة” إلى “جو دمشق” (مالك بن نبي، شروط النهضة، 47). فلم يكن انتقال مركز الدولة الإسلامية من المدينة إلى دمشق انتقالا جغرافيا فحسب، بل كان تحولا أخلاقيا شاملا، من قيم الخلافة إلى قيم الملك.
لكن للانتقال الجغرافي دلالته أيضا، فما كانت قيم الملك لتجد لها جذورا في مهد الإسلام حيث وُلدت وترعرت دولة النبوة والخلافة الراشدة، وإنما كانت دمشق وبغداد -حيث ورث المسلمون فيها التقاليد الامبراطورية البينزطية والساسانية- هما المؤهلتان لاستضافة ذلك الانحراف في القيم السياسية.
وحينما تكشَّف أن التنازل عن الشرعية السياسية عام الجماعة لم يؤد إلى رجوع أمر الجماعة إليها بعد موت معاوية، بل تم استغلاله لبناء واقع دائم يخذل قيم الإسلام السياسية، ويتأسس على الوراثة والغلبة، انفجرت أرجاء العالم الإسلامي ثورات دامية، تسعى إلى إحياء القيم السياسية الإسلامية، واسترداد الخلافة الراشدة.
ومن تلك الثورات: ثورة الحسين بن علي ضد يزيد بن معاوية. وقد ثار الحسين “غضبا للدين وقياما بالحق” حسب تعبير ابن العربي (العواصم، ص 237). ومنها ثورة أهل المدينة الذين “قاموا لله” حسب تعبير الذهبي (سير أعلام النبلاء، 4/37)، وقاد هذه الثورة الصحابي عبد الله بن حنظلة، والتابعي عبد الله بن مطيع.
ومن ثورات القرن الأول الهجري أيضا ثورة الصحابي عبد الله بن الزبير الذي نجح في جمع السواد الأعظم من الأمة إلى جانبه، وكان هو وأصحابه “يرون الأمرَ شورى” (تاريخ الطبري 4/494) أي أنهم كانوا يحملون مشروعا سياسيا مناقضا لمشروع المُلْك الجبري والتسلط القهري. ومنها ثورة التوابين بقيادة الصحابي سليمان بن صرد، وثورة الفقهاء بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث.
لكن فشل تلك الثورات في استرداد الخلافة الراشدة زرع تشاؤما دفينا في الضمير المسلم حول أي جهد للإصلاح السياسي مهما يكن متعيِّنا. وكان للفظائع التي ارتبكها أمراء الجور، أمثال يزيد بن معاوية، وعبيد الله بن زياد، والحجاج بن يوسف، أثر كبير في تعميق هذا التشاؤم.
ومن تلك الفظائع ذبح آل البيت النبوي في كربلاء، واستباحة المدينة المنورة في وقعة الحَرَّة، وإحراق الكعبة في إخماد ثورة ابن الزبير، حيث “احترق البيت [الحرام] زمن يزيد بن معاوية، حين غزاها [أي مكة] أهلُ الشام” (صحيح مسلم 2/970).
وزاد من هذا التشاؤم سوءُ صنيع بعض المعارضين السياسيين، مثل الخوارج الذين استباحوا المجتمع كله بحجة تخليصه من الجور السياسي، كما تفعل بعض جماعات السلفية الجهادية اليوم التي تجرَّدت من الفقه الشرعي والحكمة السياسية، فانتقلت من الخروج على الحاكم الظالم إلى الخروج على الشعب المظلوم.
كل ذلك جعل الخوف من الفتنة هاجسا مرَضيا، وكابحا نفسيا، يستبطنه العقل الفقهي الإسلامي الذي ضحَّى بالشرعية حفاظا على وحدة موهومة تتأسس على القهر، ويا لها من صفقة خاسرة، أدرك الدكتور رضوان السيد عواقبها، وعبَّر عنها بالقول: “إن قضية الوحدة، وهي قضية الإسلام نفسه، لا يمكن أن تنفكَّ أو تنفصل عن قضية الشرعية [السياسية]… ففقْدُ الشرعية يقود إلى فقْدِ الوحدة، وخسرانِ قضية الإسلام كله على المدى الطويل.” (رضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، 143).
لقد توسَّع أمراء الجوْر في تعريف “الفتنة” حتى أصبحت تشمل كل موقف ناقد أو ناصح، يرفض السير في ركاب الظلمة ويستبشع ظلمهم. وكان السفَّاح الحجاج بن يوسف -ولا غرو- رائد هذا التعريف المتوسع للفتنة، فضمَّنه “النَّجْوى” التي قد يتناجاها الرعية فيما بينهم، و”الشكوى” من ضياع حقوقهم، و”الخطابة” المعبِّرة عن همومهم!
يقول الشيزري: “كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجَّاج بن يوسف أنْ صِفْ لي الفتنة حتى كأني أنظر إليها. فكتب إليه الحجاج: إن الفتنة تَلْقَحُ بالنَّجْوَى، وتُنْتِجُ بالشَّكْوَى، ويقوم بها الخطباء، وحصارُها بالسيف.” (الشيزري، المنهج المسلوك في سياسة الملوك، 559).
وقد سار كثير من السلاطين وفقهائهم على نهج الحَجَّاج بن يوسف في تعريف الفتنة تعريفا متوسعا، حتى رأينا في أيامنا هذه من يعتبر المظاهرات السلمية فتنة، والكتابة الناقدة للظلم السياسي فتنة، وحتى النصح العلني للحكام فتنة!! لكن عبرة أربعة عشر قرنا من تاريخ الإسلام تدل على أن لا فتنة أعظم من الاستبداد.
وقد أدرك ذلك الشهيد الحسين بن علي حينما كتب إلى معاوية مرة قائلا: “ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة” (ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، 14/206).
كما أدرك اثنان من فقهاء السياسة المسلمين أن الاستبداد والحيف السياسي هما أصل الفتنة ومصدرها. أولهما هو ابن تيمية الذي كتب معلقا على الآية الكريمة “واتقوا فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة” (سورة الأنفال، الآية 25): “إن الظالم يَظلمُ، فيُبتَلَى الناس بفتنة تُصيبُ من لم يظلم، فيعجز عن ردِّها حينئذ.
بخلاف ما لو مُنع الظالم ابتداءً، فإنه كان يزول سبب الفتنة.” (ابن تيمية، منهاج السنة، 3/323).
إن الاستبداد ليس أخفَّ الضررين، ولا خيْرَ الشرَّيْن، كما يحاول أن يقنعنا فقهاء السلاطين من الطُّمَّاع والمغفَّلين، بل هو أصل الفتنة وجِذْرها.
والثاني فهو الفقيه السياسي المعاصر عبد الرحمن الكواكبي الذي لاحظ أن “الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارا طبيعيا.” (الكواكبي، طبائع الاستبداد، 180).
وهكذا أدرك ابن تيمية والكواكبي بفقههما الشرعي وذكائهما السياسي أن أصل الداء هو الظلم السياسي، وأن الأخذ على يد الحاكم الظالم ابتداءً هو الذي يقي المجتمعات من الفتن الاجتماعية والحروب الأهلية.
إن الفتنة في الاصطلاح القرآني هي “إيذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه الحق، أو من الاستمرار عليه.” (أبو زهرة، زهرة التفاسير، 6/3127).
فدفْع المظلوم لجور الظالم ليس فتنة، وقتال الشعوب للحكام الذين يقتلونها ليس فتنة، والثورة ليست فتنة، بل هي الوقاية منها والعلاج. والقتال الشرعي هو العاصم من الفتنة، السادُّ لأبوابها، طبقا لصريح النص القرآني: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة” (سورة الأنفال، الآية 39).
إن الاستبداد ليس أخفَّ الضررين، ولا خيْرَ الشرَّيْن، كما يحاول أن يقنعنا فقهاء السلاطين من الطُّمَّاع والمغفَّلين، بل هو أصل الفتنة وجِذْرها، والسبب المفضي إليها. إنه حرب أهلية مؤجَّلة، وبركان كامن مشحون بالدماء والأشلاء. فلتستعد الشعوب التي تفرِّط في الحرية، وتذعن للاستبداد، لجحيم الحرب الأهلية، عاجلا أو آجلا. لقد سكتتْ أمَّتُنا على الظلم السياسي زمنا طويلا، فهي اليوم تتطهَّر بدمائها من إثم السكوت على الظلم والركون إلى الظالمين