بقلم الإمام يوسف القرضاوي رحمه الله تعالى (*)
“درسي عن حديث تجديد الدين”
وكانت الدروس عادة تنطلق من آية كريمة، أو من حديث شريف، وقد سألوني عن منطلق الدرس، وهل هو مكتوب أو مُرتجل، فأخبرتهم أنه مرتجل، وأنه ينطلق من الحديث النبوي الذي رواه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة: من يجدد لها دينها»
والذي رجّح اختياري لهذا الحديث: أننا في أوائل القرن الخامس عشر الهجري، فلم يمض منه إلا سنتان وبعض الثالثة.
وفي الليلة المعهودة، ذهبت إلى قصر الملك، وحيَّيته وسلَّمت عليه من وقوف، ولم أضطر إلى أن أنحني، أو أخرج عن طبيعتي قيد أنملة، كما قد قيل لي من قبل. بل كان الرجل ودودًا بشوشًا مُرحَّبًا بي أكثر من غيري، ممن ألقوا دروسًا قبلي.
وقد استمعت إلى بعضهم، فوجدتُ منهم من يسرف في الثناء والإطراء نثرًا وشعرًا، ولكن لم يلزمهم أحد بذلك، وإنما هم الذين التزموا به طوْعًا.
جلست على الكرسي وجلس الجميع – ومنهم الملك نفسه – على الأرض، وقد حضر ولي العهد – وهو الآن الملك محمد السادس – وحضر الوزير الأول والوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة الجيش، وسفراء الدول الإسلامية، وكبار العلماء ووجهاء البلد. وكان سفير قطر في ذلك الوقت هو عميد السلك الدبلوماسي، لعراقته في وظيفته هناك، وهو الأستاذ عبد الله الجيدة.
وابتدأت درسي بقولي: مولانا الملك المُعظم… ثم استرسلت في درسي. وجدت الخطاب بهذا الوصف هو أكثر ما يكون ملاءمة لموقفي، وهو تعبير صادق عن الواقع، وليس فيه ما يؤخذ عليَّ.
فأما كلمة «مولانا» فكر المسلمين موالي بعضهم لبعض، {وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖ} [التوبة: 71]، وأما كلمة «الملك» فهذه حقيقة، فهو ملك مبايع من شعبه، وأما كلمة «المُعظم» فهي حقيقة كذلك، بل هو معظَّم جدًّا، ولا سيما من ناحية نسبه الشريف، إذ هو يفخر بأنه ينتمي إلى الحسن السبط أحد سيدي شباب أهل الجنة. فلم أكذب ولم أنافق فيما قلت.
ثم أوردت الحديث كما هو في «سنن أبي داود»، وأخذتُ أشرحه وأربطه بالواقع، مُبيِّنًا معنى التجديد وجوانبه المختلفة، وهل المجدَّد فرد أو جماعة أو مدرسة؟ واخترت الاتجاه الثاني، وكلمة «من» في الحديث، تصلح للجمع، كما تصلح للمفرد، وعرجت على قضايا واقعية حية، في الخمسين دقيقة التي استغرقها حديثي، وقد كان الملك يصغي إليَّ باهتمام: بوجهه وعينيه وأذنيه، وكذلك الحاضرون جميعًا، وكان حديثي يحمل نقدًا للواقع، الذي نعيشه في ديار العرب والإسلام، وهو حديث عالم مشغول بالدعوة والإصلاح والتجديد، فلا يُتصور أن ينفصل عن واقع الأمة وأدوائها وآمالها.
“مناقشة مع الملك”
وفي آخر الدرس، أو قل: بعد أن ختمته، سألني الملك سؤالًا مهمًا على عادته في مناقشة العلماء، وذلك حين قال: إنَّ الذي نحفظه في رواية هذا الحديث: أنه بلفظ: «يجدِّد لها أمر دينها».قلت: هذا هو المشهور على الألسنة، ولكن الذي رواه أبو داود في كتاب الملاحم من «سننه»، ورواه الحاكم في «مستدركه»، ورواه البيهقي في «معرفة السنن والآثار»، كلهم متفقون على هذه الصيغة: «يجدد لها دينها»، والتجديد بالمعنى الذي شرحته لا حرج فيه.
وقد كان هذا السؤال من الملك والرد عليه مني بصراحة، موضع حديث المغرب كله: أني رددت على الملك، ولم أُسلِّم له، كما يفعل كثيرون، ولا أرى في ذلك بطولة ولا فضلًا، فقد سأل الملك سؤالًا، وبيَّنت له الإجابة حسب علمي. ولن أحرّف العلم من أجل الملك، ولا أحسبه هو يرضى ذلك مني، ويبدو أن الذي تعوده الناس من العلماء: ألا يعقبوا على ما يقوله الملك.ولانشغالي بالدرس أكثر من انشغالي بالملك، لم أفكر في الدعاء له في ختام حديثي. فقد تركت نفسي على سجيَّتها، وكأنما أنا في درس في أحد جوامع الدوحة.
وفي ختام المجلس: صافحني الملك بحرارة، وقال لي: نريدك أن تكون معنا في الموسم القادم. وطلب مني أن أبلغ سلامه إلى سمو أمير قطر الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقد فعلت. كما سلَّم عليّ وليّ العهد وكبار رجال الدولة، وسفير قطر، الأستاذ عبد الله الجيدة، عميد السلك الدبلوماسي في المغرب، وسفير عُمَان، وقد كان ممن يحضرون دروسي في الدوحة، وقد حصل على الثانوية من قطر، وهو من آل الحارثي.
“صدى الدرس في المغرب”
كان لهذا الدرس – الذي أعُدّه عاديًا بالنسبة لي – صدى واسع عند الناس كافة في المغرب، حتى قابلت بعض أساتذة الجامعات بعد ذلك، ووجدتهم مسرورين من حديثي، معجبين به، ولا سيما أني لم أراع فيه إلا وجه الله تعالى، ولم ألو فيه عنق الحقائق، ولم أحرِّف الكلم عن مواضعه، ولم أنحن ولم أنثن. ونوَّهت مجلة العدل والإحسان، على لسان مؤسِّس الجماعة الشيخ عبدالسلام ياسين بموقفي في هذا الدرس.
وكان عندي لقاء مع الشباب الإسلامي في تلك الليلة، التي سأسافر إن شاء الله في صباحها.
والتقيت الشباب، أظنُّ ذلك في منزل الأخ الفاضل عبد الإله بن كيران، وعددًا كبيرًا من إخوانه، وكانوا في غاية السرور والانشراح من الدرس وصداه في المجتمع المغربي، الذي لمسه الجميع بمجرد إلقائه.
وكان مما قالوه لي: إنك لا تعرف أثر هذا الدرس في هذه المملكة كلها، إن الناس في المغرب كله – على اختلاف مستوياتهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية والدينية – كانوا ينتظرون ماذا سيقول القرضاوي في درسه أمام الملك: الإسلاميون، والليبراليون، والماركسيون، والقوميون، وكل الأحزاب والفئات.
قلت لهم: حتى الإسلاميون كانوا ينتظرون هذا الدرس؟
قالوا: نعم، كان الإسلاميون وربما نحن منهم، يقولون: إما أن نمزق كتبه بعد هذا الدرس، إذا لم يوفَّ بحقها، ولم يحترم ما قاله فيها، وإما أن نزداد احترامًا واحتضانًا لها!
قلت لهم: لعل كتبي سلمت من التمزيق!
قالوا: الحمد لله، بل ازددنا لها حبًّا، وبصاحبها تعلُّقًا، وهذا هو الموقف في المغرب من أقصاه إلى أقصاه.
قلت: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
(*) من مذكرات الشيخ رحمه الله،سيرة ومسيرة، في فصل زيارة المغرب والمشاركة بدرس من الدروس الحسنية.
رحم الله شيخنا الحبيب وادخله فسيح جناته
رحم الله شيخنا الحبيب وادخله فسيح جناته وعوض الأمة الإسلامية عنه خيرا