مقال بقلم الدكتور عبد السلام البسيوني
الشعراوي صاحب أول تفسير شفوي في تاريخ الأمة
على بعد بضع مئات من الأمتار من جمهورية زفتى، وتحت الكوبري الإنجليزي الفاصل بين منية غمر ومنية زفتى! وسط خضرة “من العيار الثقيل” وماء عذب سلسبيل، قامت بضعة بيوت ريفية متواضعة لتشكل قرية اسمها دقـادوس، شهدت مولد الشيخ العالم المفسر اللغوي الشاعر العلامة محمد متولي الشعراوي أوائل هذا القرن العشرين! وكانت ميت غمر – التي نشأ الشعراوي في حواشيها – تضم حارة لليهود ذات قوة اقتصادية، وتضم جالية نصرانية لا بأس بها، لوجود بعض الكنائس القديمة بالمنطقة، فضلًا عن الازدهار التجاري والتعليمي في المدينة ذاتها!
وكانت مصر كلها – آنذاك – تموج بتيارات ثقافية وسياسة واجتماعية هائلة:
الشعب المصري يرزح تحت أعباء ثقال من التخلف والجهل، والإنجليز يحتلون كبرى بلاد الشرق وأعرقها، والمستشرقون: جب، وماسينيون، وإسرائيل ولفنسون، وكارل نللينو – وغيرهم – يستوطنونها ليزرعوا مناهج فكرية ستؤثر تأثيرات شديدة في الدراسات الدينية والاجتماعية، والسياسات التعليمية والإعلامية.
وبعض (أبناء البلد) وافقوا الإنجليز، وحطبوا في حبالهم، وخانوا – عند معظم المصريين –وطنهم مصر، جهارًا نهارًا، كإسماعيل صدقي باشا (بلدياتي) ومحمد سلطان باشا شعراوي رئيس مجلس الأعيان ووالد هدى هانم شعراوي، ومصطفى فهمي باشا والد صفية زغلول، ولطفي السيد، وغيرهم، كما ظهر وطنيون أبطال كمحمد فريد ومصطفى كامل وغيرهما!
وأخذ نصارى الشام ويهودها يـنزحون إلى عاصمة الثقافة ليؤسسوا المسرح، ويوطـدوا للموسيقى، ثم للسينما، والصحافة، حيث ظلت المقتطف والأهرام وأخواتهما ترحب بالإنجليز وجودًا وفكرًا وحضارة، ويظهر أقطاب كبار في الفكر والأدب والسياسة يتعاركون، ويوالون، ويعادون، ويثورون ويستثيرون، ويملؤون الدنيا حركة وتأثيرًا: الأفغـاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وطه حسين، والعقاد، والرافعي، والزيات، وأحمد أمين، وسلامة موسى، وغيرهم!
المخاض الحضاري
كان الجو كله في حالة مخاض حضاري – سلبـًا وإيجابـًا – وفيه يخرج الشعراوي فلاحًا وابن فلاح، وشاعرًا أزهريـًّا “ثورجيـًّا” وفدائيـًّا يملأ الدنيا ضجيجـًا وحركة، لا يرضى أن يكون في الساقة، بل يتقدم المظاهرات النارية! يعيش من خلالها تفاعلات شكلت صوره مصر حتى تسعينيات القرن العشرين تقريبًا، ويستمر نهر حياته في الاندفاع، ليتمخض نشاطه وجهده أوائل السبعينيات – بعد مَوَران وفاعلية داما قرابة ستة عقود – لتبدأ إشراقاته العلنية في تفسير القرآن الكريم، من خلال برنامج نور على نور، في التليفزيون المصري، الذي انتشر من خلال حلقاته اسم الشعراوي انتشار النور البازغ، واستمر ارتفاعه بعد ذلك من خلال حلقاته في التفسير التي كان أثرها شديدًا؛ لدرجة أن إسرائيل طالبت بوقفها في فترة من الفترات، بسبب كلامه عن الآيات التي تتناول اليهود عقيدة وشريعة ومسلكـًا! وليفاجأ الناس بمنهج جديد في التعامل مع كتاب الله – كأنه ما سُبق إليه – فقد نجح هذا الفلاح النحيل الطويل في تقريب الجمل المنطقية العويصة، والمسائل النحوية الدقيقة، والمعاني الإشارية المحلقة، والنزول بها إلى العامة بلغة يفهمها كل أحد، حتى باتت أحاديثه قريبة جدًّا من الناس على المقاهي، وفي البيوت، والمساجد التي ينتقل بينها من أقصى مصر لأقصاها!
وعَهْدنا بعلم التفسير ومعلميه أنه دقيق، لا يقدَّم إلا في قوالب منهجية صارمة، ولغة مترفعة صعبة – مع أن الأصل تيسير القرآن للتلاوة والفهم – فقلب الشعراوي هذا كله ليوجه خطابه لـ99% من الشعب المصري الذين لا يعرفون ما الرازي ولا الطبري ولا القاسمي، وليقرّب إليهم القرآن في صورة جذابة سهلة قريبة من العقول والقلوب، لا تفرق بين المنقول والمعقول، والإشاري والإعجازي، واللغوي والفقهي، والعصري والأثري.
ومنذ سمعت به أوائل السبعينيات – 1974م – لم يُعرف الشيخ إلا بأنه المفسر الأول للقرآن! يعيش معه، وينفعل به وله! وبدأ طلاب العلم، والتجار، وأصحاب التسجيلات يتلقفون أحاديث الشيخ، وينسخونها بكل الوسائل، حتى إنني شاهدت في تلفزيون قطر – حين كنت رقيبًا فيه – الحلقة رقم 1010 من تفسيره التليفزيوني، وإذا كان متوسط الحلقة 40 دقيقة، فإن ذلك يعني أنه سجل أربعين ألف دقيقة، أي 667 ساعة، أي ما يساوي 28 يومـًا متصلة من التفسير – كل جزء في يوم كامل تقريبًا – وقد عرض عليه في بدايات تفسيره مليون دولار من أحد التليفزيونات فرفض إلا أن يكون عمله مجانيـًّا، أسأل الله أن يكون في ميزانه يوم القيامة.
خصائص شعراوية
لا يعنيني هنا أن أؤرخ للشيخ التأريخ النمطي، ولكن يعنيني أن أقـف في هذا السرد العجول أمام نـقاط:
= أولاهـا: ما أشرت إليه من أن الرجل سهّل التعامل مع كتّاب الله عز وجل؛ حتى قرّبه للعامة، وهو صاحب أول تفسير شفوي متكامل للقرآن الكريم، في تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وخلال 1431 سنة! فلا أعلم حتى الآن بوجود تفسير شفوي يقترب من سبعمائة ساعة، وهذه خصيصة حباه الله بها، وسبقٌ دعوي أسأل الله أن يكون في ميزان حسناته، رغم أنه قد ظهر في السنة الحالية تفسير جديد وعظيم جدًّا للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى، جدير أن ينتشر، ويذيع، ويعرفه طلاب العلم خاصة.
= ثانيـتها: بساطته الشديدة، وتواضعه، وابتعاده عن النفخة الكدابة التي يعيشها بعض المشايخ نجوم الفضائيات؛ فهو رغم سعة شهرته، وتمكن أمره، واحتفاء الملوك والأمراء، والوجهاء، والأغنياء به، ورغم كونه من كبار أثرياء المسلمين، فهو لم يزل الرجل البسيط المتواضع، الذي يحيا على طريقة سراة الفلاحين، ولم يزل “يعـزم” أصحابه على أكلة ذرة مشوية في مزرعته، ويعيش حياة طبيعية بسيطة تلحظها في المحيط الذي يسكن!
زرته سنة 90 في فندق فلسطين بالإسكندرية فوجدته أبسط ما تجد: الرجل الإلف المألوف، وقد جمع
حوله أبناءه وأحفاده! سجلت معه بعض اللقاءات لتليفزيون قطر، ثم قدمت له مظروفـًا فيه مبلغ كبير من المال؛ مكافأة التسجيل، فنهرني: أنا آخد منكم فلوس؟ خير الله عندي كثـير جدًّا (كان في الشهر نفسه قد تبرع بمليون جنيه مصري للمعاهد الأزهرية) وأبى بحزم وشدة، ووبخني كأنما أهنته.
= ثالثـتها: كل صاحب توجه يتعصب له، ويراه الأوحد الأمثل الأكمل الأجدر، وكثيرًا ما يقصي غيره، ويرميه في جهنم إن استطاع – بلسان الحال أو المقال أو بهما معًا – رأيت هذا في أكبر كبار علماء الدنيا الذين عرفتهم واقتربت منهم، لا أستثني أحدًا، إلا الشيخ (أمين) أو محمد متولي الشعراوي عليه رحمات الله، الذي لم يستغل وظائفه الكبيرة الكثيرة، ولا التلفزيونات العربية والعالمية للدعاية لفكر وانتماء يتعصب له، ولا يمل ذكر رموزه، ولم يزعج الناس بالحديث عن مآثره، وأمجاده، وبركات أوليائه في “الطـريق” بل كان يدعو للإسلام وحده والقرآن وحده! وهذه لم أجدها في أحد غيره من أصحاب اللافتات! مع علمي أن الرجل ذو ميول صوفية واضحة لا ينكرها أحد، وهذه تحسب للشيخ – رحمة الله عليه – سعةَ أفق، وإنصافـًا من النفس قل أن يفعله سواه!
فهل يفهم هذا بعض قادة المناصب العليا في الأزهر الشريف، الذي يتهددون ويتوعدون، ويؤكدون تصفية الحسابات، ويتلمظون لأكل اللحم الحرام المسموم!؟
وهل يفهم هذا بعض قادة التيارات الإسلامية التي لا ترى إلا نفسها، وهي على يقين لا يداخله شك أنها الأعلم بالله، والأفهم لدين الله، والأجدر بالجنة – كأن مفتاح الفردوس في جيوبهم – وأن غيرهم ما بين قاصر أو هالك!؟
= رابعـتها: من الأشياء التي لم أجدها في غير الشيخ – رغم مقابلاتي لكثير من كبارِ علماء الأمة – أن له مهابة روحانية عجيبة، متعه الله بها، كأن حوله جوًّا مغناطيسيـًّا يجعل له خصوصية روحية فريدة، لعل سببها بساطته، أو صفاء نفسه، أو هبة من الله تعالى.
ومن الجوانب المهمة فيه، التي يطلع عليها المقربون منه، جانب الدعابة وإطلاق النكتة عند اللزوم، ككل أبناء البلد المهذبـين، يطلقها عفو الخاطر لتدل على سماحة النفس، ولطف المعشر، وتنفي الصورة الجهمة الغليظة التي كوّنها الناس حول المشايخ! ودعاباته كثيرة بين أخِصّائه والمقربين منه! لكن قد يظهر طرف من خفة دمه، وميله للدعابة في بعض أشعاره، كهذه القصيدة التي كتبها في الفتاة العصرية، التي يغرر بها الماجنون، ويخطف بصرها بريق الإغراء والإطراء:
قصّرتِ أكمامـًا وشلْتِ ذيولا هلاّ رحمـت إهابك المصقــولا
وستُذكر آخر المقال.
كان الشعراوي من الغُير على الأزهر، وله رغبة زائدة في أن يعيد له عافيته التي (هدّها) العسكر، وسدنة الاشتراكية ثم سدنة التغرب، حتى قال عنه العلامة القرضاوي حين نعاه:
لقد رحل الشيخ الشعراوي في وقت كانت الأمة أحوج ما تكون إليه؛ من أجل إنقاذ الأزهر مما يراد به من إضعاف التعليم الديني والجور عليه، وكان يقف على رأس جبهة معارضة قوية للحيلولة دون ذلك. وقد وعده المسؤولون في مصر أن يحققوا له طلبه في تطوير القسم العلمي ما شاؤوا أن يطوروه، والعناية بالقسم الأدبي الذي يخرج علماء أصول الدين، وهم خلاصة الأزهر الذي يعد لتخريج الأجيال المرجوة للأمة، والتي تتفقه بالدين، وتنذر قومها إذا رجعوا إليها. وإننا لنرجو أن يفي المسؤولون للشيخ بعد وفاته بما وعدوه في حياته.
لا شك أنه كان أحد مفسري القرآن الكبار، وليس كل من قرأ القرآن فهمه، ولا كل من فهم القرآن غاص في بحاره، واستخرج منه لآلئه وجواهره، ولا كل من وجد هذه الجواهر استطاع أن يعبر عنها بعبارة بليغة، ولكن الشيخ الشعراوي كان من الذين أوتوا فهم القرآن، ورزقهم الله تعالى من المعرفة بأسراره وأعماقه ما لم يرزق غيره، فله فيه لطائف ولمحات وإشارات ووقفات ونظرات استطاع أن يؤثر بها في المجتمع من حوله! كما رزق الله الشيخ الشعراوي القبول في نفوس الناس؛ فاستطاع بأسلوبه المتميز أن يؤثر في الخاصة والعامة، في المثقفين والأميين، في العقول وفي القلوب، وهذه ميزة قلما يوفق إليها إلا القليلون الذين منحهم الله تعالى من فضله.
وكان لغويًّا كبيرة، اختير منذ عام 1987م عضوًا بـ(مجمع الخالدين) أو مجمع اللغة العربية وجاء انضمامه بعد حصوله على أغلبية الأصوات (40عضوًا).
وكان مما قاله بعد اختياره أمام أعضاء المجمع: ما أسعدني بهذا اللقاء، الذي فرحت به فرحًا على حلقات : فرحت به ترشيحًا لي، وفرحت به ترجيحًا لي، وفرحت به استقبالًا لي، لأنه تكريم نشأ عن إلحاق لا عن لحوق، والإلحاق استدعاء، أدعو الله بدعاء نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أستعيذك من كل عمل أردت به وجهك مخالطًا فيه غيرك. فحين رشحت من هذا المجمع آمنت بعد ذلك أننا في خير دائم، وأننا لن نخلو من الخير ما دام فينا كتاب الله، سألني البعض: هل قبلت الانضمام إلى مجمع الخالدين، وهل كتب الخلود لأحد؟ وكان ردي: إن الخلود نسبي، وهذا المجمع مكلف بالعربية، واللغة العربية للقرآن، فالمجمع للقرآن، وسيخلد المجمع بخلود القرآن.
من بركات الشيخ
ولعل من بركات الشيخ، وصدق يقينه في الله تعالى هذا الموقف العجيب الذي كتبه الصديق الصحفي الكبير محمد صبرة، ورواه الشيخ بلسانه وطريقته:
*** كان الرئيس بومدين قد انتهى من بناء سد اسمه “سد غرين” وذهب لافتتاحه! وعملوا احتفالًا! وحضرنا هذا الاحتفال! وقف الرئيس بومدين يخطب ويقول: الحمد لله! عملنا “سد غرين” وهذا السد سيحجز كذا مترًا مكعبـًا من المياه! وبذلك يمكنكم أن تقوموا بري زراعـاتكم؛ سواء أمطرت السماء أم لم تمطر! (وكان بومدين صديقًا لروسيا والمعسكر الاشتراكي (رغم حفظه القرآن في طفولته، ودراسته بالأزهر الشريف)!
ولم تعجبني عبارة “سواء أمطرت السماء أم لم تمطر” فقلت لعبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائري في ذلك الوقت، والرئيس الحالي للجزائر: “يا سي عبد العزيز: قل للرئيس بومدين إن هذا الكلام خطأ، ليس فقط من الناحية العقائدية التي تلغي المشيئة، بل حتـى من الناحية العلمية، لأنه إذا لم تمطر المساء فما الذي سيحجزه هذا السد؟ السد يحجز مياهـًا! والمياه من المطر! فإذا لم تمطر! فما الذي سيحجزه هذا السد؟!”.
وذهب بوتفليقة وأبلغ الكلام للرئيس بومدين!
وشاء الله بعد أسابيع من كلام الرئيس بومدين أن يحصل جفاف! فقالوا نصلي صلاة الاستسقاء!
وقد استقبل الناس الدعوة لصلاة الاستسقاء، استقبالين: الناس المتدينون المؤمنون أصحاب الثقافة الدينية كانوا يؤمّلون فيها، وينظرون إليها باعتبارها من نُسُكِ الدين، وأن الله سبحانه وتعالى شرعها لوقت الفزع هذا.
أما الناس الآخرون أصحاب الثقافات غير الدينية، بل والمعادية للدين فقد قالوا في استهزاء: اعملوا صلاة الاستسقاء، وشوفوا حتعمل إيه الصلاة بتاعتكم دي!.
ولما أبلغونا أن الرئيس بومدين يريد أن يقيم صلاة الاستسقاء في الجامع الكبير بعد يومين! قلت لزميلي الشيخ أبو الصفا: احنا واقعين في مطب! وربنا يخرجنا منه على خير! ولن يخرجنا من ذلك إلا أن نفزع إلى الله من هذه اللحظة، وأن نصلي له سبحانه وتعالى، وأن نطلب منه ألا يفضح أهل دينه أمام هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينظرون إلى دين الله.
وجاء يوم صلاة الاستسقاء، وجلسنا في الجامع الكبير ومعنا وزير الأوقاف الجزائري ننتظر حضور الرئيس بومدين.
جاء الرئيس بومدين، ودخل المسجد. وقبل أن يهم بالجلوس قلت لوزير الأوقاف: “قل للرئيس بومدين يصلي ركعتين لتحية المسجد”! وأضفت: احنا جايين هنا نشحت من ربنا! بنقول يا رب وبـنفزع إليه، فقل له يصلي ركعتين لله تحية للمسجد.
وذهب وزير الأوقاف للرئيس الجزائري وأبلغه الرسالة! فوقف وصلي ركعتين، ثم صلينا صلاة الاستسقاء! وقعدنا ساكتين! وطالت القعدة! وطال السكوت، فقلت لأحد المشايخ الذين يجلسون إلى جانبي:
احنا قاعدين كده ليه دلوقت؟ موش نقوموا نروّحوا؟
فقال لي: اسكت! اسكت!
فقلت له: فيه إيه؟
قال: أنت موش داري؟ الدنيا بتمطّر! بِتِشْتِي! فقلت: صحيح!؟
قال: أيوه! وراحوا علشان يجيبوا “مظلة” لكي يخرج بها الرئيس بومدين!
فقلت: الحمد لله! الحمد لله! ولن أخرج من هنا! من المسجد الكبير إلا بعد صلاة المغرب! الحمد لله ربنا سترها معنا!
*** ومما يروى عن تواضعه، وترويضه نفسه، وكسرها؛ لتبقى مخبتة قريبة خافضة الجناح، ما يحكيه ابنه الحاج عبد الرحيم أن الشيخ عليه رحمات الله كان في محاضرة في جامعة القاهرة. وفتح الله تعالى للشيخ أبوابا عديدة من أبواب العلم ما أدهش الحضور وبهرهم بأسلوبه العذب، وأدلته القاطعة فاندفعوا نحوه والتفوا حول سيارته – وكان الشيخ آنذاك يسكن بحي سيدنا الحسين رضي الله عنه – فلما وصل الشيخ إلى بيته غادره مسرعا! فأخذ الحاج عبد الرحيم يبحث عنه ليفاجأ به ينظف دورات المياه بمسجد سيدنا الحسين! فسأله: بتعمل إيه يا مولانا؟ فكان رده: أردت أن أربي نفسي وأهذبها!
رحمه الله ورحم علماءنا وأستاذينا ووالدينا! اللهم آمين.
الشيخ -رحمه الله تعالى!- ظريفًا
لكوني أعرف قيمته جيدًا فإنني أتباهى بأني حاورت العلامة الشيخ الشعراوي في بضع حلقات تلفزيونية، في جلسة طويلة سنة 1990 في الإسكندرية، وكنت قبلها قد رأيته وكلمته سنة 1977 وأنا طالب في الجامعة، حين جاء للمشاركة في المؤتمر العالمي الأول للدعوة والدعاة بالمدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام.
ولكن فخري الأكبر أنه (بلديّاتي، أو ابن حِتتّي) كما يقولون – ولو بالعافية – فبلدنا المحروسة زفتى تنام في حضن النيل، وقريته (دقادوس) أمامنا مباشرة على الضفة الأخرى، يعني غطسة في المَيّة، أو خطوتين على الكوبري أكون في دقادوس، حيث ولد، وحيث شب، وحيث دفن.
ولقد قلت فيما سبق إن الشعراوي رحمه الله ينفرد عن غيره من العلماء الذين قابلتهم أجمعين بمزايا لم يتصف به غيره من كبار علماء الأمة على الإطلاق!
لكن من الجوانب التي تخفى على كثيرين، ظرف الشيخ، ونُكته التي تخرج عفوية، دون افتعال ولا ثِقل دم، بل تأتي – على السجية – رائقة ظريفة!
وإليك بعضًا من طرائفه التي شوفهت ببعضها، وقرأت بعضها، وعثرت على بعضها أونلاين، والعهدة على رواتها:
أبويا السبب
يقول الشعراوي: “كنت في سن الشباب، وجئنا إلى القاهرة، بصحبة صديق له يعلم دائمًا المكان الذي يوجد فيه شوقي أمير الشعراء، الذي كنت معجبًا به وبشعره أيما إعجاب، فاصطحبني – ومعي أصدقاء – إليه في عش البلبل عند الهرم، وقال لأمير الشعراء: هؤلاء شبان من أشد المعجبين بك، ويحفظون شعرك كله، ويأملون فقط في رؤيتك!
فسألني شوقي: ما الذي تحفظه عني؟ فعددت له قصائد عديدة!
فسألني: وما الذي دفعك إلى هذا؟
فقلت له: إن والدي كان يمنحني ريالًا عن كل قصيدة أحفظها لك!
والطرافة هنا أنه لم يقل له: لأني معجب بشعرك، أو لأنك أمير الشعراء، بل لأن أباه كان يعطيه (بريزتين) عن كل قصيدة! وكأني أراه والابتسامة عريضة على وجهه، ووجه شوقي رحمهما الله.
الجواز قلة قيمة
ويروي لنا الشيخ الشعراوي حكاية له مع مدير المعهد الأزهري فيقول: ذات مرة تأخر القطار، فوصلت إلى المعهد بالزقازيق متأخرًا، ورأيت شيخ المعهد جالسًا كعادته على بابه، فحاولت الإفلات منه، لكنه كان قد لمحني، فقال لأحد السعاة: هات الواد ده هنا.
وسألني: أتأخرت ليه؟ فقلت له إن القطار تأخر نصف ساعة، وليس أنا. فسألني لماذا لا تحتاط، وتأتي مساء الجمعة، بدلاً من فجر السبت؟ فقلت له: أنا متزوج يا سيدي، فسألني والجواز كويس ولا وحش؟ فخشيت أن أقول كويس، فيعتبرني قليل الأدب فقلت له: والله الجواز قلة قيمة.
فقال لي أدخل، وإياك تتأخر تأني. وانتهى الموقف عند هذا الحد. ولكنْ عندما رآني صباح اليوم التالي، وجدتهُ يناديني: يا ولد قلة قيمة، قلة قيمة. وسأله المشايخ الذين يدرسون لي : إيه حكاية قلة القيمة دي ؟ فقال: أنا سألت الشعراوي عن الزواج إمبارح، فقال ده قلة قيمة! وهذه المسألة جعلت المشايخ يعتقدون أني قريب شيخ المعهد، وأنه يتبادل حديثاً شخصياً معي.
بس يكون راجل
ومما يروون عنه رحمه الله تعالى من الطرائف، أنه سئل ذات يوم عن الشروط التي يلزم أن تتوفر في الرجل ليتزوج بامرأة ثانية، فقال على الفور: (إنه يكون راجل، ويقدر يعملها)! وبقدر ما في هذه العبارة عفوية، فهي دقيقة جامعة!
امرأتان في ليلة واحدة
وحُكي لي – والعهدة على الراوي – أن الدكتور محمد عبده يماني وزير الإعلام السعودي الأسبق جاء مرة يمازحه، وقال له: فلانة وفلانة – من الفنانات التائبات – تعرضان على فضيلتكم الزواج، وتلحان في ذلك، فقال: يا مرحبًا!
فقال الدكتور يماني: لكن لهما شرطًا صعبًا! فرد الشعراوي: ما هو؟
قال: أن تدخل بهما معًا في ليلة واحدة!
فقال الشيخ مبتسمًا: وليه لأ؟ قل لهما أنا موافق؛ فليس عندي ما تختلفان عليه!
رأسًا لا رقصًا
وأثناء وجوده في فندق الحرم بالمدينة المنورة في الحج، ووسط شدة الزحام نادته فنانة من المعتزلات من بعيد – وقد أراد الله لها التوبة في آخر سنوات حياتها – بشيء من اللهفة، فلم يسمعها بسبب الزحام والمسافة، فما كان منها إلا أن شقت نحوه الصفوف بكل قوتها، واتجهت نحوه، حتى اقتربت منه نادت بصوت مرتفع:
انصب طولك يا سيدنا الشيخ، وبص في وشي، وهاتعرفني!
فقال لها: مش واخد بالي!
فقالت له: أنا الفنانة الراقصة السابقة! أريد أن أسلم عليك، وتدعو لي.
فقال لها: لو عرفت أنك أنت التي تنادين عليّ كل هذه النداءات لاتجهت إليكِ “رأسًا” لا “رقصا”! فضحك الحاضرون، وأخذ يطيّب خاطرها، ويدعو لها من قلبه، وهي تبكي من الفرح والخشية.
بأحسن منها
وحكى أخٌ كتب عن ظرفاء قبيلة الحكمان في السعودية، أن الشيخ رحمه الله كان يجلس على منبره الوعظي أمام مريديه، فأقبلت نحوه امرأة متبرجة تبين له أنها ممثلة، وكانت – بحكم عملها – معتادة على أن يكون السلام عمليًّا لا نظريًّا، فلما اقتربت من الشيخ قالت: تسمح لي أبوس فضيلتك يا مولانا؟
فذهل الشيخ، وقال: ليه؟
قالت عشان باحبك! فرد الشيخ ضاحكًا:
لا، لا يمكن؛ لأن الإسلام يأمرنا أن نرد التحية بمثلها، أو بأحسن منها، ودا ما ينفعش!
وبقدر ما جعلت شهرة العلامة اللغوي المفسر الشعراوي، ومواقفه الاجتماعية، وحسن سيرته، بقدر ما جعلت منه شخصية شعبية قريبة من قلوب عموم الناس، فقد جعلته قريبًا من أهل السلطة والنفوذ في مصر، ورشحته للوزارة، وخلقت مواقف طريفة بينه وبين الساسة خصوصًا الرئيس السادات رحمه الله، وبعض الوزراء الذين ارتبط بهم بشكل ما.
دستور إن شاء الله!
ومن طريف ما حصل له مع الرئيس السادات رحمهما الله، أنه أثناء حلفه اليمين الدستورية، عند اختياره وزيرًا للأوقاف، وقف يقسم على المحافظة على النظام، والدستور، والقانون، وأن يرعي مصالح الوطن، وسلامة أراضيه… إلخ، فذكر الصيغة كلها، ثم قال في آخر القسم بصوت مرتفع؛ كأنما يحتاط لنفس: إن شاء الله، وأغرق السادات في الضحك، وحذفوا إن شاء الله في الإذاعة والتليفزيون، عند قراءة نشرات الأخبار!
يا فكيك
وبعد تعيين الشيخ رحمه الله وزيرًا للأوقاف، سأله الرئيس السادات ذات مرة: هل صحيح يا شيخ شعراوي أنك لا تجلس علي مكتبك في الوزارة، وتركت الكرسي الفخم، وجلست على (كرسي خَرزان) جنب الباب؟
فقال له: نعم يا ريس، صحيح! فسأله: طيب ليه؟ فقال الشعراوي: عشان أكون قُريِّب من الباب، ولما ترفدني أجري سريعًا، وأقول يا فكيك، وأحمد الله، وأنفد بجلدي، وضحك السادات طويلًا.
اتعدل انت يا ريِّس
وذات مرة أقام السادات حفلًا ساهرًا علي شرف شاوشيسكو رئيس رومانيا وسفاحها وديكتاتورها الراحل، الذي (كشحه الله) ثم رمي في مزبلة التاريخ ككل ديكتاتور متفرعن، وبدهي أن يحضر أعضاء مجلس الوزراء جميعًا الحفل بحسب البروتوكول، وكان في الحفل غناء ورقص وسلطنة، فأعطى الشيخ رحمه الله ظهره للمغنية – رفضًا للأمر كله، واحتجاجًا صامتًا منه على معصية الله – ومنطقي أن يكون منظره هذا، في مثل هذه الحفلة الرسمية (الراقصة) نشازًا غير مألوف! ولما رآه السادات على هذا الوضع قال لوزير داخليته ممدوح سالم: خلي الشعراوي يتعدل! فرد الشعراوي قائلًا: أنا برضه اللي اتعدل؟ وانصرف.
والعجيب أن يوظف الرقص الشرقي في خدمة السياسة، في مناسبات رئاسية كثيرة، من باب الترفيه عن الضيف الكبير، وقد استخدمته السلطة مع فورد وكارتر وكيسنجر وشاوشيسكو وغيرهم! ويا لروعة دبلوماسيتنا وما أتقاها وأنقاها!
اجبر بخاطري يا ريس
وفي اليوم الأول لتوليه الوزارة عرف بقصة (عبد المنعم المغربي) رئيس هيئة الأوقاف، والظلم الذي وقع عليه من جهاز الرقابة الإدارية بإيقافه عن العمل، وتأكد أن الرجل مظلوم، فأصدر قرارًا بعودته إلى العمل، لكن أجهزة الرقابة رفعت قرارًا لتوقيعه من الرئيس لإقصائه عن عمله؛ نتيجة شكاوى كيدية قدمت ضده، فكتب الشعراوي للسادات رحمهما الله: استشفع بي عبد المنعم المغربي رئيس هيئة الأوقاف. وقد أعلمته أن سيادة الرئيس لم يرفعني إلى مرتبة المستشفعين، ولكني أطمع أن يجبر خاطري معكم أن تقبل هذه الشفاعة، وإنها الأولى والأخيرة!
وقرأ السادات الرسالة، فكتب بالقلم الأحمر: وأنا لا أرد شفاعة الشيخ الشعراوي!
فليعنك الله
ومن أشهر ما انتشر في الآونة الأخيرة على مواقع الإنترنت حديثه مع الرئيس مبارك، وقوله له: لعل هذا آخر لقائي بك، فإذا كنت قدرنا فليوفقك الله، وإذا كنا قدرك فليعنك الله على أن تتحمل.
وللشيخ الشعراوي ذكريات مع الشعراء والأدباء، شهدت معارك أدبية ساخنة، وكان للشيخ فيها مواقف لا تنسى.
حكايته مع عبد الحميد الديب
يقول الشيخ: حدث أيام الجماعة الأدبية التي كنت أرأسها حوالي عام 1928، والتي كانت تضم معي أصدقاء العمر: الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، والمرحوم محمد فهمي عبد اللطيف، وكامل أبو العينين، وعبد الرحمن عثمان رحمهم الله أجمعين، حدث أن كانوا على صلة صداقة مع شاعر مشهور وقتها بطول اللسان، والافتراء على أي إنسان، اسمه عبد الحميد الديب، صاحب قصيدة “دع الشكوى وهات الكأس واسكر”، والذي لم يسلم أحد من لسانه، وكان يعيش على هجاء خلق الله إلى أن يمنحوه مالًا!
وجاءت ذات ليلة سيرتي أمامه، وقال له الأصدقاء أعضاء الجماعة الأدبية عن كل ما قرضته من قصائد شعرية، فرد وقال: الشيخ الشعراوي شاعر كويس، ولكن لا يصح أن يوصف بأنه شاعر، ولما سألوه: لماذا؟، قال: إن المفترض في شعر الشاعر أن يكون مجودًا في كل غرض، وهو لم يقل شعرًا في غرضين بالذات!
ولما حكوا لي عن هذا الذي قاله الشاعر عبد الحميد الديب، قلت لهم: أما أنني لم أقل شعرًا في الغزل، فأرجو أن تبلغوه بأنني قرضت الشعر في الغزل أيضًا، لكنه غزل متورع، وانقلوا إليه الأبيات عني، والتي قلت فيها:
مــن لم يحركه الجمال فناقـص تكوينه
وسويُّ خلق الله من يهوى ويسمح دينه
سبحان من خلق الجمال والانهزام لسطوته
ولذاك يأمرنا بغض الطرف عنه لرحمته
مـن شاء يطلبه فلا؛ إلا بطــهر شريعته
وبذا يدوم لنـا التمتــع ها هنا وبجنته
وأما عن الهجاء فقلت لأصدقائي: إنني لا أجد موضوعًا أتناوله إلا أن أهجو عبد الحميد الديب نفسه، ولن أشهر به، ولكن فليأت إلينا، ويجلس معنا، وأقول له إنني سوف أهجوك بكذا وكذا، ثم أُخيره بعد ذلك أن يعلن هجائي له أو لا يعلنه!
وقد تحداني وقدم إلى منزلي بباب الخلق وسألني: ما الذي سوف تقوله في عبد الحميد الديب يا بن الشعراوي؟ فقلت له: والله لن أقول شعري في هجائك لأحد؛ إلى أن تقوله أنت! وأنا أقطع بأنك لن تكرر على مسامع الناس هجائي لك!
وبالفعل ما سمعه عبد الحميد الديب مني في هجائه لم يستطع -كما توقعت- أن يكرره على مسامع أحد، ولذلك كنت الوحيد من شلة الأدباء الذي سلم من لسانه بعدها؛ لأنه خاف مني وعلم قوتي في شعر الهجاء أيضًا، ومن هنا ترسخ يقيني بأن التصدي للبطش والقوة لا يكون إلا بامتلاك نفس السلاح، سلاح القوة ولكن بغير بطش.
قصّرتِ أكمامـًا، وشلْتِ ذيولا
وقد يظهر طرف من خفة دمه، وميله للدعابة في بعض أشعاره، كهذه القصيدة التي كتبها في الفتاة العصرية، التي يغرر بها الماجنون، ويخطف بصرها بريق الإغراء والإطراء:
قصّرتِ أكمامـًا وشلْتِ ذيولا هلاّ رحمـت إهابك المصقــولا
أسئمتِ من برد الشتاء وسجنـه فطلبتِ تحريرَ المصـيفِ عَجُولا
وخطرت تحت غلالةٍ شفـّـافـةٍ في فتنـة تـَـدَع الحليم جهولا
محبـوكةٍ لصقت بجسمٍ مشرق دفعـتـه فورتُهُ فبان فصـولا
ألححـتِ في عرض الجمال وغرك الأغرارُ لمّا أســمعوك فضــولا
شاهدتُ ضلّـيلًا يطـارد غـادةً فنهرته حَنقـًا فقال خـجولا
أبغي الزواجَ بها فقلتُ مداعبـًا هل كان بيتُ وليّـها مقـفـولا
ورنا فلم يرها فجُـن وقال لي أبُعثتَ فيــنا يا غيورُ رسـولا
لم يبقَ لي أرَبٌ فما يضــطرني حتى أكون مكــلفـًا مسؤولا
قل للفتاة الـغرُّ هــذا حبُّـه إن بات ملتـاعـًا وذاب ميولا
يلقاك كالحَمَل الوديع مضــللًا فإذا تمكـّن منـك أمسـى غـولا
رحم الله العلامة الشعراوي، وتقبله عنده في المرضيين، وغفر للمجترئين، والمتعجلين، و(المؤدبين) الذين لم يقرؤوا، ولم يفهموا، ولم ينصحوا، ولم يتأدبوا! وما هكذا تورد يا سعد الإبل!
(*) كاتب وداعية كبير وشاعر وأديب ساخر.