العلامة الدكتور يوسف القرضاوي من وجهة نظر أستاذ الفلسفة وتاريخ العلم (5)

بقلم أ.د. محمد الجوادي(*)

الباب الثاني: القرضاوي موجهًا للحركات الإسلامية من داخلها

(1)

آثرت أن أدير هذا الباب حول الأفكار التي تضمنها كتاب (أين الخلل) للدكتور يوسف القرضاوي، إذ تتمثَّل أهمية هذا الكتاب في كونه أول كتاب يتعرض وبصراحة لظاهرة المعاناة من أجل الصواب والحق، وهي ظاهرة صحية واجهتها الجماعات الإسلامية في مختلف المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

أما الشيخ القرضاوي نفسه، فبالإضافة إلى أنه عالم دين إسلامي مشهور، تخرج في الأزهر، ونال درجة الدكتوراه بعد دراسة خضعت بنسبة أو أخرى لمنهج الدراسات العلمية الحديثة، فإنه يحظى بقبول واسع النطاق من معظـم الحركات الإسلامية المعاصرة، الأمر الذي يعطي لأفكاره في هذا الموضوع وزنًا خاصًّا، كما يعطي للأطر التي اختارها لأفكاره مصداقية علمية وبحثية.

(2)

يأتي في مقدمة أسباب اختيارنا للدكتور القرضاوي ولهذا الكتاب، أنه حدَّد منذ البداية الهدف منه، ووضع يده على العناصر الرئيسية في كتابته، بحيث جعله ثلاثة أجزاء:

الأول: وقفة مع الأمة الإسلامية.

والثاني: وقفة مع الحركة الإسلامية.

والثالث: وقفة بين العمل والأمل.

وفي كل جزء من هذه الأجزاء، استطاع القرضاوي أن يمتد بأفكاره، ليتعمق العوامل الخفية في كل مسألة من المسائل المعروضة على بساط البحث. وعلي الرغم من أنه لم يحدد موقفًا واضحًا من كل قضية من تلك التي يطلق عليها تعبير (القضايا الشائكة في التحرك الإسلامي)، إلا أنه بلا شك استطاع أن يوجه الفكر، وينير الطريق في هذه المسائل، التي قد تشغل بال الكثيرين من المهتمين بالحركة الإسلامية.

ومن المؤكد أن قراءة هذا الكتاب سوف تعطي للمراقبين كما تعطي لأبناء الحركة أنفسهم كثيرًا من الضوء حول الفكر الإسلامي بصورة عامة، وقضايا المجتمع الإسلامي المعاصر أيضًا.

وسوف يكون بإمكان الذين يكتبون في المستقبل عن هذه الحركات، من منطلق التطورات الاجتماعية والسياسية: أن يحددوا أفكارًا جديرة بالتأمل والنقد والتعقيب في هذا الكتاب.

ومع أن الدكتور القرضاوي لم يكتب هذا الكتاب جملة واحدة، كما يتضح من المقدمة والفصل الأخير، إلا أن المؤكد أن الروح التي كانت وراء هذا الكتاب كانت متسقة مع نفسها في كل الأوقات.

(3)

يصدق في وصف هذ الكتاب القول بأنه لم يضع إجابة محددة على السؤال كما ذكرنا من قبل، وكما هو الحال أيضًا في كتاب القرضاوي (الحلال والحرام في الإسلام)، إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن الإجابات الواضحة والمحددة ليست هي الهدف من هذه الكتب، بقدر ما يتمثل الهدف منها في إلقاء الضوء على المفاهيم المتعارضة، والتي قد تكون وراء احتجاب الإجابة الواضحة خلف الستر الكثيفة المتراكمة، نتيجة ممارسات متصلة قائمة على غير أساس واضح من الفكر، ونتيجة الاجتهاد المطلق في زمن ينبغي فيه القيام بأية حركة لكسر الجمود، الذي يحيط بدائرة الأمل في تجديد المجتمع الإسلامي.

لكل هذه الأسباب تتضح أهمية أخذ هذا الكتاب مأخذ الجد، حتى ولو كان أهل هذه الحركات أنفسهم لم يظهروا مثل هذا الاهتمام بالكتاب، الذي مرَّ صدوره بدون جلبة ترحيب كالعادة. ولكن الذي لا شك فيه: أن قلة الضجيج حوله كانت بسبب انتهاجه في العرض الأسلوب العلمي إلى حد كبير، والمنهج الواضح في هذا الكتاب، فقد كانا كفيلين بالحد من انتشار الكتاب على نحو مثير، كان متاحًا لو كان المؤلف قد عرض أفكاره فيه بطريقة صحفية مثيرة، أو حتى أعاد ترتيب الفصول وجعل عنوانه موحيًا بشيء مخيف أو سر دفين (لا يعلمه الناس، وسوف يكشف عنه الكتاب).

(4)

وليس هذا الكتاب تشخيصًا لأحوال الحركة الإسلامية أو مصاعبها. مع أنه يصدر عن قلم عالم مسلم متمكن يُعَدُّ واحدًا من نجوم الحركة، أو دعاتها بحكم التعاون، حتى وإن لم يكن كذلك بحكم الانتماء. ومع هذا فإنه من أبرز الكتابات التي سوف تساعد على هذا التشخيص عند الحاجة إليه، سواء تمثلت هذه الحاجة في المجتمع العلمي، أو المجتمع السياسي، أو عند الذين يريدون أن يوجهوا طاقات هذه الأمة نحو هدف منشود؛ أيًّا ما كان هدفهم وإخلاصهم للعمل الإسلامي العام.

(5)

يبدأ الدكتور يوسف القرضاوي وقفته بطرح سؤال يراد به تحديد موضع الخلل، ويصوغ القرضاوي سؤاله على أكثر من وجه حتى ينتهي بأقربها إلى الاتهام:

هل تتجسد مشكلتنا في عدم وجود الطبيب القادر على التشخيص؟
أم في عدم وجود الدواء الناجح في اقتلاع الداء؟
أم أن المريض نفسه غير قابل للدواء ولا يتجاوب مع العلاج؟

وبعد قليل جدًّا من المناقشة، ينتهي القرضاوي متأثرًا بطريقة الخطباء إلى إبراز الحقيقة التي يريد توصيلها، فيقول في شيء من الحماسة: (وجدنا الأمر أكبر وأعمق من مجرد (خلل)، إنه غيبة عن الوعي، إنه فقدان الهواية، إنه التيه من الغاية ومن بعده – بالضرورة – ضياع الطريق!).

ولا يقلل هذا التقرير الخطابي من قدر ما يأتي بعد ذلك من تحليل ممتاز، ذلك أنه يظل في إمكان القرضاوي في طبعة قادمة: أن ينقل مثل هذه الفقرة التقريرية إلى آخر التحليل، فيبدو وكأنه يصيب كبد الحقيقة من غير مشقة كثيرة.

(6)

يبدو القرضاوي في تحليله المادي طوال هذا الكتاب، واضح الفكر، محدد الرواية، غير محدد الخبرة أو الفهم.

فهو يبدأ بتحليل ذاتية الأمة منتهيًا إلى أنها نسيت نفسها لأنها تركت الوسطية، وتركت الوحدة.

ثم ينتقل إلى النظر إلى الأمة الإسلامية في ضوء معايير التقدم المادي المعاصر، فيجد المسلمين في الأعصر الأخيرة وقد “رضوا بالزرع وتبعوا أذناب البقر”، ثم ينتبه إلى تعطُّل الطاقات في الأمة المسلمة (فأرخص شيء عندها هو الوقت، وأثقل شيء عليها هو العمل، وأقل الثروات عندها قيمة هو الإنسان).

طاقاتها العقلية معطلة، (وكفانا عارًا أن عشرين دولة تعلِّم العلوم بلغات أجنبية، معترفة بعجزها عن تعليمها بالعربية، وأن إسرائيل دولة المليونين أو الثلاثة تعلم العلوم بالعبرية).

(والعجب من أمة ول آية نزلت في كتابها: ﴿اقرأ﴾، لا تحسن أن تقرأ، وإذا قرأت لا تحسن أن تفهم، وإذا فهمت لا تحسن أن تعمل، وإذا عملت لا تحسن أن تستمر).

وينتهي الدكتور القرضاوي في حديثه عن الطاقات العقلية المعطَّلة إلى ذات الفكرة التي تدور كثيرًا جدًّا في كتابات المفكر الإسلامي الأستاذ وحيد الدين خان، وهو يقول في صراحة ووضوح: (لقد ابتدعنا في دين الله، والابتداع في الدين ضلالة، وجمدنا في شؤون الدنيا، والجمود في الدنيا جهالة، وكان الأجدر بنا أن نعكس الوضع فنتبع في أمر الدين، ونبتدع في أمر الدنيا، فروح الدين الاقتداء والاتباع، وروح الدنيا الابتكار والابتداع).

(7)

يدعو القرضاوي بعد ذلك في وضوح شديد إلى ألا يطغي الكلام على العمل، وهو يتعمق هذا المعني بشيء من النظر في تاريخ الإسلام نفسه، وينتهي إلى أن يقول: (ولعل هذا بعض السر في نزول القرآن الكريم منجمًا في ثلاث وعشرين سنة؛ ليتيح الفرصة للمؤمنين أن يحولوا كلمات الله المنزلة إلى عمل صالح، وإلى حياة نابضة ناطقة).

وبروح المفكر ذي النظرة الثاقبة يرشدنا القرضاوي إلى آية كريمة في القرآن الكريم، تصوِّر حالنا اليوم حين نهتم بتشييد القصور، قبل اهتمامنا بالآبار ومصادر المياه، ويرى القرضاوي هذا شبيهًا تمامًا بأصحاب القرى الظالمة الذين تحدثت عنهم آية سورة الحج (45)، التي دمرها الله على أهلها: ﴿فهي خاوية على عروشها، وبئر معطلة، وقصر مشيد﴾.

وبنفس الرؤية ينظر القرضاوي إلى موقف الأمة الإسلامية من أمر الطاقات العددية، (فقد انقسمنا قوميًّا بين عرب وعجم، وفكريًّا بين تقدميين ورجعيين، وسياسيًّا بين موالين للغرب وموالين للشرق، إلى غير ذلك من أنواع التمزق والانقسام). والأدهى من ذلك في نظر القرضاوي أن (أصبح أكبر همِّ الكثيرين منا من زاعمي الإصلاح – لا زعمائه – أن نقلل عددنا ونحدد نسلنا، وفي الأرض أمم مختلفة لم تشكُ من كثرة سكانها، كما نشكو، بل اجتهدت أن توظِّف الكثرة في خدمة الإنتاج).

(8)

يرى القرضاوي أن تعطيل الطاقات الروحية هو أكبر المشكلات التي تواجه المجتمع الإسلامي اليوم، فالروحانيات هي أهم هذه الطاقات: (ولم تساعد مناهجنا التعليمية وأجهزتها التوجيهية على تكوين المعاني الربانية في نفوسنا، وصدق ما قاله المفكر المسلم محمد إقبال حين قال عن المدرسة الحديثة: إنها قد تفتح أعين الجيل الجديد على حقائق ومعارف، ولكنها لا تعلم عينه الدموع ولا قلبه الخشوع).

ويلتفت القرضاوي إلى كثير من الأفكار المهمة في هذا المجال، ويلفت نظرنا إليها في حسم ووضوح، (فنحن نقرأ القرآن على الأموات، ولا نحكِّمه في الأحياء، وعلى حين أن اليهود تشبثوا بتعاليم التلمود، سخرنا نحن من البخاري ومسلم، وقال زعماؤهم في اعتزاز هكذا علمنا أنبياؤنا، واعتز زعماؤنا بماركس ولينين).

(9)

ثم يطرح القرضاوي تساؤله المهم: هل تقع المسؤولية على الحكام وأصحاب السلطان؟ إن الأكثرية تميل إلى تحميل الحكام وزر ما نحن فيه. ويعدِّد القرضاوي أسبابًا ثلاثة لهذا:

(1) فالشعوب تحب أن تحمل عبء تبعتها على عاتق حكامها.

(2) وهي تنفِّس عن نفسها بذلك.

(3) والمسؤولية بقدر المكنة والسلطة، والحكام قد مكنوا وسلطوا.

ومن ناحية أخري يلفت القرضاوي النظر إلى المسؤولية التي يمكن إلقاؤها على عاتق العلماء، ويتساءل القرضاوي أيضًا: هل تقع المسؤولية على العلماء باعتبارهم ورثة الأنبياء؟ ولكن القرضاوي يميل في هذا الجانب إلى أن يكون أكثر واقعية في هذا الشأن، (فالحقيقة أن علماء اليوم لم يعودوا وحدهم في الميدان كما كانوا في العصور الماضية، فقد غدا الذين يملكون الكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية في أجهزة الإعلام أشد تأثيرًا في الجماهير من أصحاب المنابر).

أما إلقاء المسؤولية على عاتق الجماهير، فهو البعد الثالث الذي يعالجه القرضاوي بمنطق برجماتي، وفي هذا المجال يكتفي القرضاوي بسرد قصة طريفة ملخصها أن أحد المستمعين قال لأحد الدعاة بعد محاضرة ألقاها: (قد مضي لكم ثلاثون سنة وأنتم تتكلمون فماذا صنعتم؟ وكان جواب الداعية مفحمًا حين قال: وأنتم مضى لكم ثلاثون سنة وأنتم تسمعون فماذا صنعتم؟!) ويعقِّب القرضاوي على القصة بقوله: (وهذا حق، فإن على المستمع كما على المتكلم، مسؤولية تحويل الكلام إلى عمل، والأفكار إلى واقع، وإن اختلفت درجة المسؤولية).

(10)

وفي بداية الفصل الذي خصصه للوقوف مع الحركة الإسلامية، يعرِّف الدكتور القرضاوي الحركة الإسلامية بأنها: (مجموع العمل الإسلامي الجماعي الشعبي المحتسب، المنبثق عن ضمير الأمة، والمعبر بصدق عن شخصيتها وآلامها وآمالها وعقائدها وأفكارها، وقيمها الثابتة، وطموحاتها المتجددة، وسعيها إلى الوحدة تحت راية العقيدة منذ هدمت قلعة الخلافة).

ويميل القرضاوي بتعريفه وفكره إلى أن يكون استيعابيًّا أكثر منه استبعاديًّا، فهو مع تقديره لحركة الإخوان المسلمين التي هي في رأي الدكتور إسحاق موسي الحسيني (منذ أكثر ثلث قرن): أم الحركات الإسلامية الحديثة وكبراها. يمتد بالتعريف ليشمل غيرها من الحركات.

ومع أن القرضاوي لا يلقي بمسؤولية التمزق أو سير الأحداث في الأمة الإسلامية على عاتق الحركة الإسلامية؛ لأنه يؤمن أن قوى الطغيان الخائفة من الإسلام تقاومها في الداخل، وقوى الاستعمار الكارهة للإسلام تقاومها في الخارج.

كما أنه يؤمن أيضًا بأنه لا ينبغي أن نجعل النجاح أو الإخفاق مقياسًا للصواب والخطأ، ومعيارًا للحق والباطل. ومع هذا كله فهو يرى (أن الحركة الإسلامية ليست مبرأة من كل مأخذ، أو أنها فوق النقد والنصح، كما يتوهم بعض المخلصين من أتباع الحركة، حيث يخلط بين الحركة الإسلامية والإسلام ذاته، فنقد الحركة يعني لديه نقد الإسلام، كما يصنع هذا بالفعل بعض العلمانيين الذين ينقدون الحركة، فينقدون الإسلام وأحكامه وشرائعه).

وهكذا يصل القرضاوي إلى موقف فكري يتيح له أن ينقد الحركة الإسلامية في وضوح وصراحة.


(*) مفكر عربي معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي والتنموي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وعضو مجامع اللغة والمجامع العلمية واتحادات الكتاب، وهذه الورقة كانت ضمن كتاب: “التسعينية” بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي تسعين عاما، ونشرت أعمالها في خمسة مجلدات كبيرة.

اترك تعليق

  1. يقول 🌍 Hello World! https://national-team.top/go/hezwgobsmq5dinbw?hs=d3d428f296d40c89879ff79be4b6ceec 🌍:

    o64ah0

  2. يقول احمد محمد يوسف:

    المقال اكثر من رائع وشيق رحم الله القرضاوي والجوادي وانزلهما منازل الشهداء واغفرلها اللهم امين وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين اجمعين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين