بقلم أ.د. محمد الجوادي(*)
(11)
يرى الدكتور القرضاوي أن أول ما يشكو منه ذوو البصائر داخل الحركة الإسلامية هو: أن النقد الذاتي فيها ضعيف، إن لم يكن غائبًا في بعض الأحيان. ويؤصل القرضاوي مفهوم النقد الذاتي فيرجع به إلى تعبير القرآن ﴿النفس اللوامة﴾، والحديث الشريف: “الكيس من دان نفسه”. وقول بعض السلف: المؤمن أشد حسابًا لنفسه، من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح.
وبذكاء شديد يلفت القرضاوي نظرنا إلى حقيقة ربانية مهمة، وذلك حيث يقول: (والله قد عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، ولكنه لم يعصم أية جماعة منها أن تخطئ أو تضل، وخصوصًا في القضايا الاجتهادية، التي تتعدد فيها وجهات النظر، وتتعدد المواقف فيها، قابلة للصواب والخطأ).
وينصح القرضاوي الحركات الإسلامية: (أن تشجع أبناءها على تقديم النصح وإن كان مرًّا، والنقد وإن كان موجعًا، كما كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءًا أهدى إلى عيوب نفسي.
(12)
مع هذا فإن القرضاوي يعرض الجانب الآخر من الإشكالية، وهو يستعرض بذكاء شديد (أيضًا) المحاذير التي قد تكون وراء الخوف من فتح باب النقد الذاتي، فبعض المخلصين يخافون إن فتح هذا الباب (أن يلجه مَن يحسنه ومَن لا يحسنه، فقد يفسد أكثر مما يصلح).
وهنا يذكر القرضاوي أن هذا هو نفس العذر الذي جعل بعض العلماء قديمًا يتواصون بسد باب الاجتهاد، حتى لا يدخل منه الأدعياء والمتطفلون، ولكن (الواجب هنا وهناك: أن يفتح الباب لأهله القادرين عليه، ولا يبقى في النهاية إلا النافع، ولا يصح إلا الصحيح).
وهو يفرق بين نقد القادة، ونقد الحركات!
ويردف القرضاوي بذكر السبب الثاني (والأهم في رأينا) وراء الإحجام عن إتاحة الفرصة للنقد الذاتي، فأصحاب هذا الرأي يخافون (أن يصور النقد لأفكار بعض قادة الحركات الإسلامية بصورة الاتهام لهم)، ويرد القرضاوي على هذا الاحتمال بوجهة نظر تتميز بالبساطة الشديدة، ولكنها مقنعة وهو يقول: (فحسن البنا في أصوله العشرين أكد أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم)، و(سيد قطب انتقل من مجرد أديب ناقد مبهور ببلاغة القرآن، إلى كاتب إسلامي يدعو إلى عدالة الإسلام … ثم إلى داعية حركي له أفكاره الخاصة).
(13)
هنا ينبغي لنا أن نتوقف قليلًا لنلفت نظر القارئ إلى رأي مهم وممتاز للقرضاوي في سيد قطب، وهو يستأنف كلامه أو نحن نستأنف نقل كلامه عن سيد قطب، وهو يصرح برأيه فيقول إن سيد قطب كانت (له أفكاره الخاصة في منهج التغيير، والنظرة إلى المجتمع، والدعوة إلى العقيدة بدل الدعوة إلى النظام (مرحلة المعالم، والطبعة الثانية من الظلال)، وقد ذكر هو ذلك عن نفسه لبعض تلاميذه، فقال له أحدهم إذن أنت لك مذهبان: قديم وجديد كالشافعي. فقال له: نعم، ولكن الشافعي غيَّر في الفروع، وأنا غيَّرت في الأصول).
ويردف القرضاوي هذه العبارة بقوله: (ومن يدري لعل البحث الناقد يجد أن مذهبه القديم – في بعض القضايا على الأقل – أدنى إلى الصواب من مذهبه الجديد). وهكذا نجد ميل القرضاوي الواضح إلى الابتعاد عن الانتماء إلى أفكار سيد قطب في مرحلته الأخيرة.
(14)
ومع أن القرضاوي يقدر خطورة اللعب بالنقد الذاتي، خصوصًا على أيدي ذوي النزعة اليسارية كما فعلوا في كتابه (الحل الإسلامي) على طريقة الشاعر السكير:
ما قال ربك: ويل للألى سكروا ** بل قال ربك: ويل للمصلينا
إلا أنه باطمئنان المفكر يختم حديثه في هذه القضية بقول يعبِّر عن عقلية متفتحة وناضجة: (وقد حرف الناس كلمات الله عن مواضعها، ولكنها بقيت مضيئة هادية، وكلامنا نحن البشر ليس أولى بالحفظ من كلام الله).
(15)
ونأتي إلى رأي القرضاوي في (الانقسام والاختلاف). وجوهر رأي القرضاوي في هذه المسألة هو الدعوة إلى التقارب لا الوحدة، وهو يقول في صراحة ووضوح: إنه تبنى هذا الرأي. ويعلل ذلك بقوله: (لأني لا أنكر تعدد الجماعات العاملة للإسلام، ولا أطمع أن ينضوي الجميع في جماعة واحدة، يضمها تنظيم واحد، تحت قيادة واحدة، فهذا حلم جميل، ولكن دون تحققه صعوبات لا يسهل تذليلها إلا أن ينقلب البشر إلى ملائكة ذوي أجنحة).
ومع هذا فللقرضاوي أفكار ممتازة في تعدد الجماعات، (إذا كان تعدد تنوُّع وتخصُّص، لا تعدد تضاد وتناقض): وهو يضرب الأمثلة على هذا التقدير المطلوب:
*فجماعة تتخصص في تحرير العقيدة من الخرافة والشرك، وتصحيح عقائد المسلمين، وفق الكتاب والسنة.
*وأخرى تتخصص في تصحيح العبادات وتطهيرها من البدع والشوائب، وتفقيه الناس في دينهم.
*وثالثة تعنى بمشكلات الأسرة والمرأة، والدعوة إلى الحجاب الشرعي، ومقاومة التبرج والانحلال.
*ورابعة تُعنى بالعمل السياسي، وخوض معارك الانتخابات، (والوقوف في وجه الأحزاب العلمانية). هكذا في النص، وهو تعبير يدل على روح المواجهة عند القرضاوي! حتى ولو في الضمير غير الواعي!
*خامسة تهتم بالعمل التربوي أو العمل الاجتماعي، وتبذل فيه جهدها ووقتها. وهكذا.
ثم يقول القرضاوي: (يخاطب الأولون العواطف، ويستثيرون مشاعر الإيمان، على حين يخاطب الآخرون العقول والأفكار، وبخاصة عقول أولئك المغزوين للثقافة الغربية بشقيها: الليبرالي والاشتراكي).
(16)
يعاود القرضاوي التأكيد على انتقاده الشديد للمبالغة في الحرص على الوحدة، التي لا تكون إلا سببًا إلى الفرقة، فيقول: (وأولى من ذلك الاعتراف بتعدُّد الاجتهادات، وتنوع الأساليب بناء على تعدد زوايا الرؤية، والاختلاف في ترتيب الأهداف، وفاعلية الوسائل وتقدير الأولويات، ومدى المعينات والعوائق، إلى غير ذلك مما يتغير فيه الاجتهاد أو الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والملابسات، ولكل مجتهد نصيب، ولك امرئ ما نوى).
وفي صراحة شديدة ووضوح فكري ملموس، يحصر القرضاوي أهم الجماعات الإسلامية العاملة: الإخوان، والسلفيين، والجهاد، والتحرير الإسلامي، والتبليغ، إلخ. ثم يدعو إلى أساس مشترك للتعاون بين هذه الجماعات جميعًا، ويعبر عن هذا في وضوح أشد بقوله: (وأعتقد أن الأصول العشرين التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا، وجعلها أساسًا لوحدة الفهم عند العاملين للإسلام، والتي صاغها صياغة فيها كثير من الحكمة والاعتدال. هذه الأصول يمكن أن تكون مرتكزًا للقاء فكري مشترك بين الجماعات المذكورة؛ إذا صدقت النيات).
(17)
وينتقل الدكتور القرضاوي بعد هذا إلى أن يذكر أن غلبة الاتجاه العاطفي على الاتجاه العقلي والعلمي تمثل ثالثة الآفات التي تعاني منها الحركة الإسلامية، وقبل أن يتعرض القرضاوي لهذه الآفة في حد ذاتها فإنه يخصص فقرات مهمة وطويلة للحديث عن (أهمية العاطفة في الحركة الإسلامية)، وفي هذا الصدد نقتطف من حديثه قوله: (فالإسلام – مع احترامه للعقل، ودعوته للنظر والفكر – ليس مجرد فلسفة عقلية منطقية جامدة، إنه يشتمل على جانب عاطفي في تعاليمه لا ينكره أحد، مثل الحب في الله، والبغض في الله، والفرح بتوفيق الله، والحزن على معصية الله، والخوف والرجاء، وغيرها من (الأحوال) النفسية التي عني بها وفصلها أهل التصوف في كتبهم).
(وهذا الجانب لا بد منه للحركة، لتوفير قدر من الحماسة، يدفع إلى العمل وإلى البذل، وكذلك لربط القلوب برباط المحبة والأخوة، التي قد ترتقي فتصل إلى درجة الإيثار).
ويروي القرضاوي كيف كان الإمام حسن البنا منتبهًا إلى أهمية وحدة المشاعر بين أفراد جماعته، ولهذا جعل الأخوة من أركان البيعة، وكان من كلماته المأثورة: إن دعوتنا تقوم على دعائم ثلاث: الفهم الدقيق، والإيمان العميق، والحب الوثيق.
(18)
وينتقل القرضاوي بعد هذا إلى الجانب المرضي من العاطفة، فيبدأ بتناول الظواهر الدالة على غلبة العاطفة، ويرى الدكتور القرضاوي أن هناك مظاهر ثلاثة – على الأقل – لهذا الاتجاه الجانح إلى تغليب العاطفة على العقل والعلم، وأن هذه الدلائل هي:
قصور الدراسة والتخطيط.
العجلة.
المبالغة.
وسوف نعرض لكل مظهر من هذه المظاهر على النحو الذي تناوله به مفكرنا الكبير، وبإيجاز شديد.
(*) مفكر عربي معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي والتنموي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وعضو مجامع اللغة والمجامع العلمية واتحادات الكتاب، وهذه الورقة كانت ضمن كتاب: “التسعينية” بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي تسعين عاما، ونشرت أعمالها في خمسة مجلدات كبيرة.