بقلم الأستاذ الدكتور محمد الجوادي(*)
(28)
ويتعمد القرضاوي أن يفرد حديثا خاصا لإنجازات وثمار الحركة الإسلامية، وهو يعدد خمسة مكاسب مهمة حققتها الحركة الإسلامية:
* فهي أولًا: قد صححت المفاهيم التي شوهتها عصور الجمود، وطاردت الغزو الثقافي الذي خلا له الميدان في بعض المراحل، وأغنت المكتبة الإسلامية بعدد غير قليل من الكتب والرسائل، وبذلك أحدثت بناءًا فكريًّا ضخمًا!
* وهي ثانيًا: أعادت الشعور بالذاتية الإسلامية، وبالانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس، وحطمت الحركة الهالة التي قدمت بها الحضارة الغربية، وجعلت منها صنمًا يعبد، وحررت نفس المسلم من الشعور بالدونية والهزيمة الروحية.
* وهي ثالثًا: أنشأت جيلا من المسلمين والمسلمات، والملتزمين بالإسلام اعتقادًا وتعبدًا، وفكرًا وسلوكًا، ودعوة وجهادًا.
* ثم إنها رابعًا: كونت وراء هذا الجيل الملتزم رأيًا عامًّا إسلاميًّا، يناصر الإسلام، ويحب دعوته، ويظهر الولاء لشريعته، وينكر الإلحاد والإباحية والعلمانية.
* وخامسًا: أسهمت بأكبر نصيب في إيجاد ما اصطلح على تسميته بالصحوة الإسلامية، وكان لها أثرها في الجهاد الإسلامي في أفغانستان والفلبين وغيرها، وفي إقامة البنوك والمؤسسات الاقتصادية الإسلامية، وفي انتشار الكتاب الإسلامي، حتى ضرب الأرقام القياسية في التوزيع.
(29)
يعقب القرضاوي على ما حصره من مكاسب الحركة الإسلامية بقوله: (ومن العدل أن نسجل للحركة الإسلامية تطورها الجديد في أفكارها وعلاقتها)، ويضرب على هذا التطور بعض الأمثلة:
فالإخوان في مصر يتعاونون مع حزب الوفد في مصر، وإخوة آخرون (لا يذكر القرضاوي أين هم؟ أو في أي البلاد الإسلامية) يتحالفون مع القوى الوطنية المعارضة للعمل على إسقاط نظام طاغوتي يقاوم الإسلام جهرة، رغم تشنج فئة من المخلصين الذين يرفضون أي تحالف أو تفاهم مع أي فرد أو هيئة أو فئة غير ملتزمة بالإسلام.
وهكذا يعدد القرضاوي أوجه النشاط السياسي المتطور للجماعات الإسلامية في سوريا، وباكستان أيضًا.
وهو يريد أن يتفاءل بأن الحركة تنتقل من مرحلة الكلام إلى مرحلة العمل، وتتحرر من تلك الآفة التي غدت ظاهرة عامة بيننا نحن المسلمين، والتي غدت تعوق خطانا عن السير، وهي كثرة النواح على الماضي، وقلة العمل الحاضر.
(30)
ثم ينقل القرضاوي إلى نصيحة الحركة الإسلامية بالتركيز في الوقت ذاته على النخبة والجماهير وهو يتناول هذا المعن بعبارات واضحة فيقول: (أن تعمل بجد وعزم للوصول إلى قلب النخبة والجماهير، وإزالة ذلك السور الذي ضرب بين الحركة وبين عدد كبير من (النخبة)، أي المثقفين من جهة، وبينها وبين عدد كبير من الجماهير من جهة أخرى).
وهو يقول أيضًا: (ولا بد للحركة أن تعمل جاهدة على إذابة حاجز العزلة، وكسر هذا السور المفتعل).
(31)
لا يغفل القرضاوي عن إدراك حقيقة أن هناك قوى معادية لانتصار الإسلام وعودته إلى قيادة المجتمع، قد استغلت بعض الإفراط من جانب الجماعات الإسلامية فيما أطلق عليه (التطرف الديني)، (واستغلت هذه الظاهرة بخبث ودهاء، وحرصت على تغذيتها لتكبر وتنمو، ورمت لها بالوقود لتظل متأججة ملتهبة).
ويعدد الدكتور القرضاوي بعقليته الفاحصة الفوائد التي جنتها القوى المعادية للإسلام، في الأمور التالية:
– تنفير جماهير الناس من ظهور الإسلام نظامًا حاكمًا للحياة، ما دام الذين يدعون إليه ويجسدون صحوته (يتبنون التشديد، والتضييق، وتحجير ما وسع الله، وتعسير ما يسر على عباده).
– شغل جيل الشباب الذي يمثل العمود الفقري للصحوة الإسلامية بالمسائل الجزئية والقضايا الجانبية.
– شغل القوى الإسلامية المتحركة بعضها ببعض.
– إعطاء السلطات المتربصة بالدعوة الإسلامية مبررًا لتضرب التحرك الإسلامي، والعمل الإسلامي كله، السوي منه والشاذ، تحت مظلة محاربة (التطرف) ومقاومة المتطرفين.
– تيئيس الناس في النهاية من الإسلام ودعاته.
(32)
وفي ثنايا هذا السياق الممنهج الذي يقدمه القرضاوي عن الحركة الإسلامية، العمل والأمل، تأتي فقرة من أهم فقرات الكتاب هي تلك التي يتحدث فيها عن أهمية العفوية والتلقائية: (وهذه العفوية أو التلقائية أو الهلامية لها فائدتها في الامتداد الأفقي في مختلف شرائح المجتمع، دون عوائق نفسية أو اجتماعية أو سياسية، ما يعوق انتشار الدعوات ذات الاسم المعين والإطار الخاص والتاريخ المعروف، والتي لها أعداء تقليديون، وخصوم منافسون، كما (أن) لها فائدتها في بقاء هذه الصحوة بمعزل عن إرهاب السلطات المستبدة، التي تعجز عن محاصرة هذه الصحوة أو ضربها).
(33)
وقبل نهاية هذا الفصل المهم من كتاب القرضاوي نجده يعطي أهمية خاصة لتحديد ميادين العمل التي ينبغي أن توجه الحركة الإسلامية جهدها إليها، (وألا يستهلك العمل السياسي كل جهدها أو وقتها)، وهكذا يمكن لنا القول بأن القرضاوي قد انتبه إلى أهمية السياسات طويلة المدى في تدعيم دور الحركة الإسلامية ونشاطها ومستقبلها.
وفي الميدان الاجتماعي على سبيل المثال: يذكر القرضاوي أن المسلمين قد قصَّروا تقصيرًا شائنًا، مما يدعوه إلى الدعوة إلى تكوين ما أطلق عليه (الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية)، لتعمل بكل طاقاتها على (توفير الغذاء للجائع، والكساء للعاري، والدواء للمريض، والرعاية لليتيم، والإيواء للمشرد، والتعليم الجاهل، والتشغيل للعاطل، إلخ).
ويضرب القرضاوي المثل في هذا الصدد بجهد حسن البنا الواضح في العمل الاجتماعي. ويبذل القرضاوي جهدًا واضحًا في تفنيد حجج الذين يطالبون بتأجيل الإصلاح حتى تقوم الدولة الإسلامية، ولا يتوقف القرضاوي عند التفنيد العقلاني، ولكنه يمضي في هذا الاتجاه إلى الحد الذي يجعله يسخر منها سخرية واضحة.
(34)
يلخص القرضاوي بصوت عال فكرته حول مشكلات الحركة الإسلامية، بأن الخلل (في داخل كل منا، في أنفسنا التي بين جنوبنا، في حبنا لذواتنا، وطوافنا حولها كما يطوف الوثني بوثنه، في محاولتنا لتبرئة أنفسنا واتهام غيرنا).
ويعدد القرضاوي خمسة أمور تقوي أمله في المستقبل المرجو للحركات الإسلامية:
– إن معنا الحق، الذي قامت به السموات والأرض.
– إن معنا الفطرة، التي فطر الله الناس عليها.
– إن معنا شعوب الأمة الإسلامية، التي غدا الإسلام لحمتها وسداها، وأصبح جزءًا لا يتجزأ من كيانها العقلي والنفسي والاجتماعي.
– إن معنا مصلحة الإنسانية، التي شقيت بفلسفات البشر وتشريعات الأرض، فما عاد يسعدها إلا هداية السماء.
– ومعنا قبل ذلك وبعده: تأييد الله تبارك وتعالى، الذي وعد بنصر مَن ينصره، وتكفل بأن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
وهكذا يبدو مفكرنا وقد نجح في أن يختم كتابه بالأمل القوي المشجع بعد أن امتلأ كتابه بكثير من التحليل العميق.
(35)
علي أن من الإنصاف للقرضاوي: أن ننقل عنه جوهر فكره كما لخصه هو بنفسه في ملتقي الفكر الإسلامي الثامن عشر في الجزائر (1984م)، والذي كان موضوعه الصحوة الإسلامية، حيث تحدث القرضاوي عن مستقبل الصحوة الإسلامية بين الأمل فيها والخوف عليها، يقول القرضاوي: (وقد حددت برنامج هذا الانتقال أو التطور في عشرين نقطة أساسية، من شأنها – إذا رُوعيت وتحقَّقت – أن تجعل هذه الصحوة أهلًا لقيادة الأمة كلها، وإزالة التناقض القائم بين عقيدتها المستقرة في ضميرها، وبين واقعها الذي عزل فيه الإسلام عن قيادة الركب وحكم المجتمع.
ويكفيني هنا أن أشير إلى عناوين من هذه النقاط العشرين، التي تمثِّل الخطوط العريضة لمستقبل الصحوة المنشودة في فهم الإسلام، والدعوة إليه، والعلاقة بالآخرين من العاملين له، والقاعدين عنه من أبناء أمته، ومن الجاهلين به، والخائفين منه، والطامعين فيه، والحاقدين عليه من غير أمته.
لا بد أن تنتقل دائرة الاهتمام والتركيز:
1- من الفروع والجزئيات إلى الأصول والكليات.
2- من النوافل إلى الفرائض.
3- من المختلف فيه إلى المتفق عليه.
4- من أعمال الجوارح إلى أعمال القلوب.
5- من طرفي الغلو والتفريط إلى الوسطية والاعتدال.
6- من التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير.
7- من الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد.
8- من الكلام والجدل إلى العطاء والعمل.
9- من العاطفية والارتجال إلى العلمية والتخطيط.
10- من التعصب على المخالفين في الرأي إلى التسامح معهم.
11- من الإثارة إلى التفقيه (أو من أسلوب الوعاظ إلى أسلوب الفقهاء، أو من حماس المنبر إلى هدوء الحلقة).
12- من الكم إلى الكيف (أو من الاهتمام بتزايد الأعداد ولو على حساب التربية إلى العناية بالتربية ولو على حساب العدد).
13- من سماء الأحلام إلى أرض الواقع (أو من المثالي المنشود إلى الممكن الموجود).
14- من الاستعلاء على المجتمع إلى المعايشة له (أو من موقف ممثل الاتهام إلى موقف الطبيب).
15- من الانكفاء على الماضي إلى معايشة الحاضر، والإعداد للمستقبل.
16- من الاستغراق في العمل السياسي إلى الاهتمام بالعمل الاجتماعي.
17- من اختلاف التضاد والتشاحن إلى اختلاف التنوع والتعاون.
18- من إهمال شؤون الحياة إلى التعبد بإتقانها.
19- من الإقليمية الضيقة إلى العالمية الواسعة.
20- من الإعجاب بالنفس إلى محاسبة النفس (أو من الغلو في إثبات الذات إلى نقد الذات).
ويقول القرضاوي بعد تعداد هذه الاتجاهات المرجوة: (هذه هي المنطلقات العشرون، والتي اعتبرت بمثابة (ورقة عمل) لتوجيه الصحوة الإسلامية ومن باب أولي: الحركة الإسلامية).
(*) مفكر عربي معاصر، جمع بين الطب والأدب والتاريخ والنقد واللغة والفكر السياسي والتنموي، حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وعضو مجامع اللغة والمجامع العلمية واتحادات الكتاب، وهذه الورقة كانت ضمن كتاب: “التسعينية” بمناسبة بلوغ الإمام القرضاوي تسعين عاما، ونشرت أعمالها في خمسة مجلدات كبيرة.
Just what I was searching for, appreciate it for putting up.