بقلم أ. محمد الحبيب الدكالي _ 2/3
لا يمكن فهم إرهاصات ومؤشرات تفسخ الكيان الصهيوني دون فهم تاريخ نشأته والكيفيات التي تأسست بها الدولة والمجتمع الإسرائيليين.
نشأة وتطور الفكرة والحركة الصهيونيين
أدركت النخب اليهودية في أوروبا وبشكل خاص في ألمانيا وفرنسا، منذ بدايات القرن 19، أن هناك مشكلة كبيرة تواجهها
التجمّعات اليهودية في أوروبا
وتتمثل في حالة التناقض بين ثقافة الانغلاق ورفض الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، ومخاطر استمرار كراهية واضطهاد اليهود من طرف هذه الأخيرة. ومع بروز المسألة القومية في الفكر السياسي الأوروبي، ظهرتالبذور الأولى للفكرة الصهيونية في أوساط تلك النخب. ففي إيطاليا ظهرت الحركة القومية الإيطالية التي استندت إلى الفكرة اللاتينية كمرجعية فكرية تنادي بتفوق وتاريخية الثقافة الرومانية وإرثها الامبراطوري، وطوّرها خلال ثلاثينات القرن 19 كتيار سياسي جوزيبي مانتزيني ثم تحولت إلى حركة مسلحة قادها جوزيبي غاريبالدي (1807-1882Giuseppe Garibaldi ) الذي وحّد شمال إيطاليا بجنوبها. وفي ألمانيا التي كانت خريطتها السياسية فسيفسائية، قاد المستشار بيسمارك (Bismark) عملية توحيد 28 إمارة وصولا إلى دستور موحّد سنة 1871، وكان لفكرة تميّز الألمان كأمة متفوقة عرقيا والتي نظّر لها فلاسفة كبار مثل جوته وشيلر ونيتشه أثر كبير في الفكر السياسي الألماني والأوروبي عموما في القرن 19. ويعود الأصل في المدارس الفكرية والسياسية القومية الأوروبية إلى شعارات الثورة الفرنسية وظهور مفهوم “الأمة” وحرية الشعوب في حكم نفسها.
كل هذه التحولات العميقة في في الفكر السياسي وفي الخريطة السياسية في القارة العجوز، كانت تجري أمام أنظار النخب اليهودية. وأمام الوضعية التاريخية للتجمعات اليهودية في أوروبا، نشأت البذرة الأولى للفكرة الصهيونية لدى عدد من القيادات اليهودية، ومن أبرزهم الطبيب ليون بينسكر (1821-1891) Leon Pinsker البولوني الأصل الذي نادى بشعار “التحرير الذاتي” Auto emancipation)) بتأسيس “وطن قومي لليهود” على “أرض إسرائيل”، وكان من بين مؤسسي أولى المنظمات الصهيونية باسم ” حركة هوفيفي صهيون” بدعم من البارون إدموند ج دي روتشيلد . ومن الرموز المؤسسة كذلك للحركة الصهيونية موشي هس الألماني Moshe Hess (1812-1875). وسرعان ما انتشرت الفكرة الصهيونية في أوساط اليهود، لكن هذا الانتشار لم يكن سهلا، فقد لقي معارضة واسعة في أوساط التجمعات اليهودية.
كانت الصعوبة الأكثر أهمية
تتمثل في إقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين، وبالتالي لم تستسغ الشرائح الاجتماعية اليهودية التي كانت تتمتع، بشكل عام، بمستويات تعليمية ومعيشية جيدة فكرة الهجرة. غير أن ظهور فكرة “الاشتراكية الصهيونية” التي نادى بها موشي هس، ستوفر مستندا إيديولوجيا مغريا لشرائح واسعة نسبيا من اليهود الشباب الأوروبيين وبشكل خاص في أوساط اليهود الروس. ويجب التنويه هنا إلى روابط الصداقة القوية التي جمعت بين كارل ماركس وموشي هس، ومع غموض موقف ماركس من الفكرة الصهيونية التي لا دليل على معارضته لها، إلا أنه من المرجح تماما أن يكون ماركس قد أيد الفكرة، فقد اشتهر عنه تأييده للحملات الاستعمارية الوحشية في أفريقيا وآسيا بزعم أن الاستعمار، رغم طبيعته الرأسمالية الاستغلالية، إلا أنه كان يعتقد، وهذا ما عكسته مقالاته عن الاستعمار الأوروبي عندما عمل مراسلا لبعض الصحف الأوروبية والأمريكية، أن هذه الحملات ستساهم في إخراج “الشعوب الهمجية”، حسب تعبيره، من براثن الجهل والتوحش إلى أنوار التحضّر.
الحقائق التاريخية
ومن الفصول التي تعتم عليها الأدبيات والمصادر التاريخية، التلاقح الإيديولوجي السياسي بين الماركسية اللينينية والفكرة الصهيونية، ومثّل هذا التلاقح عاملا مهما في تطور الحركة الصهيونية كفكرة استعمارية وفي تحقيق مشروع “الوطن القومي لليهود” على “أرض إسرائيل”. ولتوليفة التحالف بين الحركات الماركسية والشيوعية في روسيا وأوروبا والحركة الصهيونية قصة مثيرة، ويتعذر فعلا التطرق إلى هذه المسألة في عجالة، لكن الأمر هنا يتعلق بحقائق تاريخية غير قابلة للدحض. فعلى سبيل المثال، نسبة كبيرة من القادة البلاشفة بعد ثورة 1917 كانوا من اليهود وعلى رأسهم فلاديمير أوليانوف إيليتش المعروف باسم (لينين) (1870-1924) وكامنيف وزينوفييف، وبشكل عام، 12 من أصل 15 عضوا شكلوا أول لجنة مركزية للحزب الشيوعي السوفييتي كانوا يهودا. كما أن أبرز زعماء الحركة الشيوعية الألمانية كانوا يهودا وعلى رأسهم روزا لوكسمبورغ Rosa Luxembourg (1871- 1919) وصديقاها كلارا زيتكن وبول ليفي وغيرهم هم من اليهود، وتعتبر روزا لوكسمبورغ أبرز قادة محاولة إشعال ثورة بلشفية في ألمانيا سنة 1918، وانتهى بها الأمر إلى مقتلها في السنة الموالية بعد سحق محاولة الثورة من طرف السلطات الألمانية.
تأسيس الحركات والأحزاب الشيوعية
وفي واقع الأمر يمكن القول بأنه كان للمثقفين اليهود الدور الأبرز في تأسيس الحركات والأحزاب الشيوعية في روسيا وأوروبا، ويلاحظ كذلك أن كل تلك الأحزاب والحركات أيدت بحماس مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، بما في ذلك الأحزاب الشيوعية العربية التي تأسست هي الأخرى، وبدون استثناء، من طرف مثقفين يهود محليين لكنهم كلهم كانوا مرتبطين وتابعين للأحزاب الشيوعية الوصية الأوروبية. لكن الدور الأخطر كان دور الاتحاد السوفييتي الذي وصلت النخب اليهودية فيه إلى أعلى مراتب السلطة في روسيا منذ الثورة البلشفية، ولا زالوا يحتفظون بنفس النفوذ البالغ حتى عهد بوتين حاليا. فمن جهة، اتبعت القيادة السوفييتية بعد الحرب العالمية الثانية وحتى هزيمة 1967 سياسة تسهيل الهجرة اليهودية من جميع دول أوروبا الشرقية بدون استثناء من رومانيا إلى بولاندا، وكان لهذه السياسة الدور الحاسم في زيادة أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين والإعلان عن قيام الدولة العبرية في 15 مايو 1948 التي اعترفت بها الدول الاستعمارية والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وباقي بلدان حلف وارسو، وكان الاتحاد السوفييتي هو الدولة الوحيدة التي اعترفت بـ”دولة إسرائيل” اعترافا قانونيا كاملا بإيداع وثائق الاعتراف لدى الأمم المتحدة، بينما كان اعتراف سائر الدول الأخرى على أساس “الأمر الواقع” De facto.
وبغض النظر عن السياسات الخارجية السوفييتية الموجهة للمنطقة العربية بالدعم الظاهري لـ”حقوق الفلسطينيين” وللعرب، لكن هذه السياسات لم تكن لأجل سواد عيون الفلسطينيين والعرب بل يجب أن تفهم في إطار سياقات الحرب الباردة والصراع مع أمريكا على مناطق النفوذ، وحرص الروس على الوصول إلى مياه الخليج الدافئة، لأن الاتحاد السوفياتي، عمليا، فتح أبواب الهجرة اليهودية من روسيا إلى فلسطين بعد هزيمة 1967 بعد استنفاذ الرصيد البشري من التجمعات اليهودية في أوروبا الشرقية، إذ يعتبر اليهود الروس ثاني أكبر تجمع يهودي في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تزال هذه الهجرة مستمرة إلى اليوم، وبدون ضجيج. إن تسهيل الهجرة الصهيونية إلى فلسطين هو في جوهره من أقوى أنواع دعم الكيان ويتناقض مع البروباغاندا السوفييتية حول دعم “حقوق الفلسطينيين”، لكن لا محل للعاطفة هنا، فالدول المستكبرة لها حسابات باردة جدا ولا تكترث لمفاهيم الحق والعدل والقانون وحرية الشعوب.. لم يكن الروس في يوم من الأيام أقل ضراوة في تأييد الدولة اليهودية من أمريكا، والتدخل العسكري الروسي المجرم في سوريا لمواجهة ثورة السوريين ودعم المجرم بشار الأسد كان بتنسيق مباشر مع “إسرائيل” وهو تنسيق عسكري وأمني مستمر ولا يتوقف.
ومن الناحية التاريخية، كانت الموجة الأولى من الهجرة اليهودية إلى فلسطين آتية من روسيا، حيث وصلت مجموعة أولى إلى فلسطين سنة 1897 ثم مجموعة ثانية سنة 1905 التي أسست أول كيبوتز في فلسطين (الكيبوتزيم Kiboutzim: مستعمرات زراعية تدار على النمط الشيوعي، فلا ملكية، العمل جماعي، علاقات مشاعية، لا أسرة، الأولاد في حضانات ومدارس جماعية.. ولا تزال الكيبوتزات موجودة لكن النظام الاجتماعي الشيوعي اختفى). هذه الجوانب توضح تماما طبيعة العلاقات بين التنظيمات الشيوعية ومشروع إقامة الدولة الصهيونية.
على الجانب الآخر من الأطلسي
جرت هناك قصة أخرى مختلفة عن استراتيجيات وأدوار الحركة الصهيونية في أوروبا وروسيا.
فالدعم الأمريكي شبه المطلق للكيان الصهيوني هو نتيجة لعوامل معقدة تداخل فيها المالي والاقتصادي والسياسي والتشريعي والعلمي والثقافي، وليس مجرد هوى أمريكي صرف. فقد خطت الولايات المتحدة الأمريكية بخطى سريعة نحو التقدم ثم التفوق الصناعي والعسكري منذ أواخر القرن 19 لتصبح قوة كبيرة خلال الحرب العالمية الأولى ثم قوة أعظم خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها. لقد أدرك دهاقنة الحركة الصهيونية طبيعة الفرص التي يتيحها صعود الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية هائلة، أمام المشروع الصهيوني في فلسطين.
لم تدخر الحركة الصهيونية في أمريكا وسعا ولا فوّتت فرصة للعمل الدؤوب طويل النفس لبناء شبكات للضغط (لوبي) بالغة القوة والنفوذ، إلى الحد الذي أصبحت فيه الحكومات الأمريكية غير قادرة على تمرير أية تشريعات أو سياسات أو قوانين تتناقض مع مصالح الحركة الصهيونية والكيان كدولة، بل العكس تماما هو ما الصحيح.
وبالاستناد إلى القوة المالية الكاسحة، والسيطرة على الإعلام والسينما، وصلت الحركة الصهيونية إلى الكونغرس وإلى السلطة التنفيذية، كما هو معروف، لكن لا يجب فهم الأمر كما لو كان الأمر يتعلق بمجرد ممارسة الضغوط بأشكال ما فقط، بل يتعلق الأمر بشبكات قوية جدا لإعداد “التقارير والمعلومات” عن كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية سواء تعلق الأمر بإسرائيل أو بالفلسطينيين أو بالعرب أو بالمسلمين بشكل عام، حيث يتم تضليل الرأي العام والمسؤولين الحكوميين والمشرّعين بطرق عالية الاحتراف مقابل الترويج لصورة إسرائيل الضحية وكواحة للديموقراطية والتقدم العلمي والتكنولوجي وسط صحراء من الدكتاتورية والتخلف.
لكن نقاط القوة الحقيقية والعميقة لنجاحات الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة تتمثل في واجهتين لهما ثقل كبير :
وصول النخب الصهيونية العلمية والمهنية إلى قطاع واسع من أرقى الجامعات الأمريكية العريقة ومراكز البحث والتفكير ومراكز الدراسات الاستراتيجية (Think Tanks) التي تساهم بأشكال مختلفة ومؤثرة في صنع السياسات ودعم القرار، ولا يتسع المقام للتوسع في الاستشهادات وتكفي الإشارة إلى مؤسسة “راند” (RAND) العملاقة التي تدرس كل شيء في كل مكان تقريبا.
وصول التأثير الصهيوني إلى المجال الديني المسيحي. فقد عمل عدد من المنظّرين والخبراء الصهيونيين خلال بضعة عقود في القرن 20 على تصميم إيديولوجية دينية سياسية تمتاح من الأصول العقائدية والدينية في التوراة والإنجيل، بغرض تحويل الإيديولوجيا الصهيونية إلى جزء من العقيدة الدينية المسيحية، وهي ما صار يعرف ب “المسيحية الصهيونية”، ولها مؤمنون بها في أوساط علياء المسؤولية السياسية وأباطرة المؤسسات الصناعية وفي الجامعات المرموقة، ومنهم الرؤساء السابقون ريغن وبوش الأب والإبن وعديد من كبار المسؤولين في الكونغرس وفي الإدارة الأمريكية.
وبشكل عام عملت الحركة الصهيونية في أمريكا من خلال منظمتين عالميتين:
أولاهما هي “المؤتمر اليهودي العالمي” (World Jewish Congress)التي أسسها ناحوم غولدمان ((Nahum Goldman وهو من كبار الشخصيات الصهيونية التاريخية سنة 1936 في جنيف بداية، كرد فعل لصعود النازية واضطهادها لليهود. والهدف الرئيس من تأسيس هذه المنظمة أن تكون بمثابة “الذراع الدبلوماسي للشعب اليهودي”، أي توحيد توجهات اليهود في جميع أنحاء العالم، واعتبرت أن جميع التجمعات والمجموعات التي تمثل اليهود عضوا في هذه المنظمة، بغض النظر عن الإيديولوجيا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للبلد المضيف، ولها حاليا مكاتب في بروكسل والقدس وباريس وموسكو وبوينوس آيرس وجنيف (ويكيبيديا).
أما الثانية فهي “المنظمة الصهيونية العالمية” (World Zionist Organisation) التي أسسها سنة 1897الصحفي النمساوي تيودور هرتزل (Theodor Herzel 1860-1904) في مدينة بال السويسرية مباشرة بعد تنظيم المؤتمر الصهيوني الأول مباشرة وقد صرح لاحقا في رؤية استراتيجية بعيدة المدى “هنا في بال، أعلن عن قيام دولة يهودية في المستقبل، بعد خمس سنوات، وربما بعد خمسين عاما، سيراها بالتأكيد كل العالم ” (وكيبيديا). وقد عملت المنظمة في مراحل أولى على تأمين المتطلبات الأساسية لدعم الهجرة اليهودية إلى فلسطين وبناء مؤسسات عامة كشركات الكهرباء والبنك والبريد بواسطة شركة استثمارية خاصة (Jewish Colonial Trust – 1899)، ثم الجامعة العبرية التي تأسست سنة 1921 والتي تصنّف الآن من بين أفضل 100 جامعة في العالم، ثم معهد “التخنيون” أو “معهد إسرائيل للتقنية” سنة 1924 الذي صنف في وقت قريب كثامن أرقى معهد للتكنولوجيا في العالم. وبعد قيام الدولة العبرية، عملت المنظمة وما زالت حتى الآن تنشط في مناطق عديدة من العالم لخدمة الكيان في مجالات حيوية مختلفة..
وبالنسبة لآليات الضغط السياسي والإعلامي
وتمويل الحملات الانتخابية لمرشحي الحزبين الجمهوري والديموقراطي على السواء، سواء تعلق الأمر بالنسبة لانتخابات الكونغرس أو مجلس الشيوخ أو الانتخابات الرئاسية، تعتبر “إيباك” أو “لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية” (IPAC) التي تأسست في نيويورك سنة 1951، وتضم عشرات الجمعيات الصهيونية في أمريكا، أقوى مؤسسات الضغط الصهيونية (lobbying) على مستوى الكونغرس ومجلس الشيوخ والإدارة الأمريكية.
(يتبع)