القلة الرائدة صفاتها وسنن الله فيها في القرآن الكريم (2-4)

بقلم أ.د. رمضان خميس الغريب(*)

 لله في خلقه سنن ثابتة وقوانين مستمرة مستقرة لا تتبدل ولا تتغير ووعي المسلمين بهذه السنن يعينهم على إحسان الحياة في سبيل الله والأمة الإسلامية والعربية اليوم تعيش مرحلة من مراحل حضارتها إن وعت فيها قوانين الله في الكون ونواميسه في الحياة والأحياء أمكنها أن تصنع تاريخا يشرفها ويكفر عما سلف منها من قصور في حق إسلامها وحضارتها والأمة لا تقاد فكرا وريادة بجماهير الناس بل بالقلة الرائدة التي تمثل العقل فكرا ورأس الحربة حركة ومن خلال تتبع الآيات الكريمة يمكن أن نتبين  القلة الرائدة , وأهم سماتها  وسنن الله فيها على النحو التالي:

القلة هم الخلاصة المصطفاة والبقية المنتقاة:

القلة المحمودة هي في كل مكان الخلاصة المصطفاة, والبقية المنتقاة, المنتقاة من كل شيء: زمانا، ومكانا، وأفرادا، ومعادن، هم الرواحل التي تتحمل إذا كَلَّ غيرها، وتصبر إذا مَلَّ سواها، تحمل حملها وكثيرا من حمل غيرها, فهي الرائدة في المتاهة, وهي القائدة في اضطراب الأمور، ولقد قيل في واحد من مثل هذه النماذج، وهو صاحب عمامة علمية:

أولت عمامتك العمائم كلها     فخراً تقاصر دونه التيجان

إن الزعامة والطريق مخُوفَةٌ        غيرُ الزعامة والطريق أمـــــــــان

تلك القلة هي التي تقل عند الطمع، وتكثر عند الفزع، فهم – بحق خلاصة جنسهم، وبقية نوعهم، ولقد تبين من خلال سوق القرآن الكريم لتلك النماذج القليلة ما يؤكد تفردهم وندرتهم، وقلتهم فيما يتصفون به، وإذا طالعنا القلة التي عبرت البحر مع طالوت، عرفنا إلى أي مدى تتضح فيهم تلك الصفة، فهم قلة لكنهم هم هم وحدهم الذين عبروا النهر مع طالوت، وهم هم وحدهم الذين أدركوا واعين قوانين الله في النصر والهزيمة إدراكا عمليا، وإن أدركه بعض غيرهم إدراكا ثقافيا معرفيا، وسيبين لنا في الصفحات القادمة كم كانوا واعين بل واعبين لقيم يندر أن يجمعها سواهم، ويقل وجودها فيمن عداهم، وتلك من سنن الله تعالى في خلقه وناموسه في عباده، لقد سئل الحسن عن الذين عبروا النهر :(أَلَيْسَ الْقَوْم جَمِيعًا كَانُوا مُؤمنين الَّذين جاوزوا؟ ! فقَالَ: بلَى، وَلَكِن تفاضلوا بِمَا شحت أنفسهم من الْجِهَاد فِي سَبيله.)([1]).

 فالذين عبروا النهر كانوا كلهم مؤمنين لكن الذين صبروا، وصابروا، ودعوا غيرهم إلى المصابرة هم خلاصة هؤلاء، فهؤلاء َ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنهم ملاقوا الله ( أي: يَتَيَقَّنْون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ ويتوقعون ثوابَ الشهادة وهم الخُلْصُ من أهل البصيرة, قالوا: لا تفزعوا من كثرة عددهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وإرادته ومعونته، …، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر والمعونة.)([2])

 و (كذلك الخواص في كل وقت يقل عددهم ولكن يجل قدرهم.)([3]) وتلك القلة التي يصطفيها الله تعالى هي الخلاصة التي يقوم عليها بناء الحياة، وتنهض بها الريادة والقيادة, وتتقدم الأمم، وتستعاد القيم، والمتأمل لكل قليل في الحياة والأحياء يجده بقية جنسه، وخلاصة نوعه، فالذهب سيد المعادن وهو بينهم قل, والأنبياء هم رواد الأمم وهم بين أقوامهم قلة، والدعاة الصادقون هم الأدلاء للبشر وهم بين المدعوين قلة، والأزمنة المفضلة بين سائر الأزمنة قلة، والأماكن المقدسة بين الأماكن قلة:

تعيرنا أنا قليل رجالنا        فقلت لها إن الكرام قليل

وما ضرنا أنا قليل وجارنا     عزيز وجار الأكثرين ذليل

  وما مات منا سيد حتف أنفه    ولا طل منا حيث كان قتيل

إذا مات منا سيد قام سيد       قئول لما قال الكرام فعول([4])

فهذه القلة على الرغم من أنها في عين غيرها قلة, إلا أنهم في واقع العمل كثرة؛ لأنهم قلة عاملة, (والقلة العاملة تهزم الكثرة النائمة).

 المنصورون في كل زمان قلة:

       والمتتبع لآيات القلة في القرآن الكريم، والراصد لطبيعة القلة في واقع الحياة والأحياء يجد أن القلة العاملة في كل زمان هم المنصورون، لما يشتملون عليه من سمات وخصائص، تعوض قلة عددهم بكثرة يقينهم واعتمادهم، وببذلهم ما لا يبذله غيرهم من الكثرة النائمة الهائمة، التي تقف عند حدود الشكل والمظهر فتغرهم كثرتهم ويخدعهم عددهم, والراصد لنصر المؤمنين في غزواتهم كلها يجد أنهم لم يبلغوا عدد عدوهم، بل لم يتعدوا ثلث عدوهم حصرا، والمعركة الوحيدة التي قالوا فيها (لن نغلب اليوم من قلة)([5])، هي المعركة التي سجل القرآن الكريم عليهم فيها الهزيمة، ونسبها إلى هذه الكثرة المعجبة, والعدد الذي اعتمدوا في حسابهم عليه (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ), التوبة: (25). (فالقليل من ذوى العزائم الصادقة والنفوس التي أشربت حب الإيمان وامتلأت غيرة عليه – يفعل ما لا يفعله الكثير من ذوى الأهواء المختلفة، والنزعات المتضاربة )([6])

      وسر ذلك أن القلة المحمودة لها حساب آخر غير حساب الكثرة المعتمدة على عَددها وعُددها (وقد يكون عدوك كثيراً لكن ليس له رصيد من ألوهية عالية، وقد تكون في قلة من العدد، لكن لك رصيد من ألوهية عالية، وهذا ما يريد الحق أن يلفتنا إليه بقوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً} . كلمة {إِلاَّ قَلِيلاً} جاءت لتخدم قضية، لذلك جاء في آخر القصة قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249], أي: أن الغلبة تأتي بإذن الله، إذن فالشيء المرئي واحد، لكن وجهة نظر الرائين فيه تختلف على قدر رصيدهم الإيماني. …. فالعدو قد يكون كثيراً أمامنا ونحن قلة، وكلنا رأى العدو كثيراً ورأى نفسه قليلاً، لكن المواجيد تختلف. أنا سأحسب نفسي ومعي ربي، وغيري رآهم كثيرين وقال: لا نقدر عليهم؛ لأنه أخرج ربه من الحساب.)([7])

وإذا تتبعنا عدد القلة في جيش طالوت الذين كتب لهم وبهم النصر على جالوت وجنوده وجدناهم ثلاثمائة أو يزيدون قليلا,(أخرج سعيد بن مَنْصُور عَن عُثْمَان بن عَفَّان أَنه قَرَأَ {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا مِنْهُم} قَالَ: الْقَلِيل ثلاثمائة وَبضْعَة عشر عدَّة أهل بدر).([8])

 (لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى.)([9])

والفئة القليلة تكون قلتها في الظاهر المرئي للناس أما القوة المعنوية والروحية والتي هي أساس النصر فتلك لها مقاييس أخرى، مقاييس البصيرة لا البصر، فالإمداد على قدر الاستعداد (والفئة القليلة تكون قلَّتُها في الأفراد والعَتَاد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة الكثيرة، تظهر كثرَتها في العُدَّة والعَدَد وكلِّ لوازم الحرب، والفئة القليلة إنما تَغْلِب بإذن الله تعالى. وهكذا يوضِّح الحق سبحانه أن الأسباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة، لكن مشيئته سبحانه تغلب الأسباب وتصل إلى ما شاءه الله تعالى.)([10])

ولأمر ما ذكر الله – تعالى- تلك النماذج في القلة لجيل النصر الأول؛ يفيدون منه، ويقفون عنده، ويقيمون دولتهم على أساس تلك المفاهيم التي تبني الحضارة وتنشئ الاستمرار الحقيق في ريادة الدنيا باسم الدين.

وحري بمن انتدب نفسه لبلاغ رسالة الله للناس واستهدف إنارة الدنيا بالدين أن يعي هذه المفاهيم، حتى لا تبهره الكثرة فتقهره، فينتقل من دور المبهور إلى دور المقهور أو المسحور أو إلى دور الحمامة ينظر إليه الثعبان فتنشل وتنحل وكان بمكنتها أن تطير، وواقع الأمة المسلمة اليوم ونظرتها للعالم الغربي خير شاهد على هذا، فوعي المسلم بسنة الله في القلة والكثرة يقيه هذه النظرة ويعفيه من تلك الوهدة.

القلة تأتي بعد ابتلاء واختبار:

ميزات القلة وصفاتهم لا تأتي هكذا ضربة لازب, ولا تكون لكل حي، بل بعد تضحيتهم بما لا يضحي به غيرهم، وصبرهم على ما لا يصبر عليه سواهم، فالقلة تأتي بعد اختبار يفرز الغث من السمين، ويميز الخبيث من الطيب.

من هنا تتعرض القلة للتمحيص والفرز فيفوز بوصفها  من تحقق بصفاتها، ويبعد عنها من لا يستطيع مهرها، ولذا تعرض بنو إسرائيل مع طالوت للفرز والابتلاء، حتى يتبين الصابر المجاهد من الخائر الجبان، والمقدام الجسور من  الخائف الرعديد (فالْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِابْتِلَاءِ أَنْ يَتَمَيَّزَ الصِّدِّيقُ عَنِ الزِّنْدِيقِ، وَالْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِينَ يَكُونُونَ أَهْلًا لِهَذَا الْقِتَالِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَشْرَبُونَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِي هَذَا الْقِتَالِ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِمْ نَفْرَةٌ شَدِيدَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْقِتَالِ، لَا جَرَمَ أَقْدَمُوا عَلَى الشُّرْبِ، فَتَمَيَّزَ الْمُوَافِقُ عَنِ الْمُخَالِفِ، وَالصَّدِيقُ عَنِ الْعَدُوِّ.)([11])

ولكل اختبار نتيجة, ولكل بلاء عطاء, ولكل شدة رخاء، والله غالب على أمره, ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وتأتي نتيجة اختبار القلة في هذا الموقف مباشرة إذ يصبر على القتال من لم يشرب من النهر أصلاً، ويتردد من اغترف غرفة بيده، ولا يقوى على العزم فضلا عن السير والقتال من عب وأترع، فَبَشِم وترنح، وجلس للأرض غير مأسوف عليه (وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ طَالُوتَ لَمَّا هَجَمُوا عَلَى النَّهْرِ بَعْدَ عَطَشٍ شَدِيدٍ، وَقَعَ أَكْثَرُهُمْ فِي النَّهْرِ، وَأَكْثَرُوا الشُّرْبَ، وَأَطَاعَ قَوْمُ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى الِاغْتِرَافِ، وَأَمَّا الَّذِينَ شَرِبُوا وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَاسْوَدَّتْ شِفَاهُهُمْ وَغَلَبَهُمُ الْعَطَشُ وَلَمْ يُرْوَوْا، وَبَقُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، وَجَبُنُوا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَأَمَّا الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَوِيَ قَلْبُهُمْ وَصَحَّ إِيمَانُهُمْ، وَعَبَرُوا النَّهْرَ سَالِمِينَ.)([12])

ذلك أن من لم يصبر على الماء كيف يصبر على بذل الدماء؟ ومن لم يتحمل العطش كيف يتحمل وهج السيوف وتطاير الأعضاء، (فمن ظهرت طاعته في تَرْك الماءِ، علم أنه يطيع فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهْوَتُه في الماء، وعصى الأمر، فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ورخَّص للمطيعين في الغُرْفة ليرتفع عنْهم أذى العَطَش بعض الاِرتفاعِ، وليكسروا نزاعَ النَّفْس في هذه الحال.

ولقد أحْسَنَ من شبه الدُّنْيا بنَهَرِ طالوتَ، فمن اغترف منْها غرفة بيد الزهد، وأقبل على ما يعينه من أمر آخرته، نجا، ومَنْ أكبَّ عليها، صدَّته عن التأهُّب لآخرته، وقلَّت سلامته إِلاَّ أنْ يتدارَكَه اللَّه.)([13])

 (وحكمة هذا الامتحان: ليتخلص للجهاد المطيعون المخلصون، إذ لا يقع النصر إلاَّ بهم)([14]).


(*) أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعتي الأزهر وقطر.

الهوامش:

[1] – تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين: (1/ 248).

[2] – البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: (1/ 277).

[3] لطائف الإشارات : (1/ 193).

 [4] – البيان والتبيين: 3/182,والعقد الفريد:1/236.

 [5] – انظر مسند الزار:13/128,ومستخرج أبي عوانة: 4/218.

[6] – تفسير المراغي: (2/ 223).

[7] –  تفسير الشعراوي: (2/ 1044).

[8] – الدر المنثور في التفسير بالمأثور: (1/ 760).

[9] تفسير الشعراوي (2/ 1044).

[10] – تفسير الشعراوي: (11/ 6456).

[11] – مفاتيح الغيب: (6/ 509).

[12] – مفاتيح الغيب: (6/ 511).

[13] – الجواهر الحسان في تفسير القرآن: (1/ 492).

[14] – البحر المديد في تفسير القرآن المجيد: (1/ 277).

اترك تعليق

  1. يقول Samia Haider Houssien:

    ماشاء الله تبارك الرحمن عالمنا الجليل زادكم الله علما وفضلا .

  2. يقول جمال عبدالله:

    جزاكم الله خيرا

  3. يقول هاله فتحي:

    اللهم اجعلنا من القلة المجاهدة الصابرة الخلص اهل البصيرة
    مقال رائع جداً جداً بوركتم فضيلة الدكتور رمضان خميس بارك الله علمكم وعملكم ونفعنا والأمة بعلمكم وفضلكم