في ذكراه السادسة والخمسين

القواعد العشر الحاكمة لقراءة مشروع سيد قطب

بقلم/ د. وصفي عاشور أبو زيد

د. وصفي عاشور أبو زيد

بين كل فترة وأخرى يظهر على السطح الجدل حول فكر سيد قطب ومشروعه الفكري، ما بين مؤيد ومعارض، وبين مادح وقادح، وبين من يرى سيد قطب شيطانًا رجيمًا، ومن يراه ملاكًا معصومًا، وفي نظري أن سيد قطب ومشروعه الفكري – ونحن في ذكراه السادسة والخمسين 29 أغسطس 1966م – سيظل موضع جدل حيوي ونقاش فكري؛ فضلا عن موعد ذكراه من كل عام؛ حيث يكون له حضور كبير واهتمام واسع دون ترتيبات من أحد؛ لأسباب ليس هذا موضع ذكرها، وهذه طبيعة الشخصيات الحيوية ذات الأفكار القوية وذات المسيرة المؤثرة والخاتمة المعبّرة.

ولكي نقرأ شخصية مثل شخصية الأستاذ سيد قطب ومشروعه الفكري قراءة راشدة منصفة، أحاول في هذه السطور وضع قواعد حاكمة لقراءته، وهي صالحة لقراءة غيره من الشخصيات وإن كان لقطب خصوصية في كثير منها، ولكنها في مجملها صالحة لقراءة الأفكار والأشخاص والمشروعات والحركات والمصنفات، وقد جعلتها عشر قواعد على النحو الآتي:

القاعدة الأولى: إدراك السياق الذي وجد فيه:

 لأن السياق كما قال علماؤنا هو حارس عن الفهم الخاطئ، ومرشد للمعنى المطلوب والفهم الصحيح، وبدون السياق تُنتزع الأفكار من بيئتها كما تنتزع الروح من الجسد، وكما تخرج السمكة من الماء، هذا هو محيطها وسياقها الذي تعيش فيه، فإذا أُخرجت السمكة من الماء لفظت أنفاسَها، وكذلك الفكرة والشخص إذا لم نقرأه في سياقه الفكري والسياسي والاجتماعي والديني، فلن نستطيع أن نقف على حقيقة الأفكار، ولن نفهمها فهما صحيحا، بل سيتم تشويهها وليّها والخطأ فيها سواء عن عمد أو عن جهل كما نرى في هذه الأيام، وكل الأيام.

ولسيدٍ عصرُه الذي عاش فيه، محليًّا كان عصر الانتقال من حكم الملَكية إلى حكم آخر، تميز بالاستبداد الشديد والقمع المركب، وعالميًّا عصر الزحف الأحمر، كما وصفه الشيخ الغزالي، وعلو راية الشيوعية وغيرها من الأنظمة التي تحركت بتنظيمات وتشكيلات ضد “فكرة” الإسلام، وفي هذا الإطار يجب أن نقرأ فكر قطب؛ كي ندرك قيمته، ونقف على سر ما يقول، ولماذا قال.

القاعدة الثانية: قراءة المشروع كاملا لاتضاح الرؤية:

 “الحكم على الشيء فرع عن تصوره” هذه قاعدة منطقية، وتمثل منهجية من منهجيات التفكير؛ فلا يمكن أن نصدر حكما على شيء لا نعرفه ولا نتصوره.

والتصور الذي نعنيه هنا هو التصور الكامل لهذا الشيء؛ فإذا كان التصور “كاملا” فسيكون “الحكم” منطقيًّا وموضوعيًّا ومنصفًا وصحيحًا وصحيًّا، وسيقع في الحكم الخللُ والنقص والجناية بقدر ما يقع من نقص في تصور هذا الشيء.

وإذا كنا في حديثنا عن  القرآن الكريم نقول إن القرآن الكريم كالسورة الواحدة أو كالآية الواحدة، ولا يصح حكمٌ على موضوع قرآني إلا إذا بحثنا عنه في القرآن الكريم كله، فلا يفهم القرآنُ عضينَ، ولا كذلك السنةُ النبوية فضلا عن الموضوع الواحد فيها الذي يجب جمع كل ما ورد فيه، فإن هذا أولى أن يراعى في قراءة الشخصيات وقراءة الكتب، ويُتحرّى في الحكم على المشاريع الفكرية؛ فلا يمكن أبدا أن نفهم كتابًا إلا إذا قرأناه كاملا، ولا يجوز لنا أن ننزع كلمة من صفحة أو من سياق قد تكون غامضة أو قد تكون مُوهمة، يفسرها صاحبها بعد ذلك في فصول قادمة أو في أبواب لاحقة، أو يفسرها في كتاب آخر من كتبه، أو في مرحلة أخرى من حياته، يعدّل، يضيف، يطوّر .. يصحح أيضا لا مانع.

إذن فلا يُقبل حكم من أحد على مشروع فكري مثل مشروع سيد قطب قرأ كتابا أو كتابين، أو نقل فقرات من هنا أو من هناك، ثم يُصدر من خلال هذا التصور الناقص حكما على المشروع كاملا دون وعي بما قاله في مواضع أخرى، أو في مرحلة أخرى؛ فلابد لمن يتحدث عن سيد قطب أو يقرأ له، لا بد أن يقرأ مشروعه كاملا لكي تتضح له الرؤية كاملة، ولكي يكتمل الفهم الصحيح للقضايا والأفكار داخل إطار هذا المشروع؛ فنفهم الجزئيات في ضوء الكليات، والفروع في ضوء الأصول، والمتشابهات في ضوء المحكمات، والمبهمات في ضوء الواضحات، ونقف على الكلمة الأخيرة للكاتب في القضايا التي تناولها.

القاعدة الثالثة: ضم الكتابة إلى الشهادات والمواقف:

 بالنسبة لسيد قطب بالذات ينبغي أن تُضم المواقف العملية والشهادات الإنسانية ممن عايشوه، ينبغي أن تُضم إلى ما كتبه، فلا ينبغي أن نفهم كلام سيد قطب من خلال ما كتبه فقط، ولكن هناك شهادات، هناك كلام من سيد قطب نفسه، هناك أحداث، هناك وقائع، هناك ناس كتبوا عنه ما رأوه منه، هناك ناس عاصروه ونقلوا بعض أقواله أو آرائه، هناك من استفسر منه مباشرة لما أثير حول فكره وأنه فهم على غير ما أراد؛ فينبغي أن تُضم هذه الشهادات وتلك المواقف إلى كتابات الأستاذ سيد قطب؛ ليكون الحكم عليه حصاد هذا جميعا.

فالاقتصار على فقرات من بعض كتبه دون ردها إلى ما يوضحها من كتبه ذاتها، والاقتصار على الكتابات فقط دون وزن هذه الكلمات بميزان المواقف العملية، واعتماد شهادات من عاشوا معه وسمعوا منه ونقلوا عنه، لا شك أنه سيقودنا إلى حكم ناقص أو مشوه بقدر فقدان مفردات ومقومات الحكم الصحيح.

القاعدة الرابعة: التفريق بين مرحلتين في حياته:

كما كان للإمام الشافعي مذهب في القديم ومذهب في الجديد، فإن سيد قطب مرّ بمرحلتين كما يعلم الجميع: مرحلة ما قبل انضمامه للفكر الاسلامي الحركي، والعمل الإسلامي المنظم، وجماعة الاخوان المسلمين، في بدايات الخمسينات؛ حيث كان أديبا ناقدا، وتلميذا نجيبا للأستاذ عباس محمود العقاد يدافع عنه دفاعا قويًّا، وليس معنى هذا أنه كان مبتوت الصلة في هذه المرحلة عن الإسلام وفكره؛ فقد كان عنده التزام عام ظهر هذا في إهدائه لكثير من كتبه، منها: التصوير الفني في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن.

وكانت له آراء في بعض القضايا، مثل المقال الذي نشر في جريدة الأهرام بعنوان: “الشواطئ الميتة” وأورده الاستاذ محمود عبدالحليم في كتابه “أحداث صنعت التاريخ” يدعو فيه للتعري بحجة أن صورة واحدة عارية – كما يقول -: “مما ينشر في الصحف أفتن من شاطئ كامل يموج بالعاريات؛ لأن الصورة المصغرة تثير الخيال الذي يأخذ في تكبيرها والتطلع إلى ما وراءها من حقيقة، وهذا هو الخطر، أما الجسم العاري فواضح مكشوف، وصعب على الكثيرين تصديق هذه الحقيقة، أما الذين ذهبوا إلى الشاطئ وهم مجردون من الرأي السابق فيها ومن التحفز لمرائيها، فيعلمون في ذات أنفسهم صدق ما أقول”، وأيضا رأيه في معاوية  وعمرو بن العاص، رضي الله عنهما.

وهذه المرحلة تبرأ مما وقع فيه بها، ورجع عنه، وأوصى بعدم طباعة هذه الكتب مرة أخرى، ويوجد خطاب بقلم الأستاذ محمد قطب رحمه الله يبين وصية أخيه الأستاذ سيد فيما يتصل بكتبه تلك وعدم طباعتها، قال الأستاذ محمد قطب في خطابه بخط يده يخاطب شخصا يبدو أنه ناشر للكتب اسمه عبدالرحمن بن محمد الهرفي، يقول: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سألتني عن كتاب العدالة الاجتماعية فأخبرك أن هذا كان أول كتاب إسلامي ألّفه بعد أن كانت اهتماماته في السابق متجهة الى الأدب والنقد الأدبي، وهذا الكتاب لا يمثل فكره بعد أن نضج تفكيره، وصار بحول الله أرسخ قدما في الإسلام، وهو لم يوص بقراءته، إنما الكتب التي أوصى بقراءتها قبيل وفاته أو قبل وفاته هي الظلال. وبصفة خاصة الأجزاء الاثنا عشر الأولى”.

لأنه كان قد نقّح هذه الأجزاء قبل وفاته، وهي آخر ما كتب من الظلال على وجه التقريب، وحرص على أن يُودعها فكرَه كله، وكذلك كتاب “معالم في الطريق” ومعظمُه مأخوذ من “الظلال” مع إضافة فصول جديدة، و”هذا الدين”، و”المستقبل لهذا الدين”، و”خصائص التصور الإسلامي”، و”مقومات التصور الإسلامي”، وهذا الكتاب الذي نُشر بعد وفاته وهو “مقومات التصور الإسلامي”، الذي يُعد – بحق – محطة كبيرة في تاريخ الفكر الإسلامي، و”الإسلام ومشكلات الحضارة”.

هذه جملة من القواعد الحاكمة لقراءة سيد قطب ومشروعه الفكري، عسى أن تقودنا إلى فهم معالم مشروعه والتعامل مع من يتحدث عنه.

فهذا خطاب واضح وقطعي بأنه أوصى بعدم طباعة ما فيه إساءة للصحابة بعد نضجه في ساحة الفكر الإسلامي، ومساحات العمل الحركي المنظم.

وأنا في الحقيقة لا أتفق مع الأستاذ سيد قطب – عليه رحمة الله – في هذه الرغبة أو تلك الوصية، وهو له الحرية الكاملة في أن يوصي بما يشاء – ومن حكم في ماله فما ظلم – لكن كان يمكن أن يوصي باستبعاد ما كتبه عن الصحابة أو سطّره من أفكار أخرى؛ لأن كتاب العدالة الاجتماعية في الحقيقة كتاب رائد في مجاله، وكتاب يمثل قيمة غير عادية في مجال العدالة الاجتماعية وفي المجال الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام، فلا يعني إنْ كان هناك بعض المخالفات أو المؤاخذات في الكتاب أن يصبح في سلة المهملات أو لا يطبع! كما علمت لاحقا أن أسرة الأستاذ محمد قطب لم تطبع كتاب العدالة الاجتماعية بناء على وصية أخيه الأستاذ سيد.

الشاهد من هذا كله أننا حينما نقرأ شخصية سيد قطب ينبغي أن نفرق بين مرحلتين من حياته: مرحلة ما قبل التزامه، وقد كان عنده التزام عام كما ذكرنا، ومرحلة التزامه حينما انتمى للفكر الإسلامي الحركي، وأصبح أكثر نضجا ورسوخا في الفكر الإسلامي؛ فتغيرت بعض آرائه وتعمقت بعض نظراته مما أوجب عليه أن يُجري بعض المراجعات، وهذا شيء طبيعي جدا أن يراجع الإنسان نفسه، وأن يغير بعض أقواله أو يعدلها أو يصوّبها، فالذي لا ينظر الى آرائه كما يقول المرحوم الدكتور محمد عمارة، إنما هي الجمادات والموتى، هؤلاء فقط هم الذين لا يتجددون ولا يجددون ولا يراجعون أنفسهم.

القاعدة الخامسة: التفريق بين نص كلامه ولازم كلامه:

 عندنا في الفقه الإسلامي قاعدة تقول: “لازم المذهب ليس بمذهب”، فيقال هذا هو المذهب وهناك لازمُ المذهب، أي ما يلزم عن هذا القول في المذهب؛ هذا كلام المؤلف وهذا ما يلزم عن كلام المؤلف، فالمؤلف ليس مسؤولا عما يلزم من كلامه إلا إذا كان قريبا جدا وصحيحا جدا ومباشرا جدا، ومتعلقًا تعلقًا سليما بالكلام؛ وما كان بعيدا أو غير صحيح أو غير مباشر، فلا نُحمّله معتمد المذهب ولا كلام المؤلف.

فكيف إذا كان هذا “اللازم” قد نفاه المؤلف نفسُه عن نفسه، ونفاه عنه من عايشه ولازمه وسمع منه ونقل عنه؟ لا شك أن هذا اللازم لا يكون لازما في هذه الحال؛ ولهذا فإن كل ما يقال عن أن فكر سيد قطب فرَّخ جماعات الإرهاب، يكون كلاما غير دقيق؛ لأنه تحميل للمؤلف كلاما يلزم عن كلامه قد نفاه هو عن نفسه بشكل صريح، ونفاه من عايشوه، وإنما زكَّاه ظرف سياسي أو وسط اجتماعي أو طريقة تفكير عرجاء تعسفت مع كلمة هنا أو فقرة هناك.

أنا أعتقد أن هذه القاعدة قاعدة مهمة وفارقة، وسوف تحل لنا مشكلات كثيرة في فهمه وتفسر لنا كثيرا مما يجري كل وقت وحين حول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وبخاصة أنه يُصنّف من الناس تصنيفاتٍ كثيرةً، وتتنازعه تياراتٌ كثيرة، وهذه التيارات بالإضافة إلى بعض الشخصيات تحاول أن تنتسب إلى الأستاذ سيد قطب، وهذا إن دل فإنما يدل على عظمة هذه الشخصية وعلى شمولية إشعاعاتها وتأثيراتها وعمق ما تركته من بصمات على الفكر الاسلامي وعلى الحركة للإسلام في القرن الأخير.

وأنا شاهد على أنه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كانت أول الكتب التي تُرجمت هناك في دول روسيا كتب سيد قطب، وأن أول كتب ترجمت في تركيا حين تنفست الصعداء بعد حكم العسكر كانت كتب سيد قطب؛ فلماذا لم يظهر التكفير في دول روسيا ولا في تركيا؟!

القاعدة السادسة: القراءة له قبل القراءة عنه:

كثيرا ما يقع القراء أسرى لما قرأوه “عن” الكاتب، أو ما قرأوه “عن” جماعة أو حزب أو حتى كتاب، فتتشكل قناعاتُهم ورؤيتُهم عن ذلك من خلال ما قرأوه “عن” الشيء أو “عن” الشخص، وينطلقون طبقا لذلك يصدرون الأحكام ويبنون الآراء وما يترتب عليها ويلزم عنها.

وأنا أتحدى أن هناك الكثيرين في الساحة الفكرية اليوم يتحدثون عن كتاب “في ظلال القرآن”، أو كتاب: “معالم في الطريق” أو غيره، ومصدرُهم في ذلك ما كُتب عنها، ومثل ذلك كثير في التعامل مع الكتب والشخصيات في تاريخنا.

ولو أنهم أنصفوا لقرأوا الكتاب نفسه، وقرأوا للعالم نفسه، فيتركوا كلام الكتاب أو كلام العالم يقرر في عقل القارئ الحقيقة المجردة كما كتبها هو وكما أرادها هو وكما قصدها هو، لا كما أرادها من فهم كلامه فهما أحول فعبر عنه تعبيرا أعرج، ولعل القراءة للعالم نفسه أو قراءة الكتاب نفسه أو السماع من الشخص نفسه هو من باب “الأمانة” التي أُمِرْنا بها شرعا، ومن باب “التبيُّن” الذي أَمَرَنا به القرآن: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن جَاۤءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإࣲ فَتَبَیَّنُوۤا۟ أَن تُصِیبُوا۟ قَوۡمَۢا بِجَهَـٰلَةࣲ فَتُصۡبِحُوا۟ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَـٰدِمِینَ﴾ [الحجرات ٦].

كما أن القراءة للعالم نفسه قبل القراءة “عنه” ستمثل لك مرجعية ومعيارا تُحاكِمُ به ما قرأته “عنه” إلى ما قرأته “له”، فهل ما يقال عنه صحيح ودقيق أم فيه تجاوز وتحامل وتعسف؟ وإلا فبأي معيار وإلى أي مرجعية نحاكم ما نقرأه عن العالم أو الكتاب أو الجماعة، إذا لم نرجع لكلامه هو، وما تحدث به هو؟ وكم من أخطاء وقعت في العلم تاريخيا بسبب النقل عن الوسطاء دون الرجوع للمصدر نفسه والعالم ذاته!

القاعدة السابعة: القراءة عنه عند الجميع وليس لتيار بعينه:

وهذه قاعدة مهمة أيضا تترتب على ما قبلها؛ فكم من مدخولي النيات سيئي الطويات مريضي القلوب يرون العالم أو الجماعة أو الكتاب بمنظار ما، أو يريدون لهذا كله أن يكون على نحو ما، فيقرأون ما يُرضي رغبتهم، وما يشبع شبقهم، فيكون كل حصيلتهم في الحكم على عالم أو مفكر هو ما قاله فيه شانئوه، أو ما قاله فيه مُقدّسوه، وتضيع الحقيقة بين الجافي عنه والغالي فيه.

والحقيقة كامنة في القراءة للجميع من خلال جمع كل ما كُتب عنه، ودراسته بعين الإنصاف والوعي، في ضوء ما تمت قراءته للمفكر نفسه سلفا، وإعمال القواعد السابقة جميعا من إدراك للسياق الذي قيل فيه هذا الكلام عنه، وإدراك طبيعة المتحدث وميوله وأفكاره؛ لتكون القراءة بفهم ووعي، ويُحاكَم كل هذا إلى ما يقوله الشخص نفسه أو ما يعتنقه الحزب ذاته من خلال وثائقه وأفكاره المعتمدة.

وهذا ما حدث لقطب، فالمتحاملون عليه يقرأون لمن كتبوا عنه ممن هم يعارضون خطه الفكري، والمقدسون له يقرأون لمن كتبوا عنه بمنظار المحبة والغلو فيه، وإن كنت أقرر أن الذين يوافقون سيدا في أفكاره أكثر إنصافا من الذين ينكرون عليه، في الموضوعية والرجوع عن الخطأ متى تبين، ولهذا شواهد واقعية ليس هذا موضع تفصيلها.

القاعدة الثامنة: التجرد وعدم الدخول بقناعات سابقة:

كذلك من القواعد المهمة في قراءة الأفكار والكتب والشخصيات أن يدخل القارئ عليها بتجرد وإنصاف، ورغبة حقيقية في الوصول للحقيقة، ولا يدخل بقناعة مسبقة يتلمس لها رأيًا هنا، ومقولاتٍ هناك، وتحليلًا هنا، وانتقاداتٍ هنالك، بما يعزز ما زوّره في نفسه سلفًا، وما يُشبع فكرته ويُثبت قناعته.

وفي هذا جناية كبيرة على العلم المجرد والحقيقة المجردة، وفيه ظلم للنفس بسلوكها مسالكَ ليست عادلةً، وظلمٌ للآخرين بتقويلهم ما لم يقولوه، أو بالكذب عليهم، وتشويه معالم عطائهم وملامح فكرهم.

ودائما نرى من يتناول فكر قطب ومشروعه بقناعات فكرية مناقضة لخط سيد قطب أو صفه الفكري، فيلتقط مقولاتٍ أو تحليلاتٍ من هنا أو هناك، أو يستعين ببعضٍ من التدليس والكذب، ونسبة ما لم يقله إليه؛ ليُثبت ما يريد أن يُثبته، ويَنفي ما يريد أن يَنفيه، مجافيًا بذلك قواعد البحث العلمي، من الإنصاف والتجرد والموضوعية، وعلى الناحية الأخرى نجد من فريق المؤيدين له من يصل به الحد إلى أن يختلق رواياتٍ وحكاياتٍ أسطوريةُ في عما جرى له في السجن أو عن لحظة إعدامه بما يثبت – بزعمهم – ما لسيد من مكانة، ويقرر ما له من قيمة، وهو لا يحتاج من هؤلاء وأولئك إلا الإنصاف والموضوعية.

القاعدة التاسعة: الإنصاف والاعتدال في الحكم على مشروعه:

هذه قاعدة نحتاجها دائما في تناول قضايانا الفكرية والواقعية، وفي النظر إلى المشروعات الفكرية، وفي النظر إلى الرجال ووزنهم والحكم عليهم، وفي التعامل مع التيارات المختلفة بل مع أهل الملل والنحل الأخرى، وهذا هدي قرآني قرره القرآن الكريم: “ليسوا سواء”، “ومنهم من…”، “من أهل الكتاب…”…إلخ.

فإذا ما انتقدتَ فكرةً عند عالم لا تتخذها فرصة للانقضاض عليه كما ينقض الأسد على فريسته، وتستثمرها فرصةً لتعويض مركّب النقص الذي عندك بالهجوم على أهل الفضل والعلم والعطاء والتضحية، فأخطاؤهم وسيئاتهم مغمورة في محيط صوابهم وحسناتهم، وإذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل الخبث، فكيف إذا كان بحرًا لا تُكدِّره الدِّلاءُ؟!

وهذا ينطبق على المشروع الفكري لسيد قطب كما ينطبق على غيره، هب أنك أخذت مأخذًا عليه، أو انتقدت فكرة عنده، وهو بشر ليس بمعصوم، هل معنى ذلك أن نلقي ببقية مشروعه في سلة المهملات؟! أو أن هذا المشروع الذي تحدث في العقيدة والأخلاق والشريعة والآداب ليس فيه ما ينفع الناس ويمكث في الأرض؟!

فالخطة المثلى أن ننتقد ما يستحق الانتقاد، ونختلف معه فيما يستوجب الاختلاف، مع الاحتفاظ بكرامة الشخص وحسناته، واستبقاء ما هو صالح من فكره ومُنجَزه، وهذا هو الإنصاف في التعامل مع الأحداث والأفكار والأشياء والأشخاص.

القاعدة العاشرة: بشرية سيد قطب:

 وهذه قاعدة يجب أن يستصحبها الجميع، فلا هو شيطان رجيم، ولا هو ملك كريم، ومن ثم لا ينبغي أن نهوّن ولا أن نهوّل، لا أن نقدس ولا أن نُبَخّس، فسيد قطب بشر، يؤخذ من كلامه ويرد، يصيب ويخطئ كباقي البشر، لم يدَّعِ العصمة ولا ادَّعاها له أحدٌ، لا ينبغي حينما نرى أحدا يُخطّئ سيد قطب في أمر ما أن نستجمع كل طاقاتنا ومشاعرنا للهجوم والرد المباشر دون وعي، لا يحملنا في ذلك إلا العاطفة الجياشة نحوه، وهو حقيق بهذه العاطفة؛ إذ عاش مفكرا حرا مستقلا ثابتا صامدا، وقدم في النهاية روحه فداء لما يعتنقه من فكرٍ، وما يحمله من عقيدة.

فالأستاذ سيد قطب بشر في النهاية، نحبه ونجله ونحترمه، ونقدر تاريخه المجيد وعطاءه الممتد وخاتمته الحسنى إن شاء الله تعالى، ولكنه ليس فوق مستوى البشر، ولا يمنعنا حبُّنا له من مخالفته في بعض الأفكار، مع تحري الإنصاف والتجرد والموضعية؛ امتثالا لقول الله تعالى: ﴿وَأَقِیمُوا۟ ٱلۡوَزۡنَ بِٱلۡقِسۡطِ وَلَا تُخۡسِرُوا۟ ٱلۡمِیزَانَ﴾ [الرحمن ٩].

***

هذه جملة من القواعد الحاكمة لقراءة سيد قطب ومشروعه الفكري، عسى أن تقودنا إلى فهم معالم مشروعه والتعامل مع من يتحدث عنه، وهي – في نظري – صالحة لأن تكون قواعد عامة في قراءة الشخصيات والأفكار والحركات والجماعات والأحزاب والهيئات، وإن كان بعضُها له خصوصية مع سيد، لكنها – في مجملها – صالحة لإنزالها على غيره، إن أردنا القراءة الواعية، والإنصاف الحقيقي، والوصول لنتائج ترتضيها العقولُ المستقيمة والنفوس السوية.

اترك تعليق

  1. يقول د. نوري صالح:

    أوصي لمراجعة شروح معالم في الطريق
    تحت عنوان : الشروح
    المؤلف الشيخ مصطفي كامل
    أحد تلاميذ الاستاذ سيد وتلقي عنه

  2. يقول رحمه الله رحمة واسعة وافسح له في قبره...:

    اللهم إغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وجاف الأرض عن جنبيه وابدله دارا خيرا من داره وصحبا خيرآ من صحبه والحقنا به في الصالحين..

  3. يقول محمد كرم:

    رحم الله تعالى شهيد الاسلام سيدقطب إمام الأُسْد الغُلْبِ..