المسألة الفنية في النظر المقاصدي من خلال مدخل التكييف والتوظيف

أ.د أحمد الريسوني

بحث قدم لندوة (الفنون في ضوء مقاصد الشريعة)،
 التي ينظمها مركز دراسات مقاصد الشريعة بلندن،
 بتاريخ 4/5 نونبر 2016، بمدينة اسطنبول.

تقديم:

نظرا لطبيعة هذه الندوة العلمية الفكرية المتخصصة، التي تعقد للبحث في مكانة “الفنون في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية“، وترمي، كما جاء في ورقتها التقديمية:

إلى “بلورة رؤية متكاملة تعكس تصورا مقاصديا لمسألة الفنون ووظيفتها في المجتمع المسلم…”،

وإلى “إعمال المقاصد في قضايا الفن وموضوعاته وممارساته، وسبل توظيف الفنون في خدمة مقاصد الشريعة…”

وإلى “التفكير في إمكانية تفعيل فكرة استخدام الفن الإسلامي كوسيلة راقية للتقارب بين الشعوب، وإلى إيصال الفكر الإسلامي إلى العالم، عبر لغة إنسانية عالمية راقية”،

اعتبارا لذلك، فإن مشاركتي بهذا البحث ستنصب في المقام الأول على الأهداف المذكورة، المتوخاة من الندوة.
ومن جهة أخرى، فقد وقفتُ خلال السنين الأخيرة على عدة مؤلفات إسلامية معاصرة جامعة في موضوع الفنون الإسلامية بمختلف تجلياتها وأشكالها، وبعضها يتناول الأحكام الفقهية للفنون بصفة عامة، أو لبعض الفنون خاصة، كالغناء والموسيقى والتمثيل. وهي في الجملة كافية شافية في بابها وموضوعاتها. وأذكر من هذه المؤلفات:

مؤلفات زكي محمد حسن، عن الفنون في الحضارة الإسلامية.

فتاوى القرضاوي ومؤلفاتُه، في مسائل الفنون وفقهها.

منهج الفن الإسلامي، لمحمد قطب، وهو ذو منحى فكري أدبي، يركز على الفنون الكونية الطبيعية، وعلى الفنون الأدبية.

الشريعة الإسلامية والفنون، لأحمد بن مصطفى القضاة. وهو دراسة فقهية مقارنة لأحكام التصوير والموسيقى والغناء والتمثيل.

الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام، لعبد الله الجديع، وهو بحث حديثي فقهي في غاية الدقة والموضوعية.

تحقيق الأرب بإنصاف ابن حزم في مسألة الغناء والموسيقى وآلات الطرب، للزبير دحان، وهو دراسة حديثية بالدرجة الأولى، وتتسم بالنزاهة والتحقيق العلمي المحايد.

التمثيل، لبكر أبو زيد، وهو بحث تاريخي فقهي جدلي، يذهب إلى التحريم جملة وتفصيلا.

أحكام التمثيل في الفقه الإسلامي، لمحمد بن موسى الدالي. وهو بحث فقهي مستفيض.

الفن المعاصر صوره وآثاره.. فلسفته وأحكامه، لعلي بن حمزة العمري. وعنوانه معْرب عن طبيعته ومحتواه.

وتقديرا لهذه المؤلفات وما بسطَــتْه وانتهت إليه في الموضوع، هي وغيرها، فإني لا أريد أن أعيد الخوض وأعيد القول فيما قد كُفيتُه، بل أتجه إلى ما قد يشَكِّل إضافة وتكملة. 

وقبل أن أخوض في الجوانب المقصودة بهذا البحث، أشير إلى أن خلاصة موقفي من الناحية الفقهية، ومن حيث النظرُ في أدوات البحث والاستدلال الفقهي، هي أني أقف مع المتمسكين بالتوسعة واستصحاب أصل الإباحة في كافة الفنون، إلا ما يكتنفها ويلابسها ويلحق بها من أفعال وأحوال ومقاصد، قد تُغَير حكم الإباحة إلى التحريم أو غيره… وفيما سوى ذلك، لست أعول لا على الحشود الكثيفة من الروايات والآثار الواهية والموضوعة، ولا على التأويلات البعيدة المتكلَّفة.

وأنتقل الآن إلى النظر المقاصدي في المسألة الفنية، تكييفا وتوظيفا. وهو نظر لا غنى عنه في أي نظر فقهي شرعي يبتغي الرشاد والسداد، بل هو من صميمه وركن من أركانه. وكما قال ابن عاشور، فإن “أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية”[1].
وقد تناولته في ثلاثة مباحث هي:

المبحث الأول: المسألة الفنية من خلال مدخل التكييف،

المبحث الثاني: المسألة الفنية من خلال مدخل التوظيف،

المبحث الثالث: الفنون بين التحسينيات والحاجيات.

المبحث الأول
 المسألة الفنية من خلال مدخل التكييف
التكييف الفقهي: معناه وفائدته
“التكييف” مصطلح قانوني، تمت استعارته واستعماله في المجال الفقهي. وهكذا بدأ الحديث لدى بعض الفقهاء المعاصرين عن “التكييف الفقهي” بالمعنى الذي يتضمنه مصطلح “التكييف القانوني“.

وفي الحالتين، فالتكييف الفقهي أو القانوني معناه: تحديد ماهية التصرف أو المسألة أو النازلة المعروضة على النظر الفقهي أو القانوني أو القضائي، وتصنيفُها ووضعها في بابها الذي تنتمي إليه وصِنْفِها الذي تنضوي تحته، لكي يتم التعامل معها والحكم عليها من خلال هذا التكييف وهذا التصنيف.

فمثلا: هل هذا التصرف (…) يدخل في باب العبادات؟ أو في باب المعاملات، أو في باب العادات؟
وهل هذا الواجب (…)، أو هذا المحرم (…)، يُعَدُّ من حقوق الله؟ أو من حقوق العباد؟
وهل هذه الجناية (…) تدخل في باب الحدود؟ أو في باب القصاص؟ أو في باب التعازير؟
وهل هذا القتل (…) قتلٌ عمد؟ أو قتل خطأ؟ أو قتل شبه عمد؟
وهل الاستيلاء على مال الغير في حالة كذا وبصفة كذا (…)، يُعدُّ سرقة، أو يُعدُّ خيانةَ أمانة؟ أو هو غصب؟
فالجواب المختار عن أي سؤال من هذه الأسئلة وأمثالها، يعدُّ تكييفا وتصنيفا أوليا للمسألة، وينبني عليه من الأحكام الفقهية أو القانونية أو القضائية ما لا ينبني على خلافه.

فالتكييف الفقهي بمثابة ما يقوم به الطبيب من فحص وتشخيص أولي للحالة، قبل أن يباشر العلاج أو مزيدا من الفحوص الدقيقة.
والتكييف الفقهي – من الناحية العلمية – يدخل ضمن ما يسميه العلماء “تحرير محل النزاع”. ومعلوم أن عدم تحرير محل النزاع يؤدي إلى انزلاقات ونزاعات عديدة بين المختلفين، كان بالإمكان تلافيها أو تضييقها بتحرير محل النزاع، ومنه التكييف الصحيح للمسألة. وهو أيضا غير بعيد عما يسميه المناطقة بالتصور، الذي يسبق التصديق، وفقا لقاعدة: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره). إلا أن التكييف أخَصُّ من التصور ولاحقٌ عليه…
التكييف الفقهي للفنون؟

اختلاف العلماء المسلمين في مسألة الفنون ومكانتِها وأحكامها، وخاصة منها الفنون الأكثر شهرة ورواجا، وهي الغناء والموسيقى والتمثيل، يرجع بعضه إلى ثبوت الأدلة أو عدم ثبوتها من جهة الرواية. ويرجع بعضه إلى استعمال الأدلة المعتمدة في الموضوع، من جهة دلالاتها ومقتضياتها.

غير أن ثمةَ سبباً آخرَ للخلاف، قلما يؤبه له ويعتنى بدراسته، وهو تكييف المسألة وتصنيفها.
وحين نقرأ مختلف المؤلفات والفتاوى المتعلقة بالفنون، قديما وحديثا، نجد في الغالب إما إغفالا لهذه المسألة، أو ذكرا جزئيا عَرَضيا لشيء منها، أو نجد استبطانا لتكييف معين، يظهر أثره، لكن دون التصريح به وتوضيحه.
ونظرا لما ينبني على مسألة تكييف الفنون وتصنيفها من تأثير كبير على وضعها في موضعها والحكمِ عليها بما يناسبها، فإني أعرض وأبَينُ وأمحص – فيما يلي – أهم العناصر والاعتبارات المشَكِّلة لتكييف الفنون وتحديد هويتها، مع الإشارة إلى ما بينها من تداخل وتقاطع.

الفنون باعتبارها لهواً

هذا التوصيف شائع عند العلماء، وخاصة في الغناء والطرب والرقص، وهو وصف وارد في الأحاديث النبوية، سواء في سياق ذكر الإباحة، أو في سياق تقييدها وتوجيهها.
فمن ذلك:

في صحيح البخاري: باب اللهو بالحراب ونحوها[2].

وفي سنن النسائي: باب اللهو والغناء عند العرس[3].

وبهذا النحو في عدد من كتب السنة.

واللهو هنا يأتي بمعنى الترفيه والتسلية الاحتفالية.

وهذا لا يعني عند أحد أن الفنون كلها عبارة عن لهو، ولا أن كل لهو فهو فن من الفنون، وإنما يعني أن في بعض الفنون لهوا ولعبا وفرجةً وتسلية، أو فيها “إمتاع ومؤانسة”[4].
وعلى أساس هذا التكييف يمتد السجال من مسألة الإباحة والتحريم لبعض الفنون بعينها، إلى مناقشة حكم اللهو عامة: هل هو الإباحة إلا ما خرج بدليل، أو هو الحظْرُ إلا ما استُثنيَ بدليل؟
وبالنظر إلى كثرة أنواع اللهو والتسلية والترويح، وشيوعها في الحياة اليومية لجميع الناس، سواء في الزمن النبوي أو في غيره من الأزمان، لا يمكن ولا يستقيم إلا  القطع بأن اللهو من حيث هو لهوٌ مباح بالأصالة وبالنصوص معا.

وإنما يبقى النظر في حالات الإفراط فيه ما حكمها، وفي حد الإفراط ما هو، وفي مدى تأثيره على أداء الواجبات وغيرها من التكاليف…
فأما إن كان اللهو يتضمن أو يستلزم الوقوع في محرمات معلومة، فهذا لا شك في تحريمه على تلك الحالة. أما تحريمه من أصله بسبب امتزاجه بالمحرمات، في بعض الحالات، أو في معظم الحالات، فهذا لا يصح ولا يستقيم. والقاعدة الفقهية التي عليها الجمهور هي: الحرام لا يُـحَرِّم الحلال، أو: الحلال لا يَـحْرُم بملاقاة الحرام [5].

وإذاً، فتكييف الفنون أو بعضها بكونها لهوا ولعبا وترفيها، معناه أنها على أصل الإباحة، كسائر الأقوال والأفعال والأساليب الترفيهية. وما زاد أو طرأ على هذا المعنى وهذا الحد، فينظر في حكمه بدليله. أما مجرد اللهو واللعب والاستمتاع بهما فحكمه الإباحة.
ومما يطرأ ويكون له تأثير في الحكم ذلك: الإفراطُ في اللهو والتمادي فيه، حتى يصبحَ مُـخلا بأداء بعض الحقوق والواجبات، أو يصبحَ نوعا من الإدمان، أو يصبحَ إهدارا للوقت ومضيعة للعمر. ففي هذه الحالات قد ينتقل حكم اللهو من الإباحة إلى الكراهة، أو إلى التحريم، بحسب درجة الإفراط وما ينجم عنها. قال الإمام الغزالي: “فما كل حَسَن يَـحسُن كثيرُهُ ، ولا كل مباح يباح كثيرُهُ، بل الخبز مباح، والاستكثار منه حرام”[6].

وهذا هو الذي سماه الشاطبي “المباح بالجزء، المطلوب التركِ بالكل“، ومَثَّله بـ”التنزه في البساتين، وسماع تغريد الحمام، والغناء المباح، واللعب المباح بالحمام، أو غيرها. فمثلُ هذا مباح بالجزء؛ فإذا فُعل يوما ما، أو في حالة ما، فلا حرج فيه. فإن فُعل دائما كان مكروها، ونُسب فاعله إلى قلة العقل، وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح“([7]). فهذا “هو المباح بالجزء، المطلوبُ التركِ بالكل، بمعنى أن المداومة عليه مَنهيٌّ عنها“[8].

الفنون باعتبارها صناعةً وتكسبا

هذه جهة أخرى لا بد من استحضارها واعتبارها عند النظر في الفنون وتصنيفها والحكم عليها؛ وهي أن كثيرا منها إنما نشأ وازدهر باعتباره حرفة من الحرف وصناعة من الصناعات الخدمية، يتكسب منها أصحابها. فالفنون قد تكون خدمة مطلوبة ممن يرغبون فيها ويستفيدون منها، وهي أيضا خدمة معروضة ممن ينتحلونها وينتجونها.
وتدخل هنا فنون العمارة، من قَبيل ما وردت الإشارة إليه في قوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير} [النمل: 44]،
وفي قوله: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَات} [سبأ: 13].

 والحقيقة أن عامة الفنون إذا لم تصبح صناعة وحرفة ومصدرَ رزق ودخل لمنتحليها، كانت عرضة للانزواء أو الاختفاء.

ويرى ابن خلدون أن الصنائع الفنية والكمالية إنما تظهر ويكثر الطلب عليها وعلى تعلمها في المجتمعات المتحضرة ذات الرفاهية والازدهار العمراني. قال: “وإذا زخر بحر العمران وطُلبت فيه الكمالات، كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها، فكملت بجميع متمماتها، وتزايدت صنائع أخرى معها، مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله؛ من جزار ودباغ وخراز وصائغ وأمثال ذلك. وقد تنتهي هذه الأصناف إذا استجر العمران إلى أن يوجد منها كثير من الكمالات والتأنق فيها في الغاية، وتكون من وجوه المعاش في المصر لمنتحلها، بل تكون فائدتها من أعظم فوائد الأعمال لما يدعو إليه الترف في المدينة، مثل الدهان والصفار والحمامي والطباخ والشماع والهراس ومعلم الغناء والرقص وقرع الطبول على التوقيع، ومثل الوراقين الذين يعانون صناعة انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها؛ فإن هذه الصناعة إنما يدعو إليها الترف في المدينة من الاشتغال بالأمور الفكرية وأمثال ذلك.

وقد تخرج عن الحد إذا كان العمران خارجا عن الحد، كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يعلم الطيور العُجم والحُمُر الإنسية، ويتخيل أشياء من العجائب بإيهام قلب الأعيان وتعليم الحداء والرقص والمشي على الخيوط في الهواء، ورفع الأثقال من الحيوان والحجارة وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب، لأن عمران أمصاره لم يبلغ عمران مصر والقاهرة، أدام الله عمرانها بالمسلمين”[9].
فهذه الصنائع الفنية والحِرَفُ التزيينية لم يقل أحد بتحريمها لهذا الاعتبار ومن هذه الحيثية، فكذلك يقال في ممارسة سائر الفنون باعتبارها صناعة وحرفة لأربابها.

الفنون باعتبارها زينة وعروضا جمالية

الربط بين الفن والجمال كثير أيضا، وخاصة عند أنصار الفن من المفكرين والفقهاء المعاصرين. فيرون أن الفن في أصله وأصالته تعبير بديع عن مظاهر الجمال في الكون والحياة. والفن إنما يكون ناجحا وجذابا بقدر ما يجسده من جمال وإبداع. فالفنون الحقيقية عبارة عن معارض للجمال ولِـمَواطنه وعناصره، في أشكال إبداعية جميلة. وهو بذلك يخدم التربية الجمالية، ويشحذ الذوق الجمالي لمختلف المدارك والحواس البشرية، ما ظهر منها وما بطن.

يقول الأستاذ محمد قطب: “والفن الإسلامي.. إنما هو الفن الذي يرسم صورة الوجود من زاوية التصور الإسلامي لهذا الوجود.
هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان، من خلال تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان.
هو الفن الذي يهيئ اللقاء الكامل بين الجمال والحق. فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال. ومن هنا يلتقيان في القمة التي تلتقي عندها كل حقائق الوجود”[10].

ومن هنا تعتبر الفنون في هذا التكييف من جملة الزينة التي أتاحها الله وأباحها لعباده.
وبالتعبير المقاصدي، فالفنون الأصيلة الجميلة بهذا الاعتبار، هي من جملة المقاصد التحسينية، التي جاء الشرع بإقرارها، بل بحفظها ورعايتها.

الفنون باعتبارها انحلالا ومجونا

وهذا التوصيف أو التكييف هو عمدة المحَرِّمين لمختلف الفنون، فهو نقيض التوصيف الذي سبقه. ويستند هذا التوصيف إلى الواقع المشاهد، والواقعُ لا يرتفع. فالغناء والموسيقى والرقص والتمثيل المسرحي والسينمائي، وغيرها من الفنون، تعج بمظاهر التفسخ والمجون واتباع الشهوات والنزوات وارتكاب المنكرات، والسقوط في الرذائل والموبقات وترويجها. حتى أصبح البعض يصفون الفن بالعفن. وبناء على هذا الواقع، فإن الحكم لن يكون إلا التحريم. يقول الشيخ بكر أبو زيد: “ثم اعلم أن قاعدة الشريعة: أن الشيء إذا كان في أصله مباحا ثم احتوى على محرم أو أفضى إليه، أن يكون حراما، وهكذا (التمثيل)، إذا قيل إنه في الأصل يلتحق باللهو المباح ثم خالطه محرم أو أفضى إليه، فإنه يكون حراما: أداء، وكسبا، وعرضا، ومشاهدة، طردا لقاعدة الشريعة المذكورة”[11] .

ثم قال: “ما فيه من عظاتٍ وفضائلَ مزعومةٍ، مغمورةٌ في حلبة تلك الـمُلهيات التي توقظ نائم الأهواء وتحرك ساكن الشهوات، كما ينطق بذلك الواقع المرير، لتمرير الفحش والخناء والفسوق والعصيان، وتهديم البيوت داخل أسوارها، فهو يمثل مخاطر على العقائد والأخلاق والفضائل والآداب”[12].
وكتب الدكتور إبراهيم هلال مقالا بعنوان (تأثير الفن على الأسرة) عرض فيه مختلف التأثيرات السلبية لبعض الفنون المعاصرة على الأسرة وأفرادها، من تفكك وانحلال وفساد، وخاصة ما يُعرض على القنوات التلفزيونية ويدخل كل بيت…
وختم مقاله بالقول:”فهذا هو الفن، وهذا هو أثره في دنيا الناس وحياة الأمم. وهو على هذا  عائق كبير من عوائق تقدمنا وحضارتنا. فما بقاؤه إذًا في دنيانا وفي بيئتنا؟!”[13].

هذه التوصيفات للفنون مقبولةٌ ومردودة في آن معاً؛ مقبولة باعتبارها وصفاً حقيقيا لواقع جزء كبير، إن لم يكن الأكبر، من الإنتاجات والممارسات للفنون المذكورة وللأجواء المحيطة بها. ولكنها مردودة باعتبار ما فيها من خلط وتعميم وإلزام لما لا يلزم. وهذا شبيه بما وقع فيه منتقدو ابن حزم فيما ذهب إليه من إباحة للغناء وآلات الطرب.

فقد حملوه أوزارا لا علاقة له ولا لكلامه بها. يقول الشيخ الزبير دحان: “اختيار ابن حزم هذا، جر عليه وبالا من الكلام، ونال بسببه قاسيَ العتب والملام، فاعتبره البعض ضالا مضلا، وأحيانا يحاسبه مخالفوه بما عليه واقع الغناء وآلات الطرب و”الفيديو كليب” في دنيا الناس اليوم، كما لو أن من يقول بإباحة آلات الطرب يبيح تلك الصور التي لا يرتاب في حرمتها عاقل. ولو سئل ابن حزم عنها لردد ما روي عن بعض السلف: “لا يفعله إلا الفساق عندنا”. إلا أن هذا الانحراف بالغناء عن حده، لا يرجع بالتحريم على أصله”[14].

ولذلك، فلو قيل: إن هذه الفنون الغنائية والتمثيلية المتصفة والمتلبسة بهذه الأوصاف، لا يجوز الاشتغال بها على هذه الحال؛ لا أداء، ولا سماعا، ولا مشاهدة، لكان قولا حصيفا منصفا. لأن هذه الأوصاف ليست بلازمة، ولا هي عامة، بل هي أوصاف عرضية لا ذاتية. فهي توجد في بعض الفنون دون بعض، وفي الفن الواحد توجد في بعض الأعمال دون بعض. وقد توجد في أكثرها وليس في كلها.

وأهم ما في الأمر أنها قابلة للانفكاك والتغيير في الفنون التي توجد فيها. وكما يوجد ناس يطلبون هذه الفنون الوسخة ويريدونها بأوساخها، أو يريدونها لأوساخها تلك، فإن ناسا آخرين كثيرين يتلهفون على الأعمال الفنية الراقية النظيفة، ولكنهم لا يجدونها.
وفكُّ الارتباط بين أي فن من الفنون وما يلتصق به من محرمات وملوثات، يحتاج فقط إلى ذوي الهمم العالية والأهداف السامية، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائمُ.

هذا وجه آخر من وجوه المسألة الفنية، مما يمكن تكييفها على أساسه؛ وهو أن الفنون في كثير من الحالات تكون مجرد وسيلة جذابة ومؤثرة، تستعمل لغايات التوجيه ونشر مضامينَ معينةٍ هي مقصود العرض الفني.
وحضور هذا الاعتبار ليس بالقليل، في مختلف الأصناف والأعمال الفنية المقدمة للجمهور، بدءا بالخط والرسم والزخرفة، مرورا بالفنون الأدبية[15]، ووصولا إلى الأعمال السينمائية، والأناشيد الدينية والوطنية…وسيأتي مزيد بيان لهذا التكييف ضمن مبحث التوظيف.
وعلى العموم، فإن الأهداف والغايات المتوخاة من وراء الأعمال الفنية التوسلية، قد تكون إصلاحية بناءة، وقد تكون إفسادية هدامة. وقد تكون إصلاحية وبناءة في نظر البعض، وهي بذاتها إفسادية هدامة في نظر غيرهم.

الفنون باعتبارها حاجةً فطرية للنفوس البشرية

لم أجد – أو على الأقل لم أتذكر مما قرأت –  مَن تناول الفنون من هذه الزاوية أو كَيَّفها بهذا الاعتبار. والمراد بهذا هو أن الناس، من مختلف الأعراق والثقافات، يتعاملون مع الفنون وينجذبون إليها بميول ورغبات جِبِلِّيَّةٍ راسخة فيهم. وهذا ما يفسر لنا وجود بعض الفنون لدى كافة الشعوب، وفي مختلف العصور. كما يفسر لنا سرعة انتقال بعض الفنون من شعب لآخر، وسرعة تقبلها لدى غير من ابتكروها.

ولقد كنتُ طيلة شبابي معتقدا تحريم الغناء وما لف لفه، وكنت متشددا في ذلك، حتى إنني حضرت في ضيافة أقيمت على شرف المشاركين في مؤتمر إسلامي انعقد بمدينة تطوان المغربية (سنة 1974)، وما إنِ استقر بنا المقام في قصر مضيفنا، حتى انطلق “الجوق الأندلسي” في عزفه وموشحاته… صدمتُ لذلك واستغربته وأنكرته في نفسي، ولم أتحمل البقاء مع هذا “المنكر”، فاستغفلتُ القوم وطأطأت برأسي وخرجت مسرعا دون أن ينتبه إلي أحد.

لما عدنا إلى قاعة المؤتمر بادرني صديقي الأخ حماد الزموري، الذي كنت أجلس بجانبه قائلا: أين اختفيتَ فجأة؟ ما الذي حصل؟ فلما شرحت له موقفي قال لي: أما أنا فقد انحلّتْ مفاصلي واسترخَتْ مع الطرب الأندلسي… فرددت عليه فورا: أما أنا فمفاصلي قد صَدِئت ويبست، ولم تعد قابلة للانحلال…!
كان صديقي يعبر – بتلقائية – عن فطرته ومشاعره، وكنت أنا أعبر موقف فقهي قرأته وكررته، حتى تشبعتُ به.

واقعة أخرى شهدتُها بعد ذلك بسنوات، كانت أصغر من السابقة، ولكنها أبلغ دلالة. وهي أنني كنت في مجلس عائلي بمنزلنا وقريتنا، وكان في المجلس والدايَ وعددٌ من إخوتي وأخواتي، وغيرُهم من الأقارب الذين حضروا للقائي. وفتح أحد الحاضرين مذياعا كان معه، وإذا بأغنية خفيفة لطيفة تنطلق منه. وبينما أنا أتململ تبرما وضيقا، قام طفل صغير يتمايل مع نغمات الأغنية وألحانها، وكان الطفل في حدود الثالثة من عمره!

ولقد فكرت طويلا ومرارا في هذه الواقعة الأخيرة منذ لحظة وقوعها. وتبين لي أن هذا الطفل الصغير لم تحركه للتفاعل والرقص إلا فطرته وسجيته. ومنذُئذٍ بدأتُ أراجع وأتراجع، وأُعدِّل من رأيي في الغناء والموسيقى…إلى أن أصبحت على يقين أن كل شيء متأصلٍ في فطرتنا وخِلقتنا وميولنا، فإن الله تعالى قد شرعه وأباحه بمقدار من المقادير، وبوجه من الوجوه، أو بعدة وجوه…
ومما عزز عندي هذا الاعتقادَ وهذا الجزمَ، وقوفي على مقالة جليلة قالها الإمام القاضي أبو بكر بن العربي في عارضته، وهي قولُه: “الْحَلاَلُ ما أُذِنَ في تَعَاطِيه، والْحَرَامُ ما مُنِعَ منه.

وإن الباري سبحانه بِبَدِيعِ حِكْمَتِهِ لَمَّا خَلَقَ لنا ما في الأرض جميعًا – كما أَخْبَرَنَا – قَسَّمَ الحال فيه:
فمنه ما أَبَاحَهُ على الإطلاق.
ومنه ما أَبَاحَهُ في حال دون حال.
ومنه ما أَبَاحَهُ على وَجْهٍ دون وَجْهٍ.
فأما أن يَكُونَ في الأرض ممنوع لا تَتَطَرَّقُ إليه إباحة في حال، ولا على وَجْهٍ، فلا أَعلَمُه الآنَ؛ … وكُلُّ شيء تَتَعَاوَرُهُ الأحكام بِالْحَلاَلِ والْحَرَامِ إلا التوحيد، فإنه لا تَدْخُلُهُ إحَالَةٌ، ولا يَنْزِلُ عن دَرَجَةِ الْفَرْضِيَّةِ ومَنْزِلَةِ الوجوب والْحَتْمِ في حَالَةٍ، فَتَبَارَكَ الصَّمَدُ الْوَاحِدُ”[16].
والميول والرغبات الفنية لا تخرج من هذا. فالله تعالى لم يجعلها في جِبِلَّتِنا، مع تحريمه لها علينا تحريما مطلقا. بل اللائق بالشريعة والمعهود في تعاملها مع الميول الفطرية هو التهذيب والتوجيه والتقييد والترشيد، وليس المنع المطلق والتحريم في جميع الاتجاهات.

وقد أفاض الإمام الغزالي في بحث موضوع “السماع والوجد”، وسرد ما في الموضوع من أحاديث وآثار، ومنها حديث الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : (…وكان يومَ عيد يلعب السودان بالدَّرَق والحِـراب، فإما سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلتُ نعم. فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بني أَرْفِدة، حتى إذا مللتُ قال: حسبك؟ قلت نعم، قال فاذهبي).

ومن الأحكام والآداب التي استنبطها الغزالي ونبه عليها في فقه هذا الحديث: “وقوفه – صلى الله عليه وسلم – طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه، لموافقة عائشة رضي الله عنها. وفيه دليل على أن حُسنَ الخُلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب، أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع منه”[17].
وإنما نقلتُ هذا الاستشهاد لتأكيد ما يتضمنه من كون التعلق بالفنون ميلا فطريا وحاجة طبيعية، ولبيان كيف تعامل معه النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم.

 ولقد اطلعتُ على كتاب للعلامة الأديب شهاب الدين النُّوَيري (المتوفى: 733هـ)، سماه (نهاية الأرب في فنون الأدب)، وذكر في آخر مقدمته تنبيها ذا صلة بما نحن فيه، فقال: “وأَتيتُ فيه بالمقصود والغرض، وأثبتّ الجوهر ونفيت العرض، وطوّقته بقلائد من مقولي، ورصّعته بفرائد من منقولي. فكلامي فيه كالسارية تلتها السحائب، أو السريّة ردفتها الكتائب. فما هو إلّا مترجم عن فنونه، وحاجب لعيونه. وما أوردت فيه إلّا ما غلب على ظنّي أنّ النفوس تميل إليه وأن الخواطر تشتمل عليه”[18].

 لقد كان رحمه الله يدرك أنه يصوغ أدبا رفيعا وفنا ممتعا، فاتخذ الميول الفطرية المعهودة في النفوس البشرية معيارا لما يصنع، ولما يضع فيه وما يدع.

المبحث الثاني
 المسألة الفنية من خلال مدخل التوظيف
معنى توظيف الفنون
لفظ التوظيف له معانٍ متعددةٌ، لكنها متقاربة بعضها من بعض؛
منها توظيف أعمال وواجبات محددة على الناس، أو على أفراد معينين، أي: تكليفهم أداءها بشكل دوري منتظم.
ومن هنا جاء الاستعمال المعاصر للوظيفة والتوظيف والموظفين… فالموظفون اليوم هم أشخاص يقبلون أن يوظَّفوا، وأن توظَّف عليهم أعمالٌ معينة ووظائف محددة يقومون بها، مقابل أجور مالية توظَّف لهم.

ثم جاء استعمال لفظ “التوظيف” في معنى غيرِ بعيد عما سبق، وهو استثمار شيء وتسخيره والتوسل به، لتحقيق غرض ما. وهذا ما أعنيه الآن بالتوظيف.
فتوظيفُ الفنون معناه استخدامها وتسخيرها والتوسل بها، لتحقيق أهداف وتأثيرات معينةٍ على المتَلَـقِّينَ للعمل الفني، قراءة، أو سماعا، أو مشاهدة. على أن الأهداف والغايات المعنيةَ هنا هي أمور زائدة على ما في ذات الأعمال الفنية من فرجة وتسلية ومتعة. المرادُ هنا أهدافٌ ومَرامٍ فكريةٌ ثقافية، وسلوكية اجتماعية، ونفسية عاطفية… يتقصَّدها منتجو العمل الفني.
توظيف الفنون قديما استثمار الأعمال الفنية وتوظيفُها لخدمة غايات دينية ووطنية واجتماعية ونفسية… أمر شائع ومعروف، وقديم قِدَمَ الفنون.

ولذلك لا أريد الاستطراد والإطالة في هذا الجانب التاريخي، وأكتفي من ذلك ببعض الأمثلة الأكثر مناسبة للسياق..
“ولقد كان الفن في العصور الوسطى قبل كل شيء وسيلة لشرح الأفكار الدينية والتعبير عنها، حتى ليمكننا بداهة أن نرد مذاهب الفن في العصور الوسطى إلى العقائد التي شكلتها”[19].

“ولقد كانت نشأة الفن الإسلامي في المساجد؛ فيها ولد في وضح النهار، وفي رحابها ترعرع تحت رعاية القوم وبين أنظارهم”[20].
وإن الناظر في أقوال الفقهاء في مسألة الغناء والطرب، بمن فيهم الميالون إلى التحريم والتضييق، لَيجدُ في مقدمة الاعتبارات المعيارية الواضحة في تعاملهم مع مختلف الممارسات الغنائية: أنهم كانوا يُصدرون أحكامهم وفتاواهم فيها، بناء على ما علموه من استعمالاتها ومقاصدها وآثارها الفعلية في الزمان والمكان. ولذلك كانت أقوالهم تتغير من حال إلى حال.

فهذا الإمام مالكُ بن أنس، رُويَ عنه أنه سئل عَمَّا يَتَرَخَّصُ فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ الْغِنَاءِ؟ فقال: «إِنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ»[21].

          ولكنْ، ها هو مترجمه الأكبر، القاضي عياض السبتي، يورد عنه روايات وأقوالا مختلفةً تماما في موضوع الغناء..

“قال محمد بن الفضل المكي: مر مالكٌ بقينة تغني وتقول:

أنتِ أختي وأنت حرمة جاري … وحقيق علي حفظ الجوارِ
أنا للجار ما تَغَـيَّـبَ عنـي … حافظٌ للمغيب في الأسرارِ
ما أبالِ أكان بالباب سترٌ … مُسْبَلٌ، أم بقي بغير ستارِ
فقال مالك: لو غُنِّـي به حول الكعبة لجاز.
وفي رواية: يا أهل الدار، علموا فتياتكم مثل هذا.
قال أبو حازم: كان أهل الجاهلية أحسنَ جواراً منكم، وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:
نـاري ونـارُ الـجـار واحـدة … وإليـه قـبـلـي تنـزل القِـدرُ
ما ضر جار لي أني أجاوره … أن لا يكون لِبابِه سترُ
أعْمَى إذا ما جارتي برزتْ … حتى يُواريَ جارتي الخدرُ
قال مالك: لا بأس بالغناء بمثل هذا.

وقال ابن أبي أويس: كنت أمشي مع مالك، إذا مولاتي تحمل جرة ماء وتقول:

ليتنـي أرض لسلمى … فـتطأني قدماها
ليتني درع لسملى … ترتدينـي مِن وراها
ليتني خادمُ سلمى … قاعد حيث أراها
فقال لي: يا إسماعيل، رَجلٌ أو إمرأة؟
قلت: هي غزالٌ، خادم بني عمارة.
قال: إنها لفصيحة اللمحة حسنة التأدية[22].

وهذا الإمام أحمد بن حنبل روى عنه ولده عبدُ اللَّهِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الْغِنَاءِ، فَقَالَ: «الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، لَا يُعْجِبُنِي»[23].

ثم “روي عنه أنه سمع عند ابنه صالح قَوَّالا (أي مغنيا)، فلم ينكر عليه، فقال له صالح: يا أبتِ، أليس كنت تكره هذا؟ فقال: إنه قيل لي: إنهم يستعملون المنكر”. بمعنى أنه إنما أنكر على المغنين، لما بلغه أنهم يرتكبون المنكر مع غنائهم. فلما رأى وسمع مغنيا بدون منكر سكت عنه ولم ينكر.

وهذا الإمام النووي يحتفي بنوع من الغناء، فيجعل حكمه الندبَ لا مجرد الإباحة، وذلك بالنظر إلى وظائفه وآثاره الإيجابية. قال الشيخ زكريا الأنصاري: “… والحداء، بضم الحاء وكسرها والمد: هو ما يقال خلف الإبل من رجَز وغيره، مباحٌ. بل قال النووي في مناسكه: مندوب، لأخبارٍ صحيحة، ولما فيه من تنشيطها للسير، وتنشيط النفوس، وإيقاظ النُّوَّام.“[24]. شهود لوجو

توظيف الفنون اليوم
مما لا يخفى على أحد أن الفنون في هذا العصر قد تكاثرت وعظم أمرها، وقد ساعدها في ذلك الظهورُ المتسارع للأجهزة والأدوات التكنولوجية، وخاصة منها أجهزة التسجيل والبث بالصوت والصورة. وقد أصبحت الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية والأغاني المصورة، تقاس سرعة اكتساحها ونجاحها بمئات الملايين من المشاهدين، ومئات الملايين من أرباحها المالية، في أزمنة قياسية تعد بالأيام والأسابيع.

وأما توظيفها الفعال لخدمة قيم وأفكار وأخلاق وثقافات وعادات وتصورات تاريخية وأنماط اجتماعية… فقد أصبح  طوفاناً كاسحا، بخيره وشره، ونفعه وضره.

 إن الفنونَ الأكثرَ شعبيةً والأشدَّ تأثيرا، قد أصبحت اليوم بمثابة جيوش غازية للعقول والنفوس والعواطف، بل هي أسرع غزواً وأعمق أثرا من الجيوش المقاتلة المدججة بالأسلحة الفتاكة. ولا أحد يستطيع أن يتردد أو يجادل فيما لهذه الإنتاجات والعروض الفنية بأصنافها المختلفة من تأثيرات بالغة على الأشخاص والأسر والمجتمعات، سواء قلنا: إن بعضها سيئ وبعضها مفيد، أو قلنا: إن أكثرها سيئ وفاسد مفسد، وإن إثمها أكبر من نفعها. ففي جميع الحالات لا بد من التسليم بأن المنتجات الفنية ذات جاذبية ساحرة، وذات تأثير بالغ، قابلٍ لأن يكون نافعا وصالحا مصلحا، مثلما هو قابل لأن يكون ضارا مضللا، وفاسدا مفسدا.

ولكننا للأسف نجد الكثير من علمائنا ودعاتنا – قديما وحديثا – حين يتطرقون إلى هذا الموضوع، يختارون الهروب وإغلاقَ الأبواب ورفع راية التحريم، بدل الاقتحامِ والتنافس، وبدل معركة التنقية والترقية لهذه الفنون. ربما يظن بعضهم أن مواعظهم وفتاويهم ستوقف الزحف الفني وتبطل سحره وتدفع شره. وربما يرى آخرون أنهم يأخذون بالأحوط وبسد الذرائع، ويستبرئون لدينهم، وبعد ذلك: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الإسراء: 15]…

المبحث الثالث
الفنون بين التحسينيات والحاجيات
تقدمَ في مبحث التكييف أن الفنون ينظر فيها وفي حكمها من عدة وجوه وبعدة اعتبارات، وأن عامة تلك الوجوه والاعتبارات تجعل الفنون في مرتبة التحسينيات من السُّلَّم المقاصدي، وتفضي إلى أن الأصل فيها هو الإباحة، وأن الكراهة أو التحريم، إنما يتواردان عليها بسبب أحوال وملابِسات عرضيةٍ لا ذاتية. على أن هذه الأحوالَ والملابساتِ المحظورةَ – مهما سادت وكثرت – يمكن الانفكاك عنها، لمن أراد ذلك وسعى له سعيه، وبذلك تعود الأشياء المباحة إلى حكمها الأصلي.

ولِقائلٍ أن يقول: وفيمَ كل هذا العَناء دفاعا عن أمور تحسينية مختلف في إباحتها؟ وهي لو سُلِّمت إباحتُها لما استحقت كل هذه المجادلة والمجالدة! وكم من حاجة قضيناها بتركها! وتركُ بعض المباحات، فضلا عن المشتبِهات، مسلك قويم سليم…
وهنا أصل إلى بيت القصيد ومجمع المقاصد في هذا البحث، وفي هذه القضية.

  أولا: الفنون واقع لا يرتفع
لقد بَيَّنْتُ فيما سبق أن “الفن حاجة فطرية“، ومعلوم أن ما هو فطري لا يمكن نزعه أو منعه، ولكنْ يمكن توجيهه وتهذيبه وتوظيفه.
ومما هو جدير بالتأمل والاعتبار، ما هو مشهور عن أهل الحجاز، وخاصة منهم أهلَ المدينة، أنهم كانوا أكثر الأمصار الإسلامية تساهلا في الغناء والطرب وتعاطيا لهما، حتى قيل: “كان العلماء قديما وحديثا يُحذرون الناس من مذهب المكيين أصحابِ ابنِ عباس ومن سلك سبيلهم في المتعة والصرف، ويُحذرون الناس من مذهب الكوفيين أصحابِ ابنِ مسعود ومن سلك سبيلهم في النبيذ الشديد، ويُحذرون الناس من مذهب أهل المدينة في الغناء“[25].

وهذه حالهم ليس في العصور المتأخرة، وإنما في العصور الأولى المفضلة، حيث كانوا – بلا خلاف – أقومَ المسلمين إسلاما وأفضلهم تدينا. وقد وردت الإشارة إلى هذا التميز المدني وإقراره في الحديث الشريف: عن عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا زَفَّتِ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لـهـوٌ؟ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ)[26].

ومما ينبغي تقريره وإقراره: أن إقبال الناس على الغناء والطرب، وسائر الأعمال الفنية، هو في أصله ليس نزوعا إلى الفسق والانحلال والمجون، وإنما هو أولا نزوع فطري طبعي سليم. ثم تدخل عليه بعد ذلك عناصر مقوية للإغراء والتشويق، قد يكون فيها ما فيها من مظاهر المجون والانحراف، وهي كثيرة في أجواء الغناء والطرب والرقص والتمثيل.
المهم أن هذه الأسباب كلَّها – حلالَها وحرامَها – تجعل من الفنون ومن النشاط الفني واقعا متجذرا واسع الانتشار. وهذا ما يجعلنا نجزم بأن الفنون والتعبيرات الفنية المختلفة لا يمكن إلغاؤها ولا مواجهتها من أصلها. ولو أمكن هذا مع أفراد أو فئات محدودة، وبشكل محدود، فإنه غير ممكن مع عموم الناس وسوادهم الأعظم.

فنحن بإزاء هذه القضية أمام خيارين ومسلكين:

مسلك الرفض والقولِ بالتحريم، وسدِّ الذرائع، والأخذِ بالأحوط…، وهذا مسلك عريق وضارب في تراثنا الفقهي والوعظي، ولكنه لم يَـحُلَّ المشكلة ولم يَـحُدَّ منها.

مسلك التعامل مع الفنون بالقبول المبدئي، ثم بالتهذيب والتنقية والترقية وتشجيع البدائل. وهذا مسلك مُضنٍ، ولكنه ناجح ومثمر، بقدر ما يتاح له من فرص، ويحظى به من دعم ومساندة.

المسألة بصيغة أخرى هي: هل نَلعن الفنون أو معظمها، ثم نتركها تفشو وتغزو مجتمعاتنا بأوضارها وأضرارها؟ أم نَلِجُ باب المنافسة والتقويم والإصلاح؟
وما أظن أحدا يفكر بعقلانية وواقعية يرفض الفنون البديلة ويُزَهِّد فيها، ويرضى الاستسلام لواقع فني معين، يتسع ولا يرتفع… فمن هذه الزاوية وبهذا الاعتبار، تصبح البدائل الفنية المنقحة والمهذبة أكثر من مباحة، بل مطلوبة شرعا وعقلا.
فهذا عن الفنون في ذاتها وعن حب الناس لها وإقبالهم عليها، سواء اعتبرناها لهوا وترفيها، أو زينة وتحسينا، أو نزعة فطرية جبلية، أو غير ذلك.

أما حين تستعمل الفنون، أو يتأتَّى استعمالها، لأجل أهداف ومقاصد تتجاوز مجرد المتعة والفرجة والتسلية والزينة، إلى بث الأفكار والمعتقدات والقيم والأخلاق والأذواق، وصناعة التاريخ وتوجيه السياسة… فهذا مقام آخر، ولكل مقام مقال.

ثانيا: الفنون حين تكون وسائل، ولها رسائل لا شك أن أكثر الفنون اليوم رواجا واستقطابا للجماهير، هي تلك التي تجمع بين الصوت والصورة، إضافة إلى ما فيها من عناصر فنية وجمالية أخرى، تفعل فعلها في التشويق والتأثير.

ويدخل في هذه الأصناف الفنية: الغناءُ والطرب والرقص والمسرح والسينما والتمثيليات والمسلسلات التلفزيونية، بمختلف موضوعاتها ومجالاتها…  كما أصبحت هذه الأصناف الفنية، تشمل الأفلام العلمية، والمواد التعليمية، والأفلام الوثائقية، وتشمل أشكالا من الفنون الموجهة للأطفال خاصة…
هذا من حيث المجالات والأشكال الفنية، أما من حيث المضامين والمرامي المقاصدية لهذه المنتوجات الفنية، فلا شيء يستثنى من طريقها وتأثيرها، خيرا أو شرا، نفعا أو ضرا، حلوا أو مرا…، سواء بالمضامين والمقاصد الأصلية لكل منتوج، أو بالإشارات والإيحاءات المصاحبة.

ومما أتذكره منذ أكثر من عشرين عاما، أن مغنية ذائعة الصيت، دعيت إلى مهرجان غنائي بالمغرب، واجتمع لها – على الأقل – عشرات الألوف من المتفرجين والمتفرجات، إضافة إلى ملايين المشاهدين على التلفزيون. وفي أوج تأثيرها وتفاعل الناس معها، خاطبت الجمهور بلغتها الفرنسية قائلة: رددوا معي: je suis cotre la polygamie”  “، أي: “أنا ضد تعدد الزوجات“، فردد الناس وراءها ذلك مرارا، بكل حماس، وبكل غباء.

إن بعض الفنون اليوم هي بمثابة الأسلحة؛ غير أنها أسلحة تصلح للقتل وتصلح للإحياء، وتصلح للهدم وتصلح للبناء. فإما أن نتملكها ونتسلح بها ونستعملها، وندافع بها ونبني بها، وإما سنظل فقط من ضحاياها.
وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اهجوا قريشا؛ فإنه أشد عليها من رشقٍ بالنبل»[27].
إن الفنون بهذا الاعتبار تأخذ حكمها بحسب ما تفضي إليه؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون تملكها واستعمالها من المندوبات والمستحبات، ويمكن أن يكون من الواجبات الكفائية. ومعلوم أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها. قال الإمام عز الدين بن عبد السلام “وللوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، ثم تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد”[28].

والوسائل تعظم مكانتها وفضلها بقدر المصالح التي تفضي إليها. فكما أن (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)[29]، فكذلك الوسيلة القوية خير وأحب إلى الله. قال ابن عبد السلام أيضا: “وكلما قويتِ الوسيلة في الأداء إلى المصلحة، كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها، فتبليغ رسالات الله من أفضل الوسائل، لأدائه إلى جلب كل صلاح دعت إليه الرسل، وإلى درء كل فاسد زجرت عنه الرسل”[30].

فكل ما كان أقوى وأبلغَ وأوسع في توضيح رسالة الإسلام، وخدمة قيمها ومقاصدها، فهو مطلوب شرعا، وأعظم أجرا.
وهنا يَرِدُ اعتراضٌ شهير، هو من المبتكرات العصرية في الديار النجدية..، وهو قول بعض الشيوخ: إن وسائل الدعوة تعبدية توقيفية.

ثالثا: وسائل الدعوة، توقيفية أم توفيقية؟
حين يقال لدعاة التحريم: إن الغناء والإنشاد، وكذلك الأعمال المسرحية والسينمائية تخدم الإسلام والدعوة الإسلامية وقضايا المسلمين… يردُّون بأن الدعوة ووسائلها توقيفية تعبدية لا اجتهاد فيها ولا ابتكار. وهذه الفنونُ ذاتُ الأغراض الدينية والمرامي الدعوية، تعتبر ضربا من العبادة، وإذا كانت كذلك فهي بدعة؛ لأن العبادات، ومنها الدعوة إلى الله ووسائلُها، هي أمور توقيفية، وكل شيء يُستحدث فيها فهو بدعة لا تجوز.

يقول الشيخ بكر أبو زيد عن التمثيل: “أمَّا أنه وسيلة دينية لإظهار مجد الإسلام، فإن ما يؤدي إلى خدمة الدين مطلوب، لكن بشرط عدم الإحداث والابتداع {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]. والدعوة إلى الله توقيفية في وسيلتها وغايتها. والوسيلة لا تبررها الغاية، وهذه وسيلة تعبدية محدثة، فسبيلها الرد ابتداء“[31].

وقد ألف الشيخ الدكتور عبد السلام بن برجس العبد الكريم كتابا خاصا لإثبات هذه الدعوى والرد على من لا يعتقدونها، سماه (الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية). ومدار الكتاب على ما لخصه في خاتمته بقوله: “وسائل الدعوة إلى الله تعالى توقيفية، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يزيد فيها شيئا لم يكن عليه عمل رسول الله وصحابته الكرام. والحجة في ذلك عموم الأدلة التي نصت على إكمال الدين وبيان كل شيء يقرب إلى الجنة ويباعد من النار، وعموم ُالأدلة المحذِّرة من المحدثات في الدين، والآمرة بلزوم الأمر العتيق”[32].

والمشكلة عند هؤلاء الإخوة “التوقيفيين” هي أنهم:
يخلطون أولا بين المقاصد والوسائل،
ويخلطون ثانيا بين العبادات والعادات،
ويخلطون ثالثا بين العبادة وقصد التعبد والثواب،
ويخلطون رابعا بين البدع والمصالح المرسلة[33].

فالمقاصد ما كان مطلوبا – أو ما طلبه الشرع-  لذاته أو بذاته. فهو مقصود بعينه أو بهيئته المعينة. وعلى هذا فجميع العبادات، وجميع تفاصيلها التي هي جزء منها، هي مقاصد. ولا خلاف في أنها محصورة بنصوص الشرع.

وأما الوسائل، فكل ما يستعمل لتحصيل غيره والمساعدةِ عليه. وهذه الوسائل، سواء تعلقت بالعبادات أو بالعادات أو بالمعاملات، منها ما وقع استعماله في العصر النبوي، ومنها ما لم يُستعمل أو لم يظهر إلا في عصور لاحقة. والوسائل لا تتوقف عن التغير والتطور، وإن كان ذلك في باب العبادات أقلَّ بكثير مما هو في أبواب العادات والمعاملات.

ونحن اليوم نستعمل في طهاراتنا وصلواتنا وحجنا وعمرتنا، وسائلَ مستحدثة لا حصر لها. وأما في عاداتنا ومعاملاتنا، أي في غير العبادات، ففي كل يوم جديد منها.
وما يُعتبر”عبادة” أو “عبادات” في الاصطلاح الشرعي، معلوم محصور عند العلماء، وأيُّ نظرة في فهارس كتب الحديث أو كتب الفقه تبن لك المراد بالعبادات. ولأهميتها نجدها في صدارة المصنفات الحديثية والفقهية، وفي صدارة الفرائض العينية. وأبرز تلك العبادات: الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والعمرة. فهذه هي العبادات المحددة، التي تعتبر توقيفية في أصلها وتفاصيلها. شهود لوجو

ومن العبادات التي لم  يجعل لها الشرع هيئات وصفات محددة: ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن الكريم.
فذكرُ الله جائز ممكن على جميع الأحوال والهيئات، وفي جميع الأوقات، وبجميع اللغات. وقد قال الله جل جلاله:  {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُم} [النساء: 103]،
وقال سبحانه {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]،
ومع ذلك فهذه الحالات المذكورة ليست حصرا، بل يجوز – ويجب – ذكر الله في حالات غيرها؛ فنحن نذكر الله ركوعا وسجودا، وأثناء الرفع من الركوع ومن السجود، ويجوز الذكر مشيا وجريا وسباحة، وفي أثناء أعمالنا وأكلِنا وشربنا…

ولو قرأ قارئ القرآن من حفظه، أو قرأ من مصحفه، أو من أوراق كتبها بيده، أو قرأ من حاسوبه، أو من هاتفه المحمول، أو جلس إلى قارئ واستمع إليه، أو استمع إلى مذياع أو تلفاز، أو قراءة صوتية مسجلة بأي وسيلة، أو قرأ سرا أو جهرا… فكل ذلك جائز مقبول، وكله عبادة صحيحة.
على أن توقيفية العبادات في جملتها وتفاصيلها، لم يمنع العلماءَ من تعقل كثير من أحكامها التفصيلية، ولم يمنعهم من تعليلها والقياس عليها، ولو في حدود أضيق مما في سواها. قال ابن العربي: “ونطاق القياس فِي العِبَادَات ضيق، وَإِنَّمَا ميدانه المُعَامَلَات والمناكحات وَسَائِر أَحْكَام الشرعيات. والعبادات مَوْقُوفَة على النَّص”[34].

وأما وسائل العادات والمعاملات، والأعمال الصالحات من غير “العبادات”، فالمجال فيها أكثر رحابة ومرونة، والإباحة فيها أصل مكين، والابتكار فيها مستحسن محمود. ومن أحدث فيها سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ومعلوم أن كل المباحات، من العادات والمعاملات الدنيوية، يمكن أن يدخلها قصد التعبد والإحسانِ وعملِ الصالحات، فتكون بذلك قُربة وطاعة لله تعالى. ولكنَّ ذلك لا يُدخلها في “العبادات” التوقيفية، ولا يعطيها حكمها. ولذلك فأجناسها ووسائلها وكيفياتها تظل مرسلة طليقة، والوسائل النافعة المستحدثة في هذه المجالات تدخل في باب المصالح المرسلة، لا في باب البدع المحرمة. قال الشاطبي: “العلماء وإن تفاوتوا، هم محافظون جميعا في العبادات على الاتباع لنصوصها ومنقولاتها، بخلاف غيرها من العادات، فإنهم قد اتبعوا فيها المعاني، حتى قال مالك فيها بالمصالح المرسلة والاستحسان”[35].

وقال أيضا: “فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات، لأن البدع من باب المقاصد لا من باب الوسائل، لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف، وهو مضاد للتخفيف”[36].
فالقول بالتوقيف والتحجير في وسائل الدعوة الإسلامية، ووسائل نشر الإسلام، ونشرِ الثقافة الإسلامية والقيم الإسلامية، وفي وسائل خدمةِ قضايا الحق والعدل والفضيلة ونشر الخير والصلاح والفلاح… هو قول في منتهى التكلف والتهافت والتضييق. وأما أضراره على الآخذين به والمتأثرين بتشويشه، فلا يحصيها إلا الله.

وهذا نموذج من الآثار الـرديئة للقول بالتوقيف والتحجير في وسائل الدعوة: منذ أزيد من أربعين عاما، كنت أجلس مع أحد الدعاة التبليغيين البارزين(من الأردن)، وذلك بمسجد الفتح (مقر جماعة التبليغ بمدينة القصر الكبير) ، وأثناء المذاكرة تناولتُ مجلة إسلامية كانت معي لأطلعه على شيء فيها، فنزعها مني وطرحها بجانبه، قائلا: الإسلام لم ينتشر بالمجلات، وإنما انتشر بالخروج في سبيل الله والدعوة المباشرة إلى الله. فنازعته وجادلته فيما قال… وتمسك كل منا بما يفهمه وبما يراه.

الخاتمة

في ختام هذه الورقة، أتوجه بالدعوة والتوصية إلى السادة العلماء والفقهاء والمفكرين الإسلاميين:

لمزيد من تعميق النظر والدراسة لمختلف الفنون، ومزيد من تقدير رسالتها وآثارها.

مواكبة الجهود والمبادرات الفنية البناءة، بالتشجيع والدعم المعنوي لها ولأصحابها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: يا أهل الدار، علموا فتياتكم مثل هذا..

مواكبة الأعمال الفنية الإسلامية بالتوجيه والترشيد والإفتاء المعتدل المتوازن؛

التنبيه على المفاسد والمحرمات التي لا تجوز بحال، لرفضها والابتعاد عنها، مهما كانت الدواعي والمكاسب المزعومة فيها.

5. رفع الحرج عن الناس بإبطال التحريمات المبنية على المغالاة والتشدد والتكلف والتهويل.

إعمال الرخص الموافقة لقواعد الشرع ومقاصده، والموازنة بين المصالح والمفاسد، والعمل بقاعدة: “إنما العلمُ الرخصةُ من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد”[37].

الموازنة والتوازن بين قاعدة سد الذرائع، وقاعدة وفتح الذرائع، وتحاشي الوقوع في إعمال الأولى وتعطيل الثانية، كما هي عادة كثير من الفقهاء. فليس السد بأولى من الفتح، إلا بعد رجحان كفة المفاسد على كفة المصالح.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قائمة المصادر والمراجع:

إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، طبعة صبيح بالقاهرة ، 1375/1965.

أسنى المطالب في شرح روض الطالب، لكريا الأنصاري،تحقيق : د. محمد تامر،نشر دار الكتب العلمية ببيروت،الطبعة الأولى : 1422 ه / 2000

الاعتصام،أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق محمد الشقير، وسعد آل حميد، وهشام الصيني – نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية – الطبعة الأولى، 1429هـ / 2008م.

الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، علي بن محمد بن العباس (المتوفى: نحو 400هـ)، الناشر: المكتبة العنصرية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1424 هـ

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبو بكر الخلال الحنبلي،تحقيق: الدكتور يحيى مراد،ناشر دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1424 هـ /2003م.

تأثير الفن على الأسرة، إبراهيم هلال، مقال منشور بمجلة التوحيد، عدد جمادى الأولى 1400، نقلا عن شبكة الألوكة.

تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون، نشر إحياء التراث.

تحقيق الأرب بإنصاف ابن حزم في مسألة الغناء والموسيقى وآلات الطرب، الزبير دحان، نشر دار الأمان بالرباط، الطبعة الأولى 2012.

تراث الإسلام في الفنون الفرعية والتصوير والعمارة، كريستي أرنولد بريجس، ترجمة زكي حسن، ط1/1984، نشر وتوزيع دار الكتاب العربي بدمشق، ومكتبة السائح بطرابلس لبنان.

ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، أبو لفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق عبد القادر الصحراوي، الطبعة الثانية 1403هـ/1983م،  نشر وزارة الأوقاف المغربية.

التمثيل، بكر أبو زيد، نشر دار الراية للنشر والتوزيع بالرياض، الطبعة الأولى 1411هـ.

جامع بيان العلم وفضله، ابن عبد البر النمري القرطبي-تحقيق فواز زمرلي – نشر مؤسسة الريان ودار ابن حزم-الطبعة الأولى 1424/2003 هـ.

الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية، عبد السلام بن برجس العبد الكريم، نشر دار المنهاج، بدون تاريخ.

عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، – طبعة دار الفكر، بدون تاريخ.

قواعد الأحكام في مصالح الأنام، أبو محمد عز الدين بن عبد السلام، الملقب بسلطان العلماء، تحقيق: محمود بن التلاميد الشنقيطي، الناشر : دار المعارف بيروت – لبنان

المحصول في أصول الفقه – أبو بكر بن العربي المعافري، تحقيق حسين علي اليدري وسعيد فودة – نشر دار البيارق بعمان- الطبعة: الأولى، 1420هـ – 1999.

معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، المجموعة الطباعية للنشر والتوزيع، لبنان.

مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر ابن عاشور- تحقيق محمد الطاهر الميساوي – نشر المركز المغاربي للبحوث والترجمة – الطبعة الأولى: 2004م/1425هـ .

منهج الفن الإسلامي، محمد قطب، الطبعة السادسة لدار الشروق، 1403/1983.

الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الناشر : دار المعرفة – بيروت، تحقيق : عبد الله دراز

نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين النُّـوَيْري، نشر دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، الطبعة الأولى، 1423ـ

[1] – مقاصد الشريعة الإسلامية، ص153- تحقيق محمد الطاهر الميساوي – نشر المركز المغاربي للبحوث والترجمة – الطبعة الأولى: 2004م/1425هـ .
[2] – من كتاب الجهاد والسير.
[3] – من كتاب النكاح.
[4] – الإمتاع والمؤانسة: عنوان كتاب أدبي لأبي حيان التوحيدي.
[5] – انظر القاعدة رقم 339 بمعلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية، المجلد 8، ص 375.
[6] – إحياء علوم الدين2/283.
([7]) الموافقات1/ 98.
[8] – الموافقات 1/ 209.
[9] – تاريخ ابن خلدون1/ 401 – نشر إحياء التراث.
[10] – منهج الفن الإسلامي ص6 – الطبعة السادسة لدار الشروق- 1403/1983.
[11] – التمثيل ص 45- للشيخ بكر أبو زيد – نشر دار الراية للنشر والتوزيع بالرياض – الطبعة الأولى 1411هـ.
[12] – التمثيل ص 57.
[13] – المقال منشور بمجلة التوحيد – عدد جمادى الأولى 1400، نقلا عن شبكة الألوكة.
[14] – تحقيق الأرب بإنصاف ابن حزم في مسألة الغناء والموسيقى وآلات الطرب، ص13- نشر دار الأمان بالرباط – الطبعة الأولى 2012.
[15] – لشهاب الدين النُّـوَيْري – المتوفى: 733هـ – كتاب سماه (نهاية الأرب في فنون الأدب).
[16] – عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، المجلد 3 الجزء 5، ص199 – طبعة دار الفكر، بدون تاريخ.
[17] – إحياء علوم الدين 2/245،246 – طبعة صبيح بالقاهرة – 1375/1965.
[18] – نهاية الأرب في فنون الأدب 1/25 – نشر دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة – الطبعة الأولى، 1423ـ
[19] – تراث الإسلام في الفنون الفرعية والتصوير والعمارة ص5 – تأليف كريستي أرنولد بريجس، ترجمة زكي حسن- ط1/1984- نشر وتوزيع دار الكتاب العربي بدمشق، ومكتبة السائح بطرابلس لبنان.
[20] – تراث الإسلام في الفنون الفرعية والتصوير والعمارة ص6.
[21] – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر الخلال الحنبلي (المتوفى: 311هـ)، ص65 – تحقيق: الدكتور يحيى مراد – ناشر دار الكتب العلمية، بيروت – الطبعة الأولى، 1424 هـ / 2003م.
[22] – ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك ج2- ص: 140/ 141- تحقيق عبد القادر الصحراوي – الطبعة الثانية 1403هـ/1983م –  نشر وزارة الأوقاف المغربية.
[23] – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للخلال ص: 65 .
[24] – أسنى المطالب في شرح روض الطالب، لزكريا الأنصاري 4/ 344 – تحقيق : د. محمد تامر – نشر دار الكتب العلمية ببيروت – الطبعة الأولى : 1422 ه / 2000
[25] – التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر10/ 115- تحقيق : مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري – نشر وزارة الأوقاف المغربية.
[26] – صحيح البخاري، باب النسوة اللاتي يُهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة.
[27] – صحيح مسلم، باب فضائل حسان بن ثابت.
[28] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 46)
[29] – صحيح مسلم، باب في الأمر بالقوة وتركِ العجز.
[30] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 104)
[31] – التمثيل، ص 50
[32] – الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية، ص 116 – نشر دار المنهاج، بدون تاريخ.
[33] – من أجود ما يُقرأ في هذا الموضوع: البابُ الثامن من كتاب الاعتصام للشاطبي (في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان).
[34] – المحصول في أصول الفقه ص 95 – تحقيق حسين علي اليدري وسعيد فودة – نشر دار البيارق بعمان – الطبعة: الأولى، 1420هـ – 1999
[35] – الاعتصام2/ 72 – تحقيق محمد الشقير، وسعد آل حميد، وهشام الصيني – نشر دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية – الطبعة الأولى، 1429هـ / 2008م.
[36] – الاعتصام للشاطبي 3/ 43.
[37] – جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر النمري القرطبي 2/ 77 – تحقيق فواز زمرلي – نشر مؤسسة الريان ودار ابن حزم – الطبعة الأولى 1424/2003 هـ.

اترك تعليق