المشروع الإسلامي بين سنن المدافعة وتحولات العالم: مراجعةُ وعيٍ وبعثٌ جديد

بقلم الأستاذ محمد حمدي(*)

في عالمٍ يمور بالتحولات العميقة، ويتخبط في أزماته القيمية والثقافية، تُطلّ الأمة الإسلامية من نافذة التاريخ من جديد؛ ليست تلك الإطلالة عاطفية ولا رجعية، بل تعبير عن حاجة إنسانية وكونية ملحّة؛ فالعالم بأسره يُراجع نماذجه الحاكمة، وتتهاوى أمامه فلسفات حكم وأنماط حضارة، ويقف الناس على حافة الفراغ الروحي والضياع القيمي، باحثين عن بديل يليق بالإنسان معنىً وغايةً وكرامة.

وهنا، يظهر المشروع الإسلامي الراشد كطوق نجاة، لا للأمة وحدها، بل للبشرية كلها. مشروع يتجاوز الشعارات، ويستند إلى وحي رباني ومنهج حضاري قادر على التوازن بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والضوابط، بين القوة والرحمة، لكن هذا المشروع – بطبيعته – ليس مقبولًا عند قوى الاستكبار التي قامت على استعباد الإنسان واحتكار ثرواته.

الخصم الحقيقي: الاستعمار ووكلاؤه

الصراع الحقيقي لم يكن يومًا مع الشعوب، بل مع منظومات الاستبداد المتحالفة مع الاستعمار الغربي، والتي تُمثل امتدادًا وظيفيًا له داخل منطقتنا. هؤلاء الحكام هم الخصم الأصيل في معركة الهوية والعقيدة، وهم الحاجز الأول أمام تحرر الشعوب وعودة الأمة لدينها ورسالتها.

ولذا، فإن غايتنا ليست مجرد منازعة حكم، بل تحرير الشعوب من العبودية لغير الله، وإخراجها من ظلمات الاستبداد والتبعية إلى نور العدل والكرامة تحت راية التوحيد، وهنا تبرز إحدى أعظم السنن التي تحكم هذا الصراع: سنة المدافعة.

سنة المدافعة… وقانون الإمداد الرباني

إن الله عز وجل لا يترك التغيير للصدف أو الفلتات، بل يُجريه وفق سنن ثابتة لا تتبدل. وعلى رأس هذه السنن: سنة المدافعة التي تقتضي وجود صراع بين الحق والباطل، بين أهل الإيمان والطغيان، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾.

ولكن الله، وهو الذي كتب سنة المدافعة، قد سنّ معها سنة أخرى موازية: سنة الإمداد والتثبيت، حين تشتد المعركة، وتُظلم الأرض، وتنقطع الأسباب، ويتعرض المؤمنون للخذلان. في تلك اللحظات تتنزل معية الله، ويثبت الذين آمنوا، ويُمدّون من السماء بعونٍ ليس في حسبان البشر: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾… إن فهم هذه السنن والتعامل معها بإيمان وعقل هو مفتاح النصر وطريق التمكين.

الثورة: لحظة وعي لا فورة غضب

لقد شهدت الأمة في العقد الأخير موجة من الثورات التي أعادت فتح ملفات الهوية، والشرعية، والاستبداد، والتبعية. هذه الحالة الثورية ليست خروجًا عن القانون الإلهي، بل دلالة ربانية على أن التغيير الحقيقي لا يكون إلا جذريًا وعميقًا، لا عبر إصلاحات تجميلية ولا مساومات مع أنظمة مستبدة.

لكن يجب أن نُفرّق دائمًا بين الحالة الثورية من حيث كونها تعبيرًا عن الرفض والفطرة، وبين القوى المشاركة فيها، والتي تتفاوت في مرجعياتها وأهدافها. وواجب الإسلاميين أن يكونوا فيها صوت الوعي، لا رد الفعل، وروحًا أخلاقية، لا مجرد طرف صاخب في مشهد فوضوي.

الحركة الإسلامية… والحاجة إلى المراجعة

في خضم هذه الأحداث، تراجعت الحركة الإسلامية – بشقيها الإصلاحي والجهادي – إلى واحدة من أضعف مراحلها التاريخية. فقد كشفت التجربة عن قصور عميق في التصورات، وارتباك في الأولويات، وضعف في استيعاب السنن الربانية وسُنن التغيير.

ولم تكن المشكلة في الإخلاص ولا في الجهد، بل في الحاجة إلى مراجعة جذرية تبدأ من المنطلقات الفكرية والشرعية لمنهج التغيير. كيف نفهم الواقع؟ كيف نبني مشروعًا إسلاميًا شاملًا؟ ما العلاقة بين الدعوة والسياسة؟ بين الجماعة والأمة؟ بين النص والواقع؟

الأنظمة الاستبدادية، من جهتها، لا تقبل بأي حلول وسط مع الإسلاميين، مهما خففوا من خطابهم، أو قدّموا تنازلات تنظيمية. فهي تدرك أن المشروع الإسلامي، حين يُبعث صادقًا، يُهدد وجودها من الجذر، فيُعلن الحرب عليه: تنكيلًا، واغتيالًا، وتشريدًا، وتشويهًا.

من الفرد الأمة إلى الأمة الواعية

لكن الأمل لا يموت، فالأمة لطالما تجاوزت لحظات الانكسار، وخرجت منها أكثر وعيًا. وقد كانت اليقظة الحقيقية للأمة دائمًا مرهونة بمدى ارتباطها بالدين، وحسن صلتها بالله، واستيعابها لسنة المدافعة ومركزية الإيمان في الصراع.

وفي كل نهضة، يبرز نموذج “الفرد الأمة”؛ الإنسان الذي يعي رسالته، ويتجاوز انتماءه الضيق، ويتحول إلى شعلة وعي ومصدر إلهام. هو الذي يُحيي في الناس العزائم، ويبعث فيهم الأمل، ويُذكرهم بالله، ويُمهّد الطريق لجيل النصر.

خلاصة الطريق

في هذه اللحظة المفصلية من عمر الأمة، نحتاج إلى خطاب جديد، يتجدد فيه الوعي السنني، والوضوح السياسي، والصدق مع الله. خطابٌ لا يتعلق بالأنظمة، بل يتوجه للشعوب. لا يراهن على المصالحات، بل يُراهن على العودة إلى المنهج. لا يتكئ على التنظيمات، بل يُؤسس على بناء الأمة. مشروعٌ يعيد الإسلام إلى موقعه: قائدًا للحضارة، ومرجعًا للحرية، وبوصلةً للكرامة.

لقد آن أوان البعث الجديد. آن أوان المشروع الإسلامي الراشد.


(*) داعية وكاتب مصري.

اترك تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.